تقديس العربية وتسييسها: حرب أهليّة ثقافية؟

2020-01-04

 حسام الدين محمد

يعزو يوفال نوح هراري، تمكّن «الإنسان العاقل» قبل 70 ألف عام من السيطرة على شرق المتوسط بعد خروجه من افريقيا إلى شبه الجزيرة العربية، إلى أمرين: الأول هو تطوير اللغة التي صارت «مطواعة بشكل مذهل، إذ نستطيع أن نربط عددا محدودا من الأصوات والإشارات، لننتج عددا لا نهائيا من الجمل، بحيث نستطيع أن نستوعب ونخزن ونتبادل كمية ضخمة من المعلومات حول العالم من حولنا». والثاني هو خلق واقع متخيل من الكلمات يقنع عددا كبيرا من الغرباء أن يتعاونوا معا بفعالية، وهو ما يمكن أن نسميه دينا أو ميثولوجيا أو إيمانا بزعيم، وما تطور لاحقا ليصبح اعتقادا بقومية ووطن وجماعة بشرية «متماثلة» ثقافيا، وهو ما أدى لاجتماع الآلاف من البشر لإقامة الطقوس الدينية، أو للحرب، وهو ما أدى إلى حسم الصراع مع خصوم «الإنسان العاقل» من نظرائه كالإنسان المنتصب وإنسان نياندرتال.

يقترح هذا التحليل علاقة مثيرة بين اللغة والدين البدائيين، يكشف دورهما في الحضارة البشرية وارتقائها، من جهة، وفي عمليات الإخضاع وعلاقات القوة والسيطرة، وصولا إلى إبادة مجموعات بشرية لأخرى بسبب اختلافات لغوية أو دينية أو ثقافية.

حكى لي صديق يعمل في شركة أرامكو السعودية في الظهران، أنه لاحظ وجود أشخاص من جنسيات أجنبية مختلفة (أمريكيين وأوروبيين وجنوب افريقيين، إلخ) عاشوا وأقاموا وعملوا في المملكة لحقب طويلة، قاربت لدى بعضهم ثلاثة أجيال، لكنّهم يرفضون تعلّم أي كلمة عربية، وليسوا مهتمين طبعا بجنسية البلاد التي ولد بعضهم فيها، وأنجب أولادا، وفي المقابل فإن كثيرين من العاملين السعوديين، أبا عن جد يرفضون بدورهم الحديث بالعربية. تبدو هذه الواقعة الحاصلة بعد عشرات آلاف السنين من صراع العاقل مع النياندرتال، مناسبة لإعادة قراءة دور اللغة والدين في حيثيات جديدة، فالدولة السعودية التي تجري في ربوعها هذه الواقعة، هي وريثة الجغرافيا التي نشأ فيها الإسلام، ونزل فيها القرآن، أي أنها مكان اجتماع المقدّس الديني مع اللغة العربية، وكانت بالتالي منشأ اجتماع السلطتين الدينية والدنيوية، التي انداحت أيضا من الجزيرة العربية (كما فعل الإنسان العاقل) إلى المشرق ثم إلى المغرب، فوصلت بالفتوحات والتجارة والنفوذ الثقافي والحضاري إلى أقاصي الأرض، وهو ما يعيد تأكيد أطروحة التلازم بين الدين واللغة، وعلاقات القوة والسيطرة.

وإذا سحبنا هذا المنطق نفسه على توصيف الوضع في أرامكو، فسنجد أن رفض اللغة العربية من قبل الأجانب والسعوديين أيضاً، تعبيرا عن علاقات القوة والتراتبيات الثقافية والطبقية، التي تنعكس مرة على شكل إحساس بالتفوق الحضاري والثقافي، أقرب للغطرسة لدى الغربيين المقيمين في السعودية، ومرة على شكل عقدة نقص حضارية ولغوية لدى بعض السعوديين، رغم أن البلاد بلادهم، وهو ما نرى أثره المستفحل أيضا في بلدان خليجية.

أثار الاحتفال بيوم اللغة العربية الشهر الماضي الكثير من الجدل الذي يكاد يصبح تقليدا سنوياً بين الناطقين بالعربية، واحتدّت معارك عنيفة على جوانب هذا الحدث، سماها الكاتب الفلسطيني محمد شاويش «حربا أهلية ثقافية»، معيدا التذكير بالمساهمة السيئة لمعسكرين، الأول هو «المتدينين الجدد»، والثاني معسكر «المعادين للدين» الذين يسمّون أنفسهم، حسب شاويش، بـ»التنويريين»، قائلا: قل لي ما هي خلفيتك الأيديولوجية أقل لك ما موقفك من اللغة العربية، معتبرا أن الدفاع عن لغة معيارية توحد العرب «مهمة لكل شغيل ثقافي نزيه».

 

 

قداسة العربية الفصحى المقبلة من القرآن «هي أكبر مصائبها وأكبر عائق أبستمولوجي أمام تقدمها وحيويتها وتطورها في خدمة الحياة المعاصرة».

لغة أجنبية للجميع؟

أما الكاتب ماهر مسعود، فرأى أن العربية «لغة أجنبية للجميع»، «فلا أحد يتعلم العربية الفصحى في طفولته الأولى، والعاميّة هي اللغة الأم، وأننا نتعلم الفصحى كما يتعلمها الأجنبي»، مضيفا أن قداسة العربية الفصحى المقبلة من القرآن «هي أكبر مصائبها وأكبر عائق أبستمولوجي أمام تقدمها وحيويتها وتطورها في خدمة الحياة المعاصرة». أما حسام الدين درويش فرأى أن المشكلات الأساسية للغة العربية هي «انعكاس لمشكلات واقع الناطقين بها»، وأن من البديهي والمؤكد «أن التخلف على صعيد إنتاج المعرفة وتداولها، والجمود على صعيد الأخلاق ونقدها، والتقديس الأعمى على صعيد تنظيرات الديانة الإسلامية وممارسات شيوخها، والاستبداد والعنف على صعيد السياسة وممارستها، كل ذلك وغيره ينعكس سلبا، نظريا وعمليا، معرفيا وقيميا، على اللغة التي نتداولها». في المقابل يعتبر الباحث مؤنس بخاري اللغة العربية «أرقى لغات العالم وأكثرها تطورا»، مشيرا إلى صعودها «بين القرنين السابع والتاسع، بائتلاف لغات الحضارات القديمة في المشرق».

أما الكاتب والمترجم بدر الدين عرودكي فقال، إن هناك من عمل منذ القرن الثامن الميلادي حتى القرن العشرين على عصرنة اللغة العربية بصمت وفعالية، من دون أن يتجرأ على مهاجمتهم أحد لا باسم الدين ولا باسم العروبة، ذلك أنهم كانوا يعرفون اللغة العربية مثلما كانوا يعرفون كيفية تطويعها، ممثلا على ذلك بنجيب محفوظ وزكريا تامر وغيرهم.

الفصحى «اختراع أمريكاني»؟

وفي عدد من التعليقات العميقة المحفزة على النقاش (بالعاميّة المصرية) يقوم شادي لويس بطرس باستعراض قضايا قواعد اللغة، وضرورة نزع القداسة عنها معطيا أمثلة عن نزول القرآن قبل تقعيد النحو، وإقرار اللغويين للشعراء بجواز ما لا يجوز لغيرهم، وأن شكسبير «ما كنش بيعرف نحو»، واعتبار برنارد شو قواعد الهجاء «إهانة للعقل البشري»، وأن التشدد اللغوي في الحقبة الفيكتورية عبّر عن أفكار الإخضاع والقمع والهيمنة، وأن التشديد العربي المشابه فكرة حداثية مرتبطة بفكر النهضة، مشيرا إلى بحوث تعتبر الفصحى العربية الحديثة «اختراعا أمريكانيا» تم في مدارس الإرساليات في بيروت ومدن سورية، وانتقل مع المهاجرين الشوام إلى القاهرة حيث بذروا أسس أفكار النهضة الحديثة، وأن الفصحى الحديثة لغة «تم انتزاع ما هو إسلامي منها»، كما أنها «عربية فيكتورية» تمت تنقية مفرداتها ومخيالها الجنسي، وهي طروح وأفكار تخلخل منظومة كاملة من الأفكار حول علاقات اللغة والدين والقوة.

تحضر ثنائية الدين/ اللغة، في هذه الآراء كلّها، بشكل ظاهر أو باطن، فالواضح أن الأمر لا يتعلّق فقط بالإمكانيات الصوتيّة التي تحتاجها الترجمة، والتي يمكن حلّها بإضافة أحرف أخرى ضرورية، أو بعصرنة اللغة وتطورها الذي لم يتوقف، بل يتعلّق، كما رأينا في مثال أرامكو، بعلاقات القوّة والضعف، وبموقع المتكلم باللغة الذي يراه لنفسه ضمن تلك العلاقات، سواء بتموضعه أيديولوجيا، كما رأى شاويش، وبربطها، مرّة إيجابا، بآلية للدفاع، ومرة سلبا، باعتبارها «عائقا معرفيا»، وكلّ هذه الأحوال هي تعريف للأزمة، عندما تجد أمّة، وأفرادها، أنفسهم أمام وضع لا يمكن حلّه.

وربما يمكن الاستفادة هنا من المقارنة التاريخية لأمم وقعت بأزمات وجودية، كمــــا حصل مثــلا مع اليابان عام 1853، حين قرر حكامها حينها الحصول على المعارف العسكرية والتكنولوجية الغربية لخلق توازن يجعل قبولها على قدم المساواة مع تلك الدول ممكنا، وقد أدت تلك الدينامية الكبرى التي انطلقت إلى تغييرات أثرت في حياة اليابانيين بعمق وانعكست في الفنون، الثياب، العادات، السياسة، الاقتصاد، التعليم، ودور الامبراطور نفسه، والإقطاع، والسياسة الخارجية، وطرق الحكم، والأيديولوجيا، والقانون، والجيش، والمجتمع، والتكنولوجيا.

بعد قرار إنشاء مدارس ابتدائية (1872)، وجامعة (1877)، انتهى الأمر بالإصلاح التعليمي إلى أن عدد المتعلمين في اليابان هو الأعلى في العالم (99%). لقد تغيّرت المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بأكملها، لكن الشيء الوحيد الذي لم يتغير كان نظام الكتابة الذي يعتبر الأصعب على التعلم عالميأ، لقد تغيّرت النظم جميعها، ولكن الإبقاء على «هوية يابانية» قوامها اللغة ووحدة الأمة كان أمراً غير قابل للتغيير!







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي