بلاد القائد… أو تفكيك صورة الديكتاتور العربي روائياً (1)

2019-12-28

محمد عبدالوهاب الشيباني*

من أقدم الترجمات العربية لرواية الجواتيمالي مخيل انخيل استورياس ” السيد الرئيس” تلك التي صدرت ببغداد منتصف الثمانينات، بعد صدورها الأصلي بأربعين عاماً، فقيل: من باب التندر، أن القائمين على النشر والجهات الرقابية، في ذروة القبضة الأمنية لنظام صدام حسين، تعاملوا مع الإصدار ليس لقيمته الفنية العالية، ولا لمضمونه السياسي الصارخ الذي يدين الاستبداد والعنف، وإنما لعنوانه الذي يختزل أحد ألقاب المهيب وهو “السيد الرئيس”، ولو أنهم قرأوه وعرفوا مضمونه قبل النشر لما سمحوا بطباعته ونشره والترويج له، فقد ظنوا أنه كتاب لأحد الأجانب في تمجيد “السيد الرئيس” وليس في هتك صورة الديكتاتور.

جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية والمحكومة بمجموعة صغيرة ثرية وفاسدة، واستخدمتها، ولعقود طويلة، وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، في ذروة الحرب البادرة وما تلاها مكبَّا خلفياً لسياساتها الأمنية القذرة، ومنها صناعة الحكام الفاسدين، صارت مختبرا سردياً شديد الخصوصية بعد سقوط أنظمة الحكم فيها بسنوات، وشكلت موضوعات الديكتاتور الحاكم استلهاما فارقاً عند كبار روائيي القارة البكر أمثال غابرييل غارسيا ماركيز في “خريف البطريرك” ماريو فارغاس يوسا في “حفلة التيس”، وقبلهما بعقود أنخيل استورياس في “السيد الرئيس” و من تلاهم، مثل الكاتبة لويسا بالينثويلا، صاحبة رواية “ذيل الحرباء” وتوماس إلوي مارتينز، صاحب رواية “البيرون” وغيرهم من الكتاب الذين استطاعوا بهذا الاستلهام إعادة تقديم الصورة الغائبة عن تلك البلدان بمزاج ومشغلات كتابية فاتنة، جعلت بعض نقاد السرد العالميين يكرسون تسميتهم الأشهر ” الواقعية السحرية” على تلك المدرسة، بدلاً عن ممهداتها الألمانية، وخصوصاً منذ فازت رواية “السيد الرئيس” بجائزة نوبل في العام 1967، كمضاف تمييزي وتوصيفي لنوع من الكتابة المتحررة من تعليب الواقعيين النقديين والواقعيين الاشتراكيين وحتى الواقعيين الجدد، وأن روائياً كبيراً من أمريكا اللاتينية، ونعني غابرييل غارسيا ماركيز، سيحصد ذات الجائزة في العام 1982، على مجمل أعماله السردية، بما فيها روايته ذائعة الصيت “خريف البطريرك” التي تغوص في عوالم الاستبداد، و أن روايته التي حملت عنوان ” الجنرال في متاهته” والتي ترصد آخر أيام تشرد القائد الأمريكي الجنوبي وموحد أكثر بلدانها “سيمون بوليفار” أعدها البعض مقاربة من زاوية أخرى لموضوع الديكتاتوريات.

وقبل أعوام قليلة، تحديداً في 2010 نال الروائي البيروفي ” يوسا”، صاحب رواية “حفلة التيس” و”الفردوس على الناصية الأخرى” على ذات الجائزة، لأسباب جمالية وموضوعية تكرسها هذه المدرسة.

  خلال ستة عقود اختزل العسكر الأوطان في أسمائهم وسيرّوها بالقبضات الحديدية للأجهزة الأمنية، التي توارثوها واحداً بعد الآخر

ديكتاتوريات المنطقة العربية، والتي تصلَّبت كقيمة استبدادية في حياة الشعوب، مع عبورها الزمني الطويل، بلازمة الشرعية الثورية وفضلاتها القولية، تأسست في الأصل منذ صارت النخب العسكرية بديلا لأنظمة الحكم التقليدية الملكية، التي بدأت بالتداعي مع إعادة ترسيم المنطقة بعيد الحرب الكونية الثانية، وما أعقبها من صعود الدولة الوطنية المستقلة بحكامها الجدد وانقلاباتهم الناعمة والخشنة.

خلال ستة عقود اختزل هؤلاء العسكر الأوطان في أسمائهم وسيرّوها بالقبضات الحديدية للأجهزة الأمنية، التي توارثوها واحداً بعد الآخر، قبل أن ينتهي بهم المطاف، بعد سقوط الأيديولوجيات ويقينيات التوازن الكوني، مطلع التسعينيات إلى محولاتهم المستميتة لتوريث أنجالهم هذه الأوطان، ولولا انتفاضه الشعوب المقهورة في العام 2011، وتداعياتها القوية، التي لم تزل تضرب حتى الآن العديد من البلدان التي ظنت أنها نجت من الزلزال الكبير، لكانت تُحكم بالأنجال تماما كما هو الحال في “بلاد الأسد”، الذي ورِّث فيه الابن “القاصر”، حكم أبيه ، وتطلب تتويجه تعديلاً دستورياً اعتسافياً ، صفقت له أيادي دمى الحاكم طويلا في مجلس الشعب !!

وإذا استثنينا رواية “عالم صدام حسين” التي صدرت عام 2003 لم تُقارب -حسب علمي- صورة الديكتاتور العربي أدبياً إلا بإشارات هنا وهناك في نصوص لم تكتب قصدا لهذا الغرض، وإن كتبت فبإسقاطات رمزية شديدة المواربة، حتى هذه الرواية الموقعة باسم “مهدي حيدر” ، وهو في الغالب اسم مستعار و قد يشير إلى أكثر من كاتب لم تغط إلا الجزء القليل من سيرة صدام وحياته، إلا أنها استطاعت إنتاج بنية سردية شديدة التماسك والابهار، بالاعتماد على التاريخي بوقائعه وشخوصه، وشحنه بالمتخيل، الذي غاص عميقاً في المكون النفسي والثقافي للرجل، والذي أفضى في النهاية إلى إنتاج الهيئة المجسمة للحاكم الفرد، التي خبرها العراقيون لأكثر من عقدين من الزمن.

  • كاتب وشاعر يمني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي