امرأتان تلتقيان في مكان غريب وترويان تاريخ الهند الدامي

2019-10-27

ممدوح فرّاج النّابي


يعتبر المجتمع الهندي من أكثر المجتمعات التي تزخر بتنوع كبير، حضاريا وفكريا وثقافيا وحتى دينيا، ولكن هذا التنوع وإن كان نقطة دفع، اقتصاديا، يبدو خلفه جو قاس من الصراع الذي يصل حد إلغاء الناس لبعضهم بعضا. عوالم كثيرة تتصارع وتتناحر لأجل الثروة أو الدين أو العرق أو فرض وجودها. عوالم نقلتها الكاتبة الهندية أرونداتي روي من خلال رواية جديدة كتبتها بعد انقطاع عن كتابة الرواية دام عشرين سنة.

بعد مضي أكثر من عشرين عاما على صدور روايتها الأولى “إله الأشياء الصغيرة” 1997، تعود الكاتبة والناشطة الحقوقية الهندية أرونداتي روي إلى عالم الرواية من جديد بروايتها الثانية “وزارة السعادة القصوى” (التي صدرت عام 2017، وترجمها إلى العربية أحمد الشافعي، عن دار الكتب خان بالقاهرة 2019) فوفق تعبير المؤلفة نفسها فإن الرواية “وحدها قادرةٌ على احتضان العالم الذي كان يتكون داخلي”.

خلال فترة الانقطاع، تواصلت أرونداتي روي مع فنون كتابية أخرى غير السرد، فأصدرت حوالي 18 كتابا، كانت بمثابة تعليقات ثقافية وسياسية شملت الشأن الهندي والعالمي، كما أن هذه الكتابات جعلتها دائما في دائرة الاتهام بل وقادتها إلى المحاكمة. ومن هذه الكتب “نهاية الخيال” 1998، و”ثمن العيش” 1999، و”حديث الحرب” 2003، و”الرأسمالية: قصة مرعبة” 2014. أحداث روايتها الجديدة لا تبْعد عن سياق تلك الكتابات التي تحدثت فيها عن أوضاع الهند وقضية الصراع مع كشمير.

مدنية زائفة
لا ينفصل العالم الروائي في الرواية الجديدة، عن العوالم التي نسجتها أرونداتي روي في الرواية الأولى “إله الأشياء الصغيرة” حيث الثيمة الأساسية المشتركة بين الروايتيْن، هي الانقسام الحاد في بنية المجتمع الهندي، وصراعاته الدينية والإثنية والطبقية، التي لم تتغير على الرغم من حدوث متغيرات عالمية، وأخرى محلية، إلا أن الظروف السياسية لم تتبدل، ولم تحدث بارقة أمل، أو تعايش أو حتى وجود حالة من الاحتواء وخفض أصوات الصراع.

تتوسع الكاتبة في الرواية الجديدة “وزارة السعادة القصوى” لترصد لنا التحولات السياسية وتبدل أنظمة الحكم وفْق أيديولوجيات حزبية، وقوى خفية تحرك خيوط اللعبة لصالح مصالحها الشخصية (أرباحها)، وعلو نبرة الخطابات والشعارات المنسجمة مع المرحلة الجديدة، بنبذ الفساد، وإعلاء القومية كشعارات “أمنا الهند، الهند الهند” وغيرها. وكذلك حركة الصعود التي بدأتها الهند، في رحلة سباقها مع اقتصاديات العالم الأول.

  يعتبر المجتمع الهندي من أكثر المجتمعات التي تزخر بتنوع كبير، حضاريا وفكريا وثقافيا وحتى دينيا، ولكن هذا التنوع وإن كان نقطة دفع، اقتصاديا، يبدو خلفه جو قاس من الصراع الذي يصل حد إلغاء الناس لبعضهم بعضا. عوالم كثيرة تتصارع وتتناحر لأجل الثروة أو الدين أو العرق أو فرض وجودها. عوالم نقلتها الكاتبة الهندية أرونداتي روي من خلال رواية جديدة كتبتها بعد انقطاع عن كتابة الرواية دام عشرين سنة.

ولكن، وهو العجيب، أن الهند استمرت في رحلة صعودها دون أن تتخلى عن ميراث الماضي، الحافل بالاضطهاد، والعنصرية، فأخذت آفاق الحداثة والمدنية تشرق، وفي الوقت ذاته كانت آثارهما تسحق الفقراء دون شفقة. وهي مدفوعة بحملة من الانتهازيين لترويج هذه المدنية، ففي نظرهم أن “أحدا ما ينبغي أن يدفع ثمن التقدم“، ومن ثم اكتست المدن بروح المدنية الغربية فما “عاد لزاما على الفرد أن يسافر للتسوق بالخارج؛ فالبضائع المستوردة متاحة هنا”، ولم لا فبومباي صارت نيويورك الهندية، وبالمثل دلهي صارت واشنطن الهندية، وكشمير هي سويسرا الهندية.

يتجلى في الرواية – بصورة معمقة – واقع الهند المأساوي، وصراعاته التي تمتد إلى عصور طويلة، التي تبدأ مع تاريخه الحافل بالإقصاء والتمييز العنصري. وأيضا تبرز هيمنة الإرهاب على العالم، فلم يعد الإرهاب شأنا محليا يخص القضية الهندية، ومحاولات أطراف الصراع الهندوس والمسلمين إبادة بعضهم البعض، وهو ما ولد حالة من الفوبيا من إعلان الديانة، فصار المسلمون يخفون هويتهم الدينية، في ظل هذا العداء المستميت.

وكذلك برزت قضية كشمير ومحاولات الانفصال، وما تبعها من احتراب واغتيالات. حالة الاحتراب تتجاوز الهند إلى العالم كله، فنرى أبراج التجارة العالمية تنهار في الحادي عشر من سبتمبر، وإعدام صدام، واقتحام القوات الأميركية للعراق وغيرها من أحداث، والحرب الأميركية على أفغانستان، وما أعقبها من نزوح الملايين إلى الهند.

وقد ولدت هذه السياسات القمعية الجديدة، إرهابا جديدا عبر خلق طبقات من الرأسمالية الجديدة، التي كانت قاسية القلوب في معاملتها واستغلالها للعمال على نحو مدام سنجيتا صاحبة “شركة الأمن والأمان لخدمات الحراسة”.

تكشف أرونداتي الجرح المؤلم في مجتمعها والتناقضات في هذا المجتمع الذي يقود امرأتين إلى أن تنسحبا إلى الهامش، بعدما فشلتا في الاندماج في هويته.

عوالم متداخلة
تقدم الروائية، عبر زمن الرواية الممتد – في رحابة وسعة مقصودتيْن – ستين عاما، تاريخ الهند في أساطيره، وخرافاته التي نسجها وآمن بها العامة حول رجال الدين وأصحاب الأضرحة (حضرة سرمد الشهيد)، وأيضا في صراعاته وانقساماته ونكباته وأزماته التي رافقته في رحلة صعوده، ما بين صراعات طائفية، وحزبية، وهيمنة جماعات متطرفة، أغرقت الهند في بركة من الدماء، حتى وجب على البعض “أن يموتوا لكي ينجوا من الموت”، وأوجاع لم يندمل جرحها، كما تكشف عن لعبة الخيانات والولاءات التي قادت القادة لجرائم لم تغتفر.

توزع المؤلفة مسارات ألحكي في روايتها التي تصل إلى أكثر من 600 صفحة على عالميْن؛ عالم أنجم منذ ولادتها لأسرة فقيرة، واعتقاد الأم أنها ذكر أطلقت عليه آفتاب، التي تتمرد على الجزء الذكوري، وتستجيب إلى طبيعة الأنثى فيها، وسط معارضة الأسرة، ومقاطعة الأب لها، وانتقالها إلى العيش في “الخواب جاه”، إلى هجرهم وانتقالها إلى عالمها الخاص في المقابر، لتؤسس عالما بديلا عرف باسم “نزل جنة للضيافة” يأتنس به كل مطرود من عالم الدنيا.

صورة دقيقة أقرب للتوثيق لمجتمع الهند
أما العالم الثاني فهو عالم تلو المعمارية، التي تعكس هي الأخرى عالم العنصرية والانتهازية التي يعيش فيها مجتمع الطبقة المخملية، ومن ثم تهرب هي الأخرى من الحي الدبلوماسي الذي كان يقيم فيه ابن السفير شيفاشنكار هاريهاران، إلى مجتمع أنجم، وتقيم معها في نزل جنة للضيافة. فتكشف بهذا الانسحاب انتهازية العالم الذي تركته، ناشدة البراءة والنقاء.

تتميز الرواية بالتشعب في الحكاية، حيث تتوالد حكايات من حكاية، وكأننا إزاء بكرة خيط تتداخل الخيوط باختلاف ألوانها؛ لتكون في النهاية لوحة البازلت الخلابة، التي لا تبرز فيها الخيوط منفصلة، بل مدغمة في تكوينها الكلي، حيث تقدم صورة دقيقة أقرب للتوثيق والتسجيل لمجتمع الهند في كافة ظروفه.

صورة دقيقة أقرب للتوثيق لمجتمع الهند

لا تتورط الكاتبة في صيغة المؤلف الضمني مع الوقائع، بل تسرد بحيادية، فكما تعرض للانتهاكات التي تعرض لها المسلمون لأسباب عدة، كتحديد النسل، وهو ما تبلور في خطاب عنصري من قبل الرجال ذوي الأزياء الزعفرانية “ما للمسلمين إلا مكانان، المقبرة أو باكستان” أو تلك التي تعرضوا لها من الهندوس، تعرض أيضا لصور من الإرهاب الذي تعرض له الهندوس من الجماعات الإسلامية، التي لم تتوان عن إحراق المئات في قطار الغوجارات، بعد أن شاركوا في شعيرة وضع حجارة في أساسيات معبد هندوسي عظيم، بني على أنقاض مسجد هدم قبل عشرات السنوات على أيدي حشد زاعق من الغوغاء.

ليست قيمة الرواية في موضوعاتها التي نسجتها الروائية باقتدار، بل في تقنياتها الأسلوبية، التي تمكنت من خلالها أن تتحايل على الملل الذي يتسرب إلى قارئها من قراءة رواية ضخمة بهذا الحجم، خاصة وقد بشرنا كالفينو “بأن عصرنا لم يعد عصر الروايات الطويلة”. فكسرت الملل بتقنيات حديثة، وعملت على إحداث التشويق، بتقنيتي القطع والتضفير، حيث زاوجت بين الحكايات والشهادات، والتوثيق وهو ما جعل حكايتها تتقاطع بين التخييلي والواقعي التاريخي. فتتوازى عين الراوي مع عين المؤرخ في سرد الكثير من التفاصيل، التي قدمت صورة تاريخية متسلسلة زمنيا لهذا الصراع، وطبيعته ودوافعه.

تتقاطع شخصيتا أنجم وتلو، على رغم بعد عالميهما، حتى تصل بينهما لا فقط على مستوى لجوئهما إلى ذات المكان، بل كانتا شاهدتين على مآس ومذابح وحملات إقصاء وقتل وإبادة.

في الأخير، روي كاتبة كبيرة مزجت السياسي بالاجتماعي وخلقت عالما أقل ما يوصف بأنه “مبهر منسوج بإحكام”.

 


*كاتب مصري

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي