العبث بالفن بحجة الأخلاق

2019-09-30

سعد القرش*

التزوير والتحريف سمتان بارزتان في التاريخ العربي، لكنهما لم تتوقفا عند الأحداث التاريخية لغايات سياسية، بل طالتا حتى الإبداع. الكثير من النصوص يقع تحريفها عن أصلها وخاصة القصائد المغناة، الحجج لذلك كثيرة فيها السياسي أيضا، لكن فيها كذلك الأخلاقي، حيث ما زال الفعل الإبداعي في الوطن العربي محكوما بالأخلاق لا في بعدها الفلسفي وإنما في تمثلاتها الشعبية السطحية ذات المخيال الجنسي الساذج.

لم يرصد باحث أعداد المسلمين ممن ألحدوا، أو تخلوْا عن التزاماتهم الدينية في العبادات والمعاملات، بسبب نشر كتاب يُتهم بخدش الحياء، أو إذاعة أغنية فيها لفظ يؤذي أسماعهم. والقاعدة الذهبية هي حديث «دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك»، فإذا كنت مرهفا تخاف على نقاء إحساسك من «الشوائب»، وعلى أخلاقك من التشوّش، فاترك كتاب ألف ليلة وليلة، وستجد غيره أكثر تهذيبا وإخصاء، ولن تعدم من يشبهك وقد «هذّب» الليالي وجعلها على مقاس يريده قارئ مثلك.

وقد قضيت ساعات مع طبعات مختلفة، ورقية وصوتية، من أغنية «على قدّ الليل ما يطوّل» التي كتبها بديع خيري. هي ديالوج بين سيد دروش وحياة صبري في مسرحية «العشرة الطيبة» عام 1920. وكانت عائشة عبدالعال ملهمة الشيخ سيد درويش، واختار لها اسمها الفني «حياة صبري»، ثم زالت عنها الأضواء، وتغيرت الدنيا، واستشهد ابنها الرائد جميل إبراهيم عام 1954، وعرفها الجيران بأم جميل.

الأغنية الأصلية تختلف عن نسخها الحديثة بأصوات آخرين، كما يختلف عنهما النص الوارد في «موسوعة أعلام الموسيقى العربية»، التي أصدرتها مكتبة الإسكندرية عام 2003، وحظي منها سيد درويش بمجلدين. في النسخ الحديثة من الأغنية تقول المرأة: اوعى يكون حدّ شايف طيفنا

ويرد المغني: حبّنا طاهر ايه يخوّفنا؟

اعتبار «على قدّ الليل ما يطوّل» مجرّد أغنية يهدر سياقها في المسرحية، وهذا الحوار الغنائي جزء من العرض، ويدور بين بطليْ المسرحية، سيف ونزهة التي تقول في النص الأصلي: اوعى يكون حدّ شايف طيفي

ويرد سيف: حُطّي في قلبك بطيخة صيفي

والدلالة المصرية للبطيخة الصيفي هي طمأنة المخاطَب بالقول «حُطّ في بطنك بطيخة صيفي»، ويلي ذلك مباشرة توسّل سيف إلى نزهة، بصوتيْ الشيخ سيد درويش وحياة صبري: شفّتي بتاكلني أنا في عرضك/ خلّيها تسلّم على خدّك.

وترد نزهة: يُوه، يا دين النبي تنّك سارح/ ما شبعتش من ليلة إمبارح.


ولكن الموسوعة، ويفترض أنها جهد علمي يعنى بالتوثيق لا الأخلاق، خشيت على قارئ يفترض أنه متخصص، فتجاهلت توثيق النص الأصلي للأغنية، واعتمدت على النسخ الصوتية المنقّحة، وساءها ذكر الشفاه والخدود في أغنية، فكتبت النص كالتالي: مهجتي في إيديك أنا في عرضك/ خلّيها يا روحي أمانة عندك.

وجاء الرد المهذب خاليا من كلمتيْ «دين النبي»:يُوه، عجب العجب تنّك سارح/ ما أنا لسه مقابلاك إمبارح.

كما أسقطت الموسوعة أيضا دعابة البطل، في نهاية الأغنية بأداء تصويري: «ادّيني بوسة، طبْ هاتي بوسة».

في النسخ الحديثة من بعض الأغاني المصرية جناية على الأصل، وخيانة وتزوير أيضا، ولا تندهش حين تسمع من يختم «الأطلال» لأم كلثوم هكذا «لا تقل شئنا فإن الله شاء»، بدلا من «فإن الحظ شاء». وكانت أم كلثوم نفسها رائدة، وبنفسها غيّرت في سن مبكرة، لكي تحافظ على صورة مثالية أصابها الاهتزاز بأغنية «الخلاعة والدلاعة مذهبي من زمان».

  حتى أم كلثوم خافت من الأخلاق العامة ومن اتهامها بالخلاعة لذا غيرت في بعض أغانيها حتى أن رتيبة حنفي في كتابها "أم كلثوم" تقول إن الفنانة أخطأت بنزولها عند رغبة الجمهور

في هذا الفيلم المناصر للحرية، من دون أن يرفع شعارا صاخبا، شاهدت للمرة الأولى أيضا منيرة المهدية في تسجيل تلفزيوني كان نادرا قبل اليوتيوب. ولم أجد في أغنية «الخلاعة والدلاعة» إلا مجاولة لنزع هالة القداسة عن أم كلثوم، فلا الأغنية عيب، ولا المغنية الشابة أجرمت.

كانت الآنسة أم كلثوم بنت زمانها، واستجابت لروح ذلك العصر، واتسقت مع بشريتها التي يحاولون تجريدها منها. وفي كتابها «أم كلثوم» تقول رتيبة الحفني إن «أم كلثوم أخطأت مرة، بنزولها على رغبة الجمهور»، في تقديم تلك الأغنية، وقد لامها محبوها «على انسياقها وراء موضة العصر من الأغاني الهابطة الخليعة»، فسارعت إلى جمع الإسطوانات من الأسواق، ودفعت تعويضا لشركة الإنتاج، ثم قدمت الأغنية مرة أخرى، بعد أن أجرى أحمد رامي تعديلا على الكلمات التي أصبحت «الخفافة واللطافة مذهبي من زمان».

جرى ذلك عام 1926، حين كتب ولحّن أحمد صبري النجريدي أغنية «الخلاعة والدلاعة». ويورد المجلد الخاص بأم كلثوم في «موسوعة أعلام الموسيقى العربية» نص النجريدي ويستبعد «تهذيب» أحمد رامي. وقد كان لأم كلثوم مثقفون، وقيل إن محمد التابعي أخرجها من ذلك الحرج بزعم حدوث انتحال، والقول إن في سوق الغناء «أمهات» كلثوم، وإن إحداهن افتعلت هذه الأغنية، لكي تسيء إلى الآنسة أم كلثوم.

في ذلك العام، 1926، لحّن أحمد صبري النجريدي لأم كلثوم أغنيات منها «الحب كان من سنين»، «الفل والياسمين والورد»، «أنا على كيفك»، «شُفت بعيني ما حدّش قال لي»، «كم بعثنا مع النسيم سلاما»، «لي لذة في ذلتي وخضوعي»، «مالي فتنت بلحظك الفتاك»، «يا ستي ليه المكايدة»، «يا كروان والنبي سلّم»، ثم اختفى. استمتعت الآن، بعد كتابة هذه السطور، إلى هذه الأغاني بهذا الترتيب، وختمتها بأغنية «الخلاعة والدلاعة»، وتساءلت: هل أصابت النجريدي لعنة أم كلثوم، وكان أول ضحاياها؟

*روائي مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي