المسرحُ اليمني: قرعٌ على الباب

2020-04-16

أحمد الأغبري:

لم تضف الدورة الثانية للمهرجان الوطني للمسرح في اليمن، التي استضافتها مدينة المكلا (شرق) مؤخراً، أي جديد للمشهد المسرحي هناك باستثناء كونه حراكاً مؤقتاً يعود بعده المسرحُ اليمني للبياتِ، تحت أزيز الرصاص؛ فالحربُ أسدلت الستارَ على أي نشاط يمكنُ الاعتداد به لإعادة الاعتبار لأبي الفنون هناك.

بعد أكثر من مئة سنة على بدايته الحقيقية، مازال هذا المسرح عبارة عن تاريخ من النهوض والتعثر؛ لدرجة يختلف مؤرخون في منح صفة (حركة) على تجربة المسرح اليمني العريق، حيث يرى البعض أن ما قدمته المئة سنة ونيف من عمر هذا المسرح، لم تتجاوز (الإرهاصات) التي تأخرت معها ولادة مسرح حقيقي، بسبب غياب التخطيط الحقيقي لتفعيله من قبل وزارة الثقافة، نزولاً منها عند رغبة القرار السياسي بتغييبه، خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة.

وهو حكم قد يكون قاسياً، وربما لا يتقبله البعض، الذين سيشيرون إلى عددٍ من المسارح والمسرحيين، وتاريخٍ من الفِرَقِ والعروض في مختلف أرجاء البلاد.. وهنا نقول إن كل ذلك لم ينتظم في مسار يمكن، من خلاله الحديث عن مسرح مكتمل الهُوية، باعتباره حركة حقيقية، وتتحمل هنا الدولة ـ بلا شك – خلال الفترة الماضية، وتحديداً في العقود الأخيرة، مسؤولية هذا التدهور، باعتبارها تجاهلت المسرح كثقافة وفنان، ودار عرض ومعهد تأهيل، وبرنامج منتظم منبعث من استراتيجية واعية بدور هذا الفن. على الرغم من استحداث وزارة الثقافة قطاعا خاصا بالمسرح والفنون الشعبية، إلا أنه لم يكن أكثر من واجهة ديكورية، تقتصر على تسجيل الحضور المناسباتي في اليوم العالمي للمسرح، وحتى هذا الاحتفاء المناسباتي لم يعد موجوداً خلال الحرب.

كانت عدن، قبل الحرب، تشهد بين الفترة والأخرى حراكاً مسرحياً، تتجاوز به أي مدينة يمنية أخرى؛ وهو حراك كانت تقف خلفه في الغالب مبادرات ذاتية، تحاول أن تُعيد الاعتبار للمسرح في البلد، متحدية كثيراً من المعوقات. وعلى الرغم من قسوة تلك المعوقات كانت مبادرات مسرح الشباب، قبل الحرب، متواترة في عدن وتقدم أعمالاً نوعية، مقارنة بما كان يقدمه مسرح الحكومة المناسباتي؛ لكن تلك المبادرات والمحاولات بقيت عاجزة، بسبب محدوديتها، عن تحريك الدماء في أوردة الحياة المسرحية، التي أُصيبت بالموت السريري منذ عقدين ونصف العقد في عموم البلاد، جراء إهمال وتجاهل الحكومة لهذا الفن ومعظم الفنون؛ ما تسبب في خسارة المسرح أبرز مقوماته وعناصر عمله، بما فيها مكانته في الوعي الاجتماعي. لتأتي سنوات الحرب الخمس كأنها تضع ملحا على جرح هذا الفن.

  تاريخ الحضور الحديث للمسرح بمعناه الحقيقي في اليمن يعود إلى أوائل القرن العشرين حيث احتضنت عدن أول عرض مسرحي حديث في اليمن عام 1904 على يد فرقة هندية

من نافلة القول إن تاريخ الحضور الحديث للمسرح بمعناه الحقيقي في اليمن يعود إلى أوائل القرن العشرين، حيث احتضنت عدن أول عرض مسرحي حديث في اليمن عام 1904 على يد فرقة هندية، بينما شهدت المدينة أول عرض مسرحي يمني عام 1910 بعنوان «يوليوس قيصر»، وهو العام الذي تشكلت فيه أول فرقة تمثيل يمنية من طلبة المدارس، ومثّل تأسيسها من طلبة المدارس بداية لمرحلة مهمة شهد خلالها المسرح اليمني انطلاقة تبلورت كثيراً في الخمسينيات والستينيات، واتسعت وتطورت في عقدي السبعينيات والثمانينيات، حيث انتشرت الفرق وتعددت الخشبات وتزايدت أعداد الكوادر المسرحية، وارتفعت مؤشرات العرض والجمهور، على الرغم من العراقيل والمعوقات التي ظل بسببها العمل المسرحي في حالة مدّ وجزر، لكن العراقيل التي تعرض لها المسرح اليمني منذ عقد التسعينيات، عقب إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، كانت أقوى من إمكاناته على مواجهتها، فدخل بسببها مرحلة من الجمود والنكوص مازالت مستمرة إلى الآن.

المسرحُ المدرسي

استطاع المسرح المدرسي أن يُسهم بوضوح في التأسيس للمسرح اليمني عند ظهوره في بدايات القرن العشرين، خاصة في العشرينيات، ليشهد في الثلاثينيات مرحلة جديدة من خلال مسرح الهواة، والفرق الأهلية في عدن، وهي المرحلة التي واكبها في شمال اليمن بداية مسرحية متأخرة، من خلال ما كانت تقدمه المدارس والكتاتيب من تمثيليات وفق الكاتب المسرحي اليمني الراحل مُحمد الشرفي، في حديث نشره كاتب السطور في حينه، ليشهد المسرح اليمني في عدن خلال الخمسينيات والستينيات حضوراً مختلفاً وفاعلاً.

وعلى الرغم من ذلك بقي المسرحُ اليمني حتى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين عبارة عن محاولات غير مكتملة تقاوم التعثر، لتمثل الستينيات بداية جديدة، خاصة عقب قيام الثورة في الشمال وفي الجنوب، لتبدأ مرحلة (المسرح التلفزيوني) ضمن برامج تلفزيون عدن (انطلق عام 1964)، ومنذ تلك الفترة تأسست فرق مسرحية في محافظات الجنوب، فيما تأسست أول فرقة في صنعاء عام 1969، من خلال عددٍ من الهواة، وهي فرقة مصنع الغزل والنسيج، عقب ذلك أسهم ما عُرف بـ(المسرح العسكري والجامعي) في تعزيز حضور العمل المسرحي، من خلال ولادة ما عُرف بالمسرح الحكومي، فتشكلت فرقة وطنية للمسرح في عدن ومثلها في صنعاء عام 1976، ليشهد المسرح نشاطاً ملحوظاً في الثمانينيات، فانتشر الكثير من الفرق في المحافظات، وشهد المسرح حينها نشاطاً متواصلاً في تلك المرحلة، التي يطلق عليها المسرحيون اليمنيون (المرحلة الذهبية)، لأن مسرحهم دخل عقب إعادة تحقيق الوحدة في أزمة تغييب مع غيره من الفنون، فبدأ يتراجع ويفقد تدريجياً بعض مقوماته.

الإشكالية

لا يعني ذلك أن المسرح اليمني كان يلقى دعماً حكومياً خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لكن عزيمة وإصرار المسرحيين اليمنيين على إثبات حضور المسرح، وتحقيق الحُلم المسرحي، كانت أكبر من العراقيل التي كانت سياسة الشطرين تضعها أمامهم؛ وهي عراقيل لم تكن تُغلق الأبواب في الأخير، بل كانت تترك المضمار مشرعاً، وكلٌ وإمكاناته وفق حدود المتاح حسب أحدهم… فيما كان الوضع عقب إعادة تحقيق الوحدة اليمنية مختلفاً؛ لأن العراقيل التي وضعتها السلطات، كانت أكبر من طموحات المسرحيين، حيث قوبل المسرح (بخوف سياسي ومن ثم بخوف ديني)، فأُخرج المسرح من المدارس والجامعات؛ وبالتالي فقدَ المسرح أهم وريدين لرفده بالدماء الجديدة، وأصبح المسرح يعتمد على طاقات ما قبل الوحدة، وهي طاقات واجهتها عراقيل عديدة، أحبطتها لاسيما مع وصول الوضع في وزارة الثقافة إلى مستوى اللامبالاة اللامحدودة، تجاوباً مع رغبة صانع القرار السياسي؛ فكان التهميش الذي أغلق على إثره كثير من دور العرض، وتلاشى عديد من الفرق، وانكسرت تلك الروح الحماسية التي كانت تجمع معظم المسرحيين اليمنيين؛ فنال منهم الإحباط في مواجهة الإهمال.

وفي عتمة تلك المرحلة عادت المبادرات الفردية لمسرح الشباب في عدن، خاصة مع بداية الألفية الثالثة، في محاولات لتجاوز المألوف من العمل المسرحي المغيب حكومياً، فكانت هذه المبادرات الذاتية تتكفل بتكاليف العمل المسرحي، وتقدم أعمالا يعود معها الجمهور للمسرح، مساهماً في التمويل من خلال التذاكر، بعد أن كانت علاقة الجمهـور بالمسرح قد تراجعت كثيراً. ونتيجة لذلك توالت التجارب التي استأنف معها المسرح اليمني بعضاً من حضوره القديم في هذه المدينة… ففي عدن كانت الولادة الحقيقية لهذا المسرح، وفيها ظل هذا المسرح يحاول النهــــوض مجدداً ليسجل في كل عمل ولادة جديدة من رحم التعثر الذي لا نعرف كم سيستمر، جراء هذه الحرب القذرة التي تدخل عامها السادس هناك.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي