حاشية على متن: رسالة أضحوية في البعث والمعاد

القدس العربي
2020-01-08

هاني بكري*

يعد هذا الكتاب على صغر حجمه – رسالة أضحوية في البعث والمعاد- من أهم كتب الفيلسوف العربي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن سينا، الملقب بالشيخ الرئيس (980-1037)، وذلك لوضوح شخصيته الفلسفية فيه، بلا مواربة، ولا مداهنة اعتاد الفلاسفة المسلمون على ممارستها، هذا أولا، وثانيا لأنه دفع فيه بعربة التأويل إلى مستوى معرفي متقدم، قفز فيها على أسوار الفهم العقائدي التقليدية، في تفسير البعث، وطبيعة الثواب والعقاب الأخروى.

والملاحظة الأولية التي تتبادر إلى الذهن عند مناقشة الرسالة الأضحوية؛ هو وجود رأيين متناقضين لابن سينا نفسه في هذه المسألة، فإذا كان ابن سينا هنا يترافع عن رأيه في نفي البعث الجسماني، وإثبات معنوية الثواب والعقاب لا حسيتيهما، فإنه سبق أن خالف هذا الرأي في كتابه «الشفاء»، إذ أقر فيه بالأدلة النقلية، والعقلية جواز البعث الجسماني، ووجود عذاب، ونعيم حسي فعلي. فهل نحن أمام خلل معرفي، في البنية الأبستمولوجية عند ابن سينا؟ أم أن الرجل يعرض رأيه في هذا الكتاب، في سياق مراجعاتي لأفكاره وتطورها؟

مأزومية الخطاب الفلسفي الإسلامي

والحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك، فخطاب ابن سينا المزدوج، هو جزء مؤسف من أزمة الفكر الفلسفي العربي والإسلامي، جزء شارك في صنعه الفلاسفة أنفسهم، عن طريق تبني خطابات تصاعدية متعددة، ومتنافضة في الكتابة أحيانا، حسب طبيعة واستعداد المتلقي، هذه الخطابات التصاعدية جعلت من الفلسفة، والتفلسف علما سريا نخبويا مغلقا، يدور داخل أنتلجنسيا معرفية، ما حال دون صنع تراكم كمي، يؤدي إلى تغير كيفي، في بنية العقل الجمعي العربي والإسلامي المعرفية، تغير كان من المفترض أن يؤدي الي تحرير هذا العقل، ودفعه إلى تبني رؤى مستقبلية، تتخذ التأويل المتولد دائما من رحم النص منهجا، بدلا من الرؤية الماضوية الدائرية للفقهاء والمفسرين والمحدثين، الذين أبدو صلابة أمام الخطاب الفلسفي، وشاغبوا على الفلاسفة، فحشروهم في شعاب جبال النرجسية الفكرية. وهذا هو مكمن الخلل من وجهة نظري، فمما يثير الغيظ أن فلاسفة أوروبا في القرون الوسطى، كانوا أشجع من أساتذتهم الفلاسفة المسلمين في عرض آرائهم، وبسطها للجمهور عامة بلا تمييز، كما أنهم جابهوا دوائر الرفض الدينية، والفكرية بصلابة هائلة، انتهت بانتصار قيم العقل والتنوير، وحرقت مراحل هائلة في تاريخانية التطور.

 أما الفلاسفة المسلمون، فقد وضعوا شروطا قاسية في عدم البوح بسهولة، بما فتح الله به عليهم من تأويلات للجمهور، هذه الشروط الصعبة، صنعت مشكلة ليس فقط خارج الخطاب الفلسفي، بل في داخله أيضا.

 فالموضوع المطروح هنا في هذا الكتاب، كان مثار إشكالية شديدة – هذه الإشكالية ناقشها سليمان دنيا رحمه الله في تحقيقه لهذا الكتاب باستفاضة.

فبينما يؤكد أبو حامد الغزالي (1058-1111)، في كتابه «تهافت الفلاسفة» على إنكار ابن سينا للبعث الجسماني، والعذاب الحسي، ينبري ابن رشد (1126- 1198) مدافعا عن ابن سينا، منطلقا أولا من تجهيل الغزالي، لأن ابن سينا يقر بالعذاب الحسي، والبعث الجسماني في كتابه «الشفاء»، ثم مع الفرضية الجدلية بقول ابن سينا بالبعث الروحاني، والحساب المعنوي، فإن ابن رشد يترافع عنه بوصفه زميلا متأولا لم يخرج من الملة، لأنه يؤمن بالبعث والحساب بشكل عام، ويتأول معناهما، وهي مسألة- بحسب ابن رشد- المؤول فيها خير من المقلد.

 وهذا يعد دليلا واضحا على عدم وصول هذا الرأي لابن رشد، الذي يقر فيه ابن سينا بمعنوية البعث والحساب، للسبب المذكور أعلاه.

ومن العجيب أن الفرقاء الثلاثة، ابن سينا، وابن رشد، وأبو حامد الغزالي، لم يتوافقوا توافقا تاما سوى في التواصي بالكتمان، الذي ضاع بسببه الكثير من العلم والتأويل.

فابن سينا يقول في كتابه «منطق المشرقيين» (وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا لأنفسنا – أعنى الذين يقومون مقام أنفسنا، وأما العامة، من مزاولي هذا الشأن، فقد أعطيناهم في كتاب الشفاء ماهو كثير).

 ويقول الغزالي في كتابه «مشكاة الأنوار» (ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى). أما ابن رشد، الذي عاني من التكفير حيا وميتا، فإنه ذهب في كتابه «فصل المقال»، إلى حد تكفير المصرح للجمهور بالتأويل (وأما المصرح بهذه التأويلات لغير أهلها- أي للجمهور- فكافر).

 لهذا صار الوصول إلى رأي أحدهم النهائي في المسألة الواحدة، مشقة بحثية هائلة، تقع على عاتق الباحثين الجادين، وقليل هم.

التوظيف الميتافيزيقي لحسية النعيم الجسدية – الحور العين مثلا- صارت تتكئ عليه الجماعات الإرهابية في شحن أفرادها ملغمين إلى الآخرة، تلك الجماعات التي أضحت في الآونة الأخيرة شديدة الفتــك، وشديدة التنظيم

التأويل فريضة غائبة

وإذا كانت زاوية المعالجة في هذا المقال – إن جاز لنا هذا التعبير هنا – قائمة على التنديد بحالة الغموض والكتمان التي مارسها الفلاسفة المسلمون، والتي حالت دون إنتاج آليات، وقيم فلسفية، تفضي مآلاتها إلى حالة تحديث دائمة، تراهن على المستقبل، لا الماضي كأغلب نصوص الفكر العربي الماضوية. وهو ما أخلى الساحة للفقهاء، والأصوليين والمفسرين، الذين ما فتئوا يعيدون إنتاج الخطابات الشرعية القديمة عينها، وبهذا عانى الفكر الإسلامي من دائرية، جعلته حبيس القرون الأولى، حتى اللحظةالراهنة.

 وعليه، فإن التبسط في عرض هذه الآراء، وإشاعتها للجمهور، يصبح إحدى الفرائض الفكرية الغائبة، وهو ما سنحاول فعله هنا، باختصار يتجنب الإخلال ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

*رسالة أضحوية في البعث والمعاد

في هذه الرسالة، يطرح ابن سينا رأيه في قضية البعث والحساب، التي يرى أولا أن الأجساد، ما هي إلا أوعية عابرة، ووقتية، وفانية، وأن الجسد متحول لثابت؛ هي الروح، وعليه فإن الأصل؛ أو الثابت؛ هو الأحق بالبعث وحده، وأن الجسد لا لزومية له، تبعا لهذا الرأي. أما العذاب والنعيم، فهما معنويان لاحسيان، فيهما ترتقي النفس الخيرة، وتتدرج في معارج الكمال، حتى تبلغ الغاية، وهذا هو قمة نعيمها. وتتردى النفس الشقية في مهاوي الشقاء، والضيق حتى المنتهى وهذا هو قمة عذابها.

 فالسعادة الآخروية: (عند تخلص النفس عن البدن، وآثار الطبيعة، وتجرده من كامل اللذات، ناظرا نظرا عقليا إلى ذات من له الملك الأعظم – الله عز وجل- وإلى الروحانيين – الملائكة- الذين يعبدونه، وإلى العالم الأعلى- الملكوت، وإلى وصول كماله إليه – أي وصول الأنفس الخيرة إلى هذه الحضرة والمعية، فاللذة الجليلة عند ذلك، والشقاوة ضد ذلك). والأنفس الخيرة (تزداد لذات وخيرات بالتلاحق، والأنفس الشريرة، تزداد ألما وشرا بالتلاحق، فإن كل طبقة تتصل بشكلها كيفية وهيئة، اتصالا معقوليا، وإن لذة وألم التلاحق غير متناهية نعني بهذا أن النفوس الفاضلة إذا اتصلت بها نفوس فاضلة تلذذت بها والشريرة ضد ذلك).

أما عن الآيات والنصوص التي تحدثت بشكل مباشر، وواضح، سواء عن نعيم حسي ملموس، وعدت فيه بأنهار الخمر، واللبن، والعسل، وممارسة جنسية دائمة مع الكواعب الأتراب الأبكار، أو الآيات التي توعدت الخطاة بالنار والسلاسل والأغلال، فإنه يرى أن هذه النصوص – وكذلك فعل ابن رشد من بعده- خاطبت العرب الذين نزلت فيهم الرسالة، بخطاب واضح ومباشر يفهمونه، من باب ضرب الأمثال، لأنهم كانوا أهل فصاحة ووضوح، ولم يكونوا مؤهلين لتلقى علوم التأويل، التي تتجاوز الحسي إلى المجرد.

 ومن ناحية أخرى فإن القرآن الكريم، فتح الدلالات السيميائية للراسخين في العلم، لاستنباط المراد الخفي من النص المقدس.. وهذا هو مناط التأويل المختلف كليا عن التفسير.

 لماذا نناقش هذا الرأي الآن؟

والسؤال الذي سنواجه به؛ لماذا نناقش هذا الرأي الآن؟ هل هو ترف فكري، أم جدل بيزنطي لشغل الناس؟ والحقيقة أن الطرح التأويلي الفلسفي للنص المقدس عموما، والموضوع محل المناقشة هذه خصوصا، صار الآن ضرورة لأسباب راهنة عدة؛

منها مثلا؛ أنه يجيب عن الإشكالات النسوية المثارة دائما عن مكافأة الرجل الجنسية الآخروية دون النساء، ويرد أيضا على النصوص التقليدية الشارحة للنص المقدس، التي تحمل في ثناياها وتضاعيفها نظرة ذكوربة خالصة للدين والتدين بشكل عام، سواء دنيويا، أو أخرويا.

 كما أنه يجيب أيضا، على أسئلة القطاعات الفئوية العريضة المهتمة بالشأن الفكري والحالة الدينية، التي باتت تطرح أسئلة وجودية، سواء عن هائلية العذاب الآخروي وصيرورته الممتدة للأبد، أو النعيم الحسي، المفرغ من أي نشاط، سواء عقليا أو بدنيا.

هذه القطاعات الفئوية، التي تشكلت معارفها في ظل ثورة سيبرانية منفتحة على العقائد، والأفكار بلا قيد ولا شرط، ولم تعد ترضيها الإجابات التقليدية الخالية من العمق على ما تبديه من تساؤلات.

 لكن يظل على رأس الأسباب التي تدعونا إلى تبني هذا الطرح، هو أن التوظيف الميتافيزيقي لحسية النعيم الجسدية – الحور العين مثلا- صارت تتكئ عليه الجماعات الإرهابية في شحن أفرادها ملغمين إلى الآخرة، تلك الجماعات التي أضحت في الآونة الأخيرة شديدة الفتــك، وشديدة التنظيم، ولديها قدرة عجيبة في توظيف البعد الأخروي الحسي، في خدمة أعمالها التخريبية.

 هذه الأعمال التخريبية، التي تم تدويلها من قبل قوى القمع التقليدية، كفزاعة للشعوب، ومبرر للاستبداد، فصارت الشعوب بين نارين، نار المفخخين العابرين للحور العين على أجسادنا، ونار الديكتاتوريات الأبدية الحاكمة للمنطقة العربية. لذلك فإن التجاسر على مناقشة وتفكيك- ليس فقط أدبيات فقه العنف- بل الأفكار الميتافيزيقية التي توظف مآلاتها للتخريب، يصبح ضرورة آنية ملحة.

 

  • كاتب وإعلامي مصري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي