"المقدس والمسرح في العراق القديم" لماجد الأميري: نصوص درامية من بلاد الرافدين تعود إلى 3000 عام قبل الميلاد!

2020-02-13

تشهد مجموعة من الألواح الطينية، التي عثر عليها باحثون مختصون في العراق، على أن بلاد الرافدين كانت فضاء لنشاط مسرحي منذ حوالي ثلاثة آلاف عام قبل ميلاد المسيح. فقد عُدّتْ تلك الألواح طريقة مثلى لتدوين النصوص المسرحية، وبالتالي توثيقها والحفاظ عليها مع تعاقب الأزمنة.

ومساهمة في إبراز ما يحبل به ذلك المسرح الموغل في القدم، من قيم إبداعية وجمالية وفكرية واجتماعية وغيرها، أصدر الباحث العراقي ماجد الأميري، حديثا، كتابا موسوما بـ«المقدس والمسرح في العراق القديم: نصوص من الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد»، عن مؤسسة ديار للنشر والتوزيع في الجمهورية التونسية، حيث نقل إلى العربية سبعة نصوص، وقام بتحليلها تحليلا يستحضر البعد التاريخي والسوسيوثقافي، وأيضا البعد الجمالي، مبينا الارتباط الوثيق لتلك النصوص بالجانب الديني، وساعيا كذلك إلى «تصويب المسار الحقيقي للبويطيقا المسرحية العربية، كما انبثقت من سومر وأكاد وبابل وآشور، لا كما عززتها توهّمات النظرية المسرحية المترسخة عن المركزية الغربية»، كما يقول الباحث نفسه في المقدمة.

على صعيد آخر، يحرص ماجد الأميري ـ في مؤلفه هذا ـ على استثمار المعطيات الجديدة المتمخضة عن العلوم الإنسانية المعاصرة، في دراسة البنى والأشكال الدرامية في هيئتها البدئية وتطورها، وصولا إلى الشكل المسرحي شبه الكامل. كما يقوم بدراسة ومقارنة الخطابات الفردية (الشخصيات) والجماعية (الجوقة أو نصف الجوقة) على غرار جوقة المآسي الإغريقية اللاحقة، وهي تتحدث وترتل وتغني وتمثل العمل وتفسره، وتصف المكان ولعب الممثلين، وتعكس صوت الحس السليم على الضمير الجماعي، بوصفها نماذج كلاسيكية أصلية ذات أهمية مرجعية مرموقة للبنى الدرامية والأشكال المسرحية المنبثقة بعدها.

في هذا الصدد، يقوم الكتاب على البحث عن العناصر الأساسية التي تدخل، بطريقة أو أخرى، في تشكيل مفهوم «المتخيل الدرامي» في بلاد الرافدين القديمة. والاستفسار عما إذا كانت العناصر الثقافية المتنوعة قادرة على إعطاء أي خطاطة تصلح أن تكون بمثابة تصميم متناغم لهذا المتخيل. ويتطرق المؤلف إلى ثلاثة مواضيع تؤمّن الخلفية الأساسية للمتن: الحضارة والدين والحكومة، للتنقيب عن الكيفية التي يمكن أن يؤثّر كل عامل من تلك العوامل المتراكبة على فكرة «المتخيل» الديني والاجتماعي الذي ابتكره أهل الرافدين في بداية التاريخ. ذلك أن الحضارة الرافدينية تعود إلى عصور ما قبل التاريخ البعيدة، ولكنها أرخت لـ3000 عام قبل الميلاد، لتبقى قوة فاعلة ومؤثرة حتى الأدوار الهلينستية. كما أن السومريين، وإن لم يكونوا وحدهم بناة حضارة بلاد الرافدين، لكنهم امتلكوا فيها الثقل الأهم في جميع الجوانب الثقافية. واتسم الدين السومري بخصائص فريدة تبرز في مقدمتها «أنسنة الآلهة» (من خلال إلصاق صفات البشر الروحية والمادية بالآلهة) و«تماثل هويتها مع قوى الطبيعة والكون» (من خلال الاعتقاد بوجود قوة أو روح في جميع الظواهر الطبيعية).

أما بخصوص الحكومة، فقد ساد الاعتقاد آنذاك بوجوب أن تكون سلطة الحكم على الأرض نسخة طبق الأصل للحكومة الإلهية، وأن تكون دولة بلاد الرافدين مطابقة تماما للدولة الكونية المتخيلة. ومن ثم، طوّر الرافدينيون اختبارا مزدوجا على سلطة حكامهم، وطبقوه بطريقة آلية، أحدهما اجتماعي، ملازم لوظيفة المجلس الإلهي المشتركة، والآخر ديني، يقوم بضبط القرارات الصادرة وعدم تجاوز الحدود الموضوعة من قبل السلطة الإلهية لأي سبب كان.

  كانت بلاد الرافدين القديمة تعيش توترا دائما في علاقة المجتمع بالطبيعة، ويكمن السبب ـ حسب ماجد الأميري ـ في أن متخيلهم التاريخي زوّد قوى الطبيعة العنيفة بأثمن إبداعات الجنس البشري

المتخيل الدرامي

انطلاقا من مقاربته للمتخيل الدرامي في بلاد الرافدين القديمة، يلاحظ المؤلف أن الأقدمين تركوا دليلا ملموسا على ممارساتهم الدرامية، عبر نصوص متفرقة تدلّ على الدوافع القائمة وراءها، وهذه الأنواع الرئيسية للنصوص هي التي يجب البحث فيها عن فكرة المتخيل الدرامي الهارب من تاريخ بلاد الرافدين، تحت غطاء ما يسمى تارة بأدب «الحكمة» وطورا بأدب «الرثاء».

كانت بلاد الرافدين القديمة تعيش توترا دائما في علاقة المجتمع بالطبيعة، ويكمن السبب ـ حسب ماجد الأميري ـ في أن متخيلهم التاريخي زوّد قوى الطبيعة العنيفة بأثمن إبداعات الجنس البشري، أي وهب قدراته البشرية الفائقة في التحكم إلى قوى الطبيعة، فمنحته في المقابل وجه الضعف والقصور في تكوينه، فافتقر إلى الثقة المطلقة بآلهته. الشيء الوحيد الذي كشفه الماضي أمام الآخرين هو عدم ثبات كل الأشياء بلا استثناء. هذه الملاحظة تبرز بوضوح في النصوص التي يضمها الكتاب، فكل شيء سريع العطب والزوال وغير مؤكد. كل شيء موكول إلى الآلهة وفي قبضتها. والإنسان يجهل خططها ما دام حيا، وعلى الملك ـ كراع مخلص ـ أن يسعى إلى الحفاظ على التوازن القائم مهما كان الثمن، لأن أي مغامرة طائشة من قبل الفرد ـ ملكا أو مواطنا من الرعية ـ قد تكون دليلا على إهانة الآلهة تقابلها شتى ضروب العقاب والويلات. وفي ما يلي تعريفات مقتضبة بالنصوص المسرحية السبعة التي يتضمنها الكتاب:

1 ـ أغاني كهنة الكالا/ سر نام كالا: ليس نص «الكالا» نصا تاريخيا محايدا، ولكنه عمل شعري وشكلي وموسيقي ومعماري بانورامي، يتابعه المرء بانبهار يرافق تحولات المتخيل الذي يدور في فلكه. فقد كان أداء هذه الأغاني الدرامية الشعبية يتم من قبل كهنة مختصين يدعون «كالا»، كجزء لا يتجزأ من شعائر دينية واسعة النطاق، ذات طبيعة استعطافية. فقد كان الكهنة تناط بهم مهمة تخفيف الغضب عن قلوب الآلهة، بغنائهم وعزفهم، رفقة جوق كهنوتي، ساعة اشتداد غضبها.

2 ـ لعنة أكاد (ثأر الإيكور): مرثية شعرية لتدمير مدينة أكاد واختفائها إلى الأبد. كان سقوط الإمبراطورية الأكادية ـ من وجهة نظر الكاتب السوري الذي يرجح أنه كان من الكهان ـ نتيجة غضب الإله إنليل. والصبغة الدينية التي صيغت بموجبها الحبكة الدرامية تختلف اختلافا كليا عن وجهة النظر التاريخية.

3 ـ أيوب السومري: يطرح النص معضلة البلاء الأكبر الذي يصيب الإنسان تدريجيا، فأيوب كان موسرا حكيما صالحا، وكان ينعم بصفاء العيش مع ذويه وأصدقائه، وفي ما هو كذلك، أحاطت به المصائب على حين غفلة. فلم يزدر بالقضاء الإلهي، ولم يكفر ولم يجدف مطلقا، بل توجه إلى إلهه بذلة وخضوع وتوسل، فسر لذلك إلهه ورضي أن يشمله بعطفه ورحمته، ليخلصه من بليته، ويحيل عذابه إلى فرح وسرور.

4 ـ أيوب البابلي: النص عبارة عن مناجاة فردية طويلة، لرجل كان تقيا يخشى الآلهة، ويؤدي الشعائر ويحسن إلى الناس، وقد احتل مناصب عليا في الدولة، كما كانت له ثروة طائلة. وعلى حين غرة، ساءت به الأحوال إذ تحول من الرخاء إلى الفقر، وتنكر له الدهر والأصدقاء والمقربون، لا سيما بعدما ألمت به الأمراض والآلام. لكنه استأنف العيش بعد أن اجتاز امتحان الآلهة، ونجح في اختبار الصبر والتعلق بالآلهة والالتزام بأحكامها وقبول أقدارها.

5 ـ حكاية صديقين: التيوديسية البابلية: يدور هذا النص حول موضوعة الشك والسخرية المتعلقة بالثوابت، أيا كانت مرجعياتها دينية، اجتماعية، سياسية، أو غيرها من تقديرات تصل بالمتشكك في بعض المواطن الحوارية إلى درجة التجديف والكفر. النص بمعنى آخر، ينتقل من عالم الحكايات الأسطورية إلى عالم الأسئلة الكبرى التي تخص الظلم المقدر أو المسلط على البشر؛ إنه يطرح مسألة الخير وحرية الإرادة في الحدود الفاصلة بين الإيمان المستقر والتساؤل القلق عن المسؤولية الإلهية في سعادة الناس وشقائهم ومصيرهم.

6 ـ مأساة خراب سومر وأور: كتب هذا النص المأساوي في الأصل كرد فعل تفجعي ورثائي على تدمير بلاد سومر وأكد وسقوط السلالة الثالثة على أيدي العيلاميين (سكان الأجزاء الجنوبية الغربية من إيران مما يعرف اليوم بالأهواز أو الأحواز) والسوبرانيين (الآشوريين) ما أدى إلى أسر الملك «أبّي ـ سين» (2004 ـ 2028 قبل الميلاد)

7 ـ مأساة خراب أور: مأساة كلاسيكية تفجعية على تدمير مدينة أور بأيدي العيلاميين والسوبرانيين الذين اجتاحوها وأسهموا في القضاء على سلالتها الثالثة الشهيرة. ففي أجواء مشبعة بروح المقدس، وإن بدت مادية وعامة أحيانا، وبمستويات متفاوتة من المجازات، يخص قائد الجوقة إله الهواء بخطاب يؤكد تواريه واحتجابه، مع التدرج في استحضار لائحة آلهة المدن المقدسة في سومر، الذين هجروا محاريبهم فتركوا رعيتهم عرضة للعواصف المدمرة والغزو، ليتضح أن خراب مدينة «أور» أدى إلى خراب «سومر» بأكملها.

 

٭ كاتب صحافي من المغرب







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي