سؤال الرواية ليست الجوائز وحدها

2020-01-07

 إبراهيم عبد المجيد*

كثيرا ما يكون سؤال الصحافيين في الحوارات الصحافية عن لماذا تنتشر الرواية. أجبت كثيرا، ويظل السؤال يتكرر مع كل حوار، وهنا سأحاول أن أجمل آرائي لتكون أكثر وضوحا، ولن أكتفي بإجابة قصيرة. البداية هي أن نظرة إلى الملاحم القديمة وهي أول فنون الأدب، رغم أنها كانت شعرا لا نثرا، تعني باختصار أن الإنسان يحب أن يكون له عالم آخر مواز لهذا العالم الذي لا يفهمه.

لقد اخترع له الإنسان القديم الآلهة ليجد معنى لما لا يفهمه، مادام أكبر من القدرة على الرضا والقبول وصارت الآلهة جزءا من ملاحمه. الرواية كفن نثري تأخر ظهورها إلى القرن السادس عشر تقريبا مع دون كيخوتة، وروايات تاريخية من كتاب آخرين ثم أصبحت رافدا مهما، لكنها لم تَجُر على الشعر، الذي ظل هو الموسيقى التي تراها.

يوما ما قال بعض نقاد الأدب في الغرب، إنه مع ظهور الدولة الشيوعية وتحقق العدالة، لن يكون للرواية وجود، لأن العدل تحقق في الأرض، والذي حدث أن الشيوعية لم تأت بالعدل في البلاد التي استقرت فيها مثل الاتحاد السوفييتي، وظلت الرواية قائمة، ولو لم تجد لها مكانا للنشر في الاتحاد السوفييتي، لكنها غزت العالم بالنشر خارجه.

والآن يشهد العالم أكبرعملية جنون تاريخي وظلم للبشر، أقليات عرقية أو شعوب كاملة تُباد، وقامت حروب فاقت الخيال والتصور مثل، الحرب العالمية الأولى والثانية، وقامت ثورات وانقلابات، واستولت على السلطة في كثير من البلاد التي لم تعرف الديمقراطية فئات قاتلة وظالمة، وقامت على ما سمي بالربيع العربي، انقلابات ومذابح في بلاد مثل سوريا وليبيا واليمن.

وحتى في البلاد الديمقراطية في العالم، لا تزال الرواية، لأن الكمال البشري صعب الوصول إليه. إذن هذا هو المعنى العام لازدهار الرواية، والسبب الذي يقبع خلف ازدهارها.

رغبة الإنسان القديمة في إقامة عالم مواز مهما بلغ فيه القتل، فهو أجمل، لأنه عمل فني له طرق كتابته التي تجذب القارئ ويستمتع بها، وأيضا تفتح له باب الأفكار الفلسفية الكبرى، إذا كان على دراية ثقافية أكبر. لكن هذه الإجابة وحدها غير كافية. تكملتها تكمن في السبب الثاني، وهو أننا نجمع كل أنواع الروايات في كلمة رواية فيكون من بينها روايات الرعب والخيال العلمي وروايات حتى للتسلية، فيبدو ازدهار الرواية رهيبا.

هذه أنواع من جنس الرواية لها قراؤها على مرّ الزمن، وقراؤها أكثر عشرات المرات من قراء الرواية الأدبية المتعارف عليها. يتم جمع الجميع تحت عنوان واحد هو الرواية. ولو بحثت عن عدد روايات الرعب ستجدها أكثر بكثير جدا من الروايات الأدبية المتوارثة كفن مقابل للأشكال الأخرى للأدب. الجمع بين كل أنواع كتابة الرواية يوضح أنها الأكثر شيوعا. لكن هذا ليس السبب الأخير أيضا.

سبب ثالث وهو أن الشعر قطع شوطا كبير في التخلص من كونه شفاهيا، وصار بعد حتى شعر التفعيلة والشعر الحر شعرا من النثر، صار سهلا كما يبدو من اسمه واقترفه الكثيرون، بينما هو صعب جدا، إذ كيف تحافظ على الصورة الفنية بالنثر، بينما الشعر التقليدي راسخ أنه الأكثر في ذلك.

النثر كثيرا ما يوقعك في الحكي فتكون القصيدة أشبه بالقصة القصيرة، ومن ثم انصرف كثير من القراء عن الشعر، فالنثر مفتوح لهم في الرواية، وصار الشعر في أزمة حتى يمكن القول إن هذا العالم لا يستحق الشعر.

  كان وجود كتاب مسرح والتغطية الإعلامية الواسعة تجذب الكتاب إلى فن المسرح، لكن بما جرى انكمش الكتاب، ومن ثم اتسعت المساحة للرواية أيضا. ندخل في سبب لعله الأخير وهو الجوائز الأدبية

الشعر هو الروح الأقدم تاريخيا وهو الموسيقي المجسدة، لكن ما جرى له من دخول لمناطق الحكي ومناطق الرأي أحيانا، بل كثيرا، جعله يتراجع. يمكن أن أضرب لكم أمثلة كثيرة، لكنني لا أحب، فلا أحد سيصدق ثم إنني أتحدث عن ظاهرة وليس عن أشخاص بعينهم. وهذا ينضم إلى الأسباب السابقة، ولا تنتهي الأسباب. السبب الرابع هو تراجع فن المسرح. أتحدث عن مصر فلا أتابع ما يحدث من مسرح في العالم العربي. لم يعد لدينا كتاب كبار في المسرح، ومنذ أكثر من ثلاثين سنة ظهرت ظاهرة الإعداد المسرحي عن مسرحيات سابقة عالمية أو مصرية، وانكمش مجال التأليف، كما انصرف الإعلام عن متابعة المسرحيات، فلم يعد التلفزيون يذيع كل أسبوع مسرحية، كما كان يحدث زمان، ولا تفعل ذلك أي قناة.

كان وجود كتاب مسرح والتغطية الإعلامية الواسعة تجذب الكتاب إلى فن المسرح، لكن بما جرى انكمش الكتاب، ومن ثم اتسعت المساحة للرواية أيضا. ندخل في سبب لعله الأخير وهو الجوائز الأدبية.

أجل. جوائز الرويات هي الأكثر في عالمنا العربي، سواء كانت جالبة للمال أو الشهرة أو الترجمة، ومن ثم صارت الرواية حقلا جاذبا جدا للكثيرين. وأمام هذه الحالة من اتساع الأفق للرواية، يدخل عالمها كثيرون جدا من متوسطي الموهبة، بل ومن غير الموهوبين، بل من يستأجرون من يكتب لهم، بل ومن يسرقون روايات وأفلام أجنبية ومشاهد كاملة من روايات أخرى. أقول مشاهد وليست أفكارا، ولأن النقد قد صار غير قادر على المتابعة من سيل الروايات، لا يدري أحد بما يجري.

يوما ما كان لدينا نقاد ومبدعون روائيون وشعراء وصحافيون. صحيح أن بعض النقاد كتبوا رواية أو أكثر، لكن نسبة من فعلوا ذلك قليلة وما زالت، لكن انتقل إليها كثير من الشعراء، بينما كان يمكن أن يفعل ذلك يوما شاعر واحد في كل قطر أو اثنين، ثم أخيرا الصحافيون يتدفقون على الرواية بعد أعمار قضوها في الصحافة، وأخير سمعنا عن سياسيين سيكتبون روايات، وعن محامين، وقد حضرت مرة اجتماعا مع بعض علماء الأزهر قالوا إننا سنكتب روايات أيضا والحمد لله لم يفعلوا.

فعلها واحد فقط برواية لا معنى ولا قيمة لها، رغم الإقبال الشديد عليها من أنصاره، لأنها طبعا مثل دروس التربية الوطنية. لست ضد انتقال أي كاتب من موقعه الأصلي إلى الرواية، فأنا ضد التخصص، بل إن العبقرية للفنان عادة تتجلي في مجالات مختلفة. ففي العالم تجد لفان جوخ كتابات نقدية ولفيكتورهوغو مدشن الرومانتيكية لوحات فنية ولبيكاسو مسرحية وغيرهم كثير، وهناك من كتب للسينما إلى جوار المسرح ويرسم أيضا.

كان ذلك يحدث في مصر والعالم العربي يوما، لعدد قليل، لكن رائع، فنجيب محفوظ كتب السيناريو ويوسف إدريس ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وغيرهم، ولم يتخلوا عن القصة أو الرواية. كلهم أجادوا في الاثنين معا أو في ثلاثة أجناس فنية في بعض الأحيان. أمر تجلي العبقرية في مجالات مختلفة قديم فأحمد شوقي كتب المسرح، وطه حسين كتب القصة والرواية والتاريخ، حتى لو اختلفت على قيمة رواياته فنيا.

لكن هؤلاء كانوا في زمن قل فيه الكتاب، أما الآن والسيل ينهمر من الروايات فالانتقال إليها يعني إغراء ما، لأن الظاهرة تتسع وتكاد تشمل تسعين في المئة من المشاهير في الأجناس الأخرى.

أنا لا أحب أن أطلق تفسيرا لذلك باعتباري كاتب رواية ـ بالمناسبة كتبت قصصا قصيرة كثيرة ومسرحية واحدة وترجمت كتبا ـ لكن ظهر ذلك منذ البدايات، ولا أحب أن اكون معيارا، لكن أحب للنقاد أن يكتبوا عن أعمال الداخلين للرواية من بعيد بهذه الكثرة لنجد تفسيرا للمسألة. وأعتقد أن الأسباب السابقة لازدهار الرواية هي السبب، ولن أقف عند موضوع الجوائز وحده كما يقول الكثيرون.

 

  • روائي من مصر






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي