الفلسفة والواقع العربيّ

2019-11-11

د. عبد الله الجسمي*

دفعني مقال د. عماد عبد الرزّاق الموسوم بـ "مأزق الفلسفة العربيّة بين تحدّيات الواقع ورهانات المستقبل" لكتابة هذا المقال الذي يتماشى مع السياق التحليلي لمقالته عن الفلسفة ومأزقها في العالَم العربيّ، والذي أحاول فيه التركيز أكثر على طبيعة الفلسفة التقليديّة وموضوعاتها التي أسهمت في عدم انتشار الفلسفة سواء في العالَم الإسلاميّ في العصر الوسيط بعد حركة الترجمة أم في الواقع العربيّ الحديث وكيف يُمكن أن تُسهم التحوّلات التي جرت في طبيعة الفلسفة والتفكير الفلسفي منذ منتصف القرن التاسع عشر، في انتشار الفلسفة في العالَم العربيّ.

هنالك مشكلة حقيقيّة تُواجه الفلسفة والمُشتغلين بها ومَن يتبنّى أو يحاول نشْرها في الواقع العربي، وهي تحدّ بشكلٍ كبير من الاهتمام بها على المستوى الثقافي، وانتشارها بين العامّة وتحقيق نتائج ملموسة منها. وهذه المشكلة ليست وليدة الساعة، بل تعود إلى تاريخ دخول أفكار الفلاسفة اليونان إلى العالَم الإسلامي عبر حركة الترجمة التي نقلت العلوم اليونانيّة وأسهمت بشكلٍ كبير في النهوض العلمي والفكري في الحضارة الإسلاميّة.

وكان الاهتمام بالفلسفة واحداً من أبرز جوانبها على الرّغم من المُعارَضة التي أبداها الكثير من رجال الدّين وأتباعهم الذين نكّلوا بالعديد من الفلاسفة وقتلوا نفراً منهم وأحرقوا كُتبهم وغيرها من مُمارسات عدائيّة ضدّ الفلسفة والفلاسفة.

ووضع كهذا استمرّ إلى اليوم يستدعي العمل على معرفة الأسباب التي تقف حائلاً دون انتشار الفلسفة والاهتمام بها في واقعنا العربي.

إشكاليّة النشأة، الموضوع واللّغة

 تقف إشكاليّة النشأة كواحدة من أهمّ عوائق الاهتمام بالفلسفة. فالفلسفة بطابعها الفكري ومشكلاتها نشأت في بيئة تهيّأت لها الظروف للإتيان بطريقة تفكير جديدة تتجاوز طُرق التفكير التقليديّة التي تميّزت بها الأساطير ومُحاولة الإجابة عن الأسئلة التي شغلت بال الإنسان القديم حول أصل الكون والإنسان والحياة. كان ذلك في القرن السادس قبل الميلاد في اليونان.

وفي العصور الوسطى أخذت الفلسفة مَنحىً دينيّاً سواء في أوروبا أم في العالَم الإسلامي، إذ برزت بشكلٍ قويّ الفلسفة الإسلاميّة التي قدَّم فلاسفتها شروحاً لأفكار الفلاسفة اليونانيّين، ومن أبرزهم أفلاطون وأرسطو، مع محاولة إعطاء ما يُمكن من أفكارهم صبغة إسلاميّة.

وقد تميَّز المسلمون بالتصوّف الإسلامي على الرّغم من تأثيراتٍ خارجيّة عدّة أسهمت في نشأته وكذلك في نشأة علم الكلام وظلّوا تقريباً يراوحون في هذا الجانب لقرونٍ عدة انتكست بعدها النهضة العِلميّة الإسلاميّة وتراجعت معظم الجوانب العِلميّة والثقافيّة والفلسفيّة.

ثمّة إذاً إشكاليّة كبرى تتعلّق بنشأة الفلسفة التي جاءت من بيئة مُختلفة تماماً عن الواقع العربي والإسلامي، وهى ليست كالعِلم الذي يعتمد على التراكُم والتجارب ومعرفته الموضوعيّة اللّاشخصيّة، بل هي إطارٌ فكريّ يمسّ أفكار الأفراد ومُعتقداتهم وقيَمهم ورؤيتهم، ولا تعتمد على تراكُم الحقائق، إذ تعبِّر عن جوانب ذاتيّة لا موضوعيّة.

كما أنّ الموضوعات الفلسفيّة الكبرى المتعلّقة بالوجود والطبيعة والمعرفة والأخلاق التي ميّزت الفلسفة اليونانيّة تُعتبر من الموضوعات المحسومة في العالَم الإسلامي، حيث أجاب الإسلام عن تلك القضايا بطريقة حاسمة لا مجال فيها للنقاش، ولهذا السبب عارضَ الكثير من الفقهاء وغيرهم دراسة الفلسفة.

كما تميَّز الطابع الفلسفي التقليدي بميزتَين جعلتا منه أمراً نخبويّاً تجهله العامّة: الأولى من حيث الموضوع، والثانية من حيث اللّغة. فقد تمّيزت الفلسفة بصعوبة الموضوعات التي تناولتها، أي ما يُعرف بالمشكلات الميتافيزيقيّة الكبرى كالوجود والمَعرفة التي أُعطيت الأولويّة على أيّ موضوعات أخرى وتضمَّنت في الوقت نفسه قضايا تفرَّعت منها في غاية الصعوبة.

    تمّيزت الفلسفة بصعوبة الموضوعات التي تناولتها، أي ما يُعرف بالمشكلات الميتافيزيقيّة الكبرى كالوجود والمَعرفة التي أُعطيت الأولويّة على أيّ موضوعات أخرى وتضمَّنت في الوقت نفسه قضايا تفرَّعت منها في غاية الصعوبة

وقد انعكست هذه الموضوعات على الميزة الثانية المتعلّقة باللّغة حيث اتّسمت اللّغة التي تعبِّر عن هذه الموضوعات بالصعوبة والتجريد الشديد والغموض في الكثير من الأحيان واستخدام المفردات وسط سياقات مجرّدة تستند إلى منطقٍ عقليّ مجرّد لا يفهمها إلّا النخبة المتخصّصة في الفلسفة.

الواقع العربيّ الحديث

شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر إعادة الاعتبار لأهميّة الفلسفة في العالَم العربي على أيدي روّاد الإصلاح الديني الذين دعوا للاهتمام بها ودراستها لما لها من أهميّة في تحريك الفكر وتجديده، ولتغليبهم الجانب العقلاني على مُصادرة العقل والتعصّب بأنماطه كافّة. وجاء هذا الاهتمام مع بوادر النهضة العربيّة التي استمرّت إلى ما بعد منتصف القرن العشرين بقليل.

وفي مطلع القرن العشرين، بدأ تدريس الفلسفة في بعض الجامعات العربيّة، فقد مضى ما يقارب القرن تقريباً على ذلك شهد فيها الاهتمام بالفلسفة تفاوتاً بين فترات مُتباينة بحسب طبيعة الثقافة التي تسود في المجتمع. فقد وصل الاهتمام بالفلسفة إلى ذروته في النصف الأوّل من القرن العشرين، وبدأ بالتراجُع خلال نصفه الثاني، إلى أن وصل الأمر في أواخره بتحجيم دراسة الفلسفة في عدد من الجامعات ومراحل التعليم المدرسي المتقدّمة.

وقد أدّى ذلك إلى العودة إلى الموقف القديم من الفلسفة، أي ما إذا كانت تتعارض مع الدّين أم لا، بعد الموجة الأصوليّة التي استمرّت ما يقارب خمسة عقود.

وخلال فترة تدريس الفلسفة في أروقة أقسامها بالجامعات، غلب الطابع الغربي على موضوعاتها التي تعبِّر عن التطوّرات الجارية في العالَم الغربي منذ اليونان فعصر النهضة والعصر الحديث. وقد ولَّد ذلك مشكلة حقيقيّة لدى القائمين على تدريسها تتعلّق بتدريس فكر غربي متقدّم عن بيئتنا المُختلفة، ما خلَّف نَوعاً من الانفصام بين ما يُدرس من فكر وبين واقعٍ ثقافيّ لا يتلاءم معه إلى حدّ كبير.

فطبيعة الثقافة وقيمها وطريقة أو طُرق تفكيرها تلعب دَوراً مهمّاً في احتضان الفلسفة وموضوعاتها. فالثقافة، أو بالأحرى الثقافات السائدة في العالَم العربي وقيَمها وطُرق تفكيرها وطبيعة اليقين فيها لا تخلق البيئة المُناسبة لنشر الأفكار الفلسفيّة والجدل الفلسفي، ولا تساعد على إعمال العقل والنقد، وهذا ما يُخالف تماماً البيئة الثقافيّة التي تحتضن الفلسفة في الغرب.

كما غلب على التدريس الأكاديمي للفلسفة الجانب التاريخي، حيث كان الاهتمام بالمسيرة التاريخيّة للفلسفة وأبرز فلاسفتها يطغى بشكلٍ كبير على الجوانب النقديّة والتحليليّة التي تهدف إلى إعمال العقل وتمرين الطالب على النظرة النقديّة للقضايا والمشكلات الفلسفيّة وغيرها.

وفي حقيقة الأمر يُعَدّ طغيان تدريس البُعد التاريخي للفلسفة استمراراً للنهج التقليدي لشرح الفلسفة الغربيّة لا نقدها نقداً عقلانيّاً أو الإسهام في نقاش موضوعاتها وصوغ بعض أفكارها.

ومن جانب آخر ازدهرت حركة الترجمة خلال فترة النهوض الثقافي العربي وطاول ذلك كُتب الفلسفة، إلّا أنّ طابع الأفكار الفلسفيّة التي تمّت ترجمتها في الأغلب يُعدّ إطارها العامّ امتداداً للتفكير الفلسفي التقليدي منذ أفلاطون وحتّى العصر الحديث الذي شهد ذروته في ازدهار المذاهب الشموليّة، بمعنى أنّ المادّة الفلسفيّة المقدَّمة سواء في التدريس أم المُترجِمة للثقافة العامّة كانت في غالبيّتها تسير في خطّ الموضوعات الفلسفيّة التقليديّة ولغتها المجرّدة التخصصيّة الدقيقة، وتمثّل جدلاً بين المذاهب الفلسفيّة لا صلة للكثير من موضوعاتها بالواقع.

استمرّ ذلك معظم القرن العشرين على الرّغم من التحوّلات التي طرأت على الفلسفة والتفكير الفلسفي في العالَم الغربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

على الرّغم ممّا جاء في كلامنا، نضيف أنّ تدريس الفلسفة لم يخلُ من نفر محدود من الأكاديميّين العرب الذين سخّروا استفادتهم من الفكر الفلسفي الغربي وبعض مَناهجه في محاولة نقد الواقع العربي وتحليله وتبسيط اللّغة الفلسفيّة ومحاولة نشْرها بين العامّة.

ومن أبرز هؤلاء د. زكي نجيب محمود ود. فؤاد زكريا. فقد وظَّفا كِتاباتهما لخدمة الفكر التنويري القائم على العقل والتفكير العِلمي وتحديث الثقافة والواقع العربي، وخاضا جولاتٍ ومَعارك فكريّة مع عددٍ من الأطراف المُحافظة والأصوليّة، لكن للأسف لم يُكتب لهذا النهج الاستمرار ولم يُؤصَّل نظريّاً ليكون نهجاً فلسفيّاً للتعامل مع الواقع.

 الفلسفة المُعاصِرة

التحوّلات التي طرأت على الفلسفة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أحدثت نقلة نوعيّة في طبيعة الموضوعات والمَناهج التي يركِّز عليها الفلاسفة. فقد تراجعت بشكلٍ كبير جدّاً الأسئلة المتعلّقة بالوجود وأصل العالَم غالبيّة الموضوعات النظريّة لمصلحة العِلم التجريبي، الذي قدَّم تفسيرات جديدة عن العالَم، وتمكَّن من الثقافة والفكر الإنساني.

وما لبثت العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة أن ظهرت كعِلم النَّفس والاجتماع والأنثربولوجيا وحلّت محلّ الكثير من التفسيرات الفلسفيّة المتعلّقة بالإنسان.

لقد انتقلت الفلسفة من الاهتمام بالوجود والتجريد إلى الاهتمام بالإنسان (وهذا ما أصفه بـ : "تصالُح الفلسفة مع الإنسان")، وذلك بعد أكثر من ألفَي عام على بناء أنساقٍ تجريديّة عن الوجود. وترتَّب عن ذلك انخراط الفلسفة في الواقع وتعبيرها عن قضايا ومشكلات الإنسان اليوميّة والتركيز على اللّغة وتحليلها وتطوير طُرق تفكير الإنسان والنظرة التعدديّة للعالَم والاهتمام الكبير بالموضوعات الأخلاقيّة والجماليّة.

إنّ التحولات التي جرت في الفلسفة فتحت الطريق أمام إمكانيّة انتشارها في الواقع العربي. فالموضوعات التقليديّة السابقة التي كانت تصطدم بالتصوّرات الدينيّة المتعلّقة بأصل العالَم والإنسان وغيرها، لم يعُد لها وجود يُذكر، وانسحب على ذلك تحوُّلٌ في اللّغة الفلسفيّة إلى لغةٍ مفهومة تعبِّر عن قضايا الواقع تراجَعَ عنها التجريد إلى حدّ كبير.

    التحولات التي جرت في الفلسفة فتحت الطريق أمام إمكانيّة انتشارها في الواقع العربي.. فالموضوعات التقليديّة السابقة التي كانت تصطدم بالتصوّرات الدينيّة المتعلّقة بأصل العالَم والإنسان وغيرها، لم يعُد لها وجود يُذكر

وتمّ أيضاً التخلّص من الغموض والالتباس والنخبويّة نحو الدقّة والوضوح والابتعاد عن المصطلحات الميتافيزيقيّة المجرَّدة. دفعت هذه التحوّلات إلى تبديد الادّعاءات السابقة حول عدم أهميّة الفلسفة للإنسان وواقعه وعدم جدواها في حلّ مُشكلاته.

إنّ ما جرى ويجري في المائة والخمسين عاماً الأخيرة من تطوّرات في الفلسفة يقدِّم إمكانيّة كبيرة للمُشتغلين فيها في العالَم العربي لنشْر الاتّجاهات الفلسفيّة المُعاصِرة والاهتمام بالقضايا الإنسانيّة الحيّة وفق أبعادٍ فلسفيّة أصبحت في زمن العولمة قضايا ومشكلات واحدة تقريباً في مختلف أنحاء المعمورة. وهذا يستدعي من القائمين على تدريس الفلسفة القيام بتحديث مَناهج تدريسها ومُواكبة تطوّراتها المُعاصرة ونشْرها بين العامّة واستخدام الوسائل الإعلاميّة كافّة وغيرها لإيصال الأفكار الفلسفيّة لأكبر عدد مُمكن من الأفراد.

والمطلوب أيضا السير على خطى أساتذتنا الذين عملوا على ربط الفلسفة بالواقع وتبسيط موضوعاتها ولغتها، حيث سيُسهم ذلك في إحداث تغييرات فكريّة وثقافيّة تُدخِل العرب إلى العالَم المعاصر وتجعلهم يتطلّعون للتقدّم إلى الأمام لا العودة إلى الوراء.

 

  • كاتِب وأكاديمي مختصّ بالفلسفة من الكويت

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي