نجيب محفوظ .. صانع الحكاية و«حرافيش» الكتابة

2019-09-29

عبد الحفيظ بن جلولي*

ما يزال سؤال الرواية قائما في وعي الكتابة الإبداعية لعدم التمكن من الوصول إلى مستوى روائي يجعل من الرواية العربية تتجاوز سقف المحفوظية، الناجزة في الحكاية الواقعية ومحلية الحارة المصرية، التي جعلت النص مرتبطا بوعي إنساني أوصل محفوظ إلى العالمية وتجلياتها النوبلية، وهناك من يقول بأن هذا الكلام فيه تجن على راهن الرواية العربية، لكن ما نتجاهله هو أن هذه الأخيرة تفتقد الزخم النقدي المجاور لها، المتابع لفعالياتها، والماتح من تجلياتها، حيث تنبثق الرؤية والتصور للعمل السردي كمسار تنظيري يسند التجربة ويهيئ الكتابة كي تتسلح بنظرياتها، وهنا يمكن أن نقول بأن الرواية العربية زاحمت الإبداعية الكونية على مسرح الخصوصية.

هيمنة نجيب محفوظ ووعي الرواية العربية:

لما نحت محمد عابد الجابري مصطلح «العقل المستقيل»، كان حينها مهموما بمعوقات التفكير التي جعلت العقل العربي يتخلف عن وعي مصادره الدافعة لإنتاج منظومات التفكير، وهذا ما جعله يفكر بطريقة مختلفة في «العقل البياني» الذي يخضع في إنتاجيته لـ«الأعرابي صانع اللغة»، وليس لمدارات التفكير الأصيلة لدى المفكر العربي، كالجاحظ مثلا، الذي يعتبر الجابري إنتاجيته

حصيلة لوعي ذلك الأعرابي صانع اللغة في البادية، ومن هنا يبدو أن الجابري ينتقد ما يمكن أن نسميه «العقل الصفائي» الذي يرتكز أساسا على الأصل النقي فاصلا ديمومة حراكه الراهن عن ذاتية إنتاجية معقولياته، وانطلاقا من هذا المفهوم يمكن أن نقول بأن الرواية العربية مع ما تشهده من تطور، إلا إنها لم تستطع أن تعلن انفكاكها عن السقف المحفوظي، الذي مازال مهيمنا على إنتاج الحكاية ومسطرا لأقدارها السردية، فـ»محفوظ صانع الحكاية» يعود مع كل سطر في الرواية ما بعد الواقعية، لكي يوجه السرد لاكتشاف زاوية كانت مخفية في الوعي السردي العربي، وبذلك ضمنت الرواية المحفوظية هيمنتها على الوعي الإنتاجي، من حيث الزخم الحكائي والفلسفي والتاريخي، الذي طرحته من حيث الرؤية والتصور، فكل ما تفعله الرواية اليوم في محاولاتها الانفصال عن الأب المؤسس، هو الوقوع خلال مسار التمرد على تلك المفردة التي كانت مطمورة في المنهج الروائي المحفوظي، وبذلك تعود التجربة إلى نقطة البداية وتحاول من جديد.

عباءة محفوظ واستمرار الحكاية:

إن هذه المشكلة كان يعاني منها «حرافيش» نجيب محفوظ الذين خرجوا من عباءته كجمال الغيطاني ويوسف القعيد، على سبيل المثال، فجمال الغيطاني ما انفك يؤكد على إنه ابن محفوظ الروحي والقريب منه، كما لا أحد غيره، لكنه يختلف عنه فنيا، فالمشروع المحفوظي هو استمرار للتجربة الروائية الغربية، بينما الغيطاني عاد بالكتابة الروائية إلى أصولها السردية العربية، والقعيد يرى بأن أهم سؤال يطرحه جيله هو هل نجيب محفوظ شكل عقبة أمام هذا الجيل؟ وحتى الناقد محمود الضبع يقول في إحدى مداخلاته: أنا لا أعرف، في ساعات أسال في نفسي أني لما أتكلم عن نجيب محفوظ، هل أنا أتكلم بحب زائد؟ أم هو فعلا يستحق؟

فالتأكيد على القرب من نجيب محفوظ ومحبته، قد يؤكد الزعم في استمرار مسار الرواية المحفوظية في كتابات تلاميذه، ذلك أن وعي الهيمنة يمتلك جاذيبة قصوى في جعل التلميذ، يتكرس في مرتبة المريد والتابع، فالوعي بالمتبوع نشأ بعيدا عن أي نقدية قادرة على أن تتجاوز المنجز المحفوظي وتسير به إلى مناطق التفكيك، والانفراد الذي تكمن فيه مفاتيح وإرهاصات نظرية عربية في الرواية، فلا العقل النقدي استطاع أن يصل تلك المنطقة، ولا هو راكم المعرفة النقدية المتعلقة بالإنتاج الروائي ما بعد نجيب محفوظ والمساهمة داخله لتجلية خيوط رؤية نقدية عربية.

 

لا يمكن أن نفصل في عالمنا العربي الإحساس بالغربة والتخلف عن ركب التطور عن الوعي الجمعي المناهض للجماليات الممكنة في الكتابة والفن على العموم، لذلك نجد الكثير من الانتقادات للعمل الإبداعي تنطلق من قناعات بعيدة كل البعد عن «العملية الابتكارية»

 فالأسماء التي جئت على ذكرها على سبيل المثال، قربها من نجيب محفوظ غطى على إمكاناتها في البحث عن إوالية سردية لا تقول باختلافها عن تجربة نجيب محفوظ ولكن تترك مساراتها ونتائجها هي التي تفعل الاختلاف، وفي هذا يكمن سبب التعلق الشديد والوجداني بالتجربة المحفوظية، فالسرد المحفوظي ليس من السهل الانفكاك من علائقه، لأن روايات نجيب محفوظ «تمثل لحظة انعطافية في سيرورة الرواية العربية»، كما يرى عبد الله خليفة، ولهذا أرى بأن ما دعا إليه الناقد المصري محمود الضبع من تأسيس معهد لدراسات وبحوث نجيب محفوظ، على غرار معهد غوته، يعتبر أفضل وسيلة لجمع المادة الروائية لنجيب محفوظ، وكل ما كتب عنها وتناولها بالدرس، ومن ثمة تنطلق العملية النقدية الناظرة في المنجز ما بعد المحفوظي في قراءة مقارنة كخطوة أولى لفك الارتباط بين وعي الرواية في مسار التأسيس والتجريب، ووعيها في مسار الخلق والإبداعية اللامرتبطة، وهذا لا يعني إهمال الخط الروائي المحفوظي، لأنه، وبكل بساطة، اندرج في منظومات التفكير الإبداعية الروائية والنقدية، وصار من مشتملات الذاكرة، التي نستدعيها كلما حاولنا تذكر البداية أو استبانة طرق الابتكار، فلا يمكن أن نبتكر من فراغ.

الرواية الأوروبية والتنظي:

إن زعمي القائم في عدم تجاوز الرواية العربية سقف رواية نجيب محفوظ، يتأسس على جدلية التنظير للرواية، انطلاقا من التدافع الموضوعي الروائي على منبر الوجود، فالتراكم الروائي الغربي واكبته حركة نقدية من لدن نقاد كبار استمتعوا بالجمالية الروائية الغربية في تسلسلها منذ اللحظة اليونانية إلى لحظة الراهن، وفي هذه النظرات والرؤى النقدية تمكن الوعي النقدي/الروائي الغربي من حلحلة السكون والتراكم التاريخي عند اسم أو جيل بعينه ليفسح المجال للعطاءات الروائية المتتالية كي تغنم وتفرح بمنجزها الفريد في رؤيته والمجدد لحركة الرواية الغربية، وكان الروائيون في العديد من الأوقات يساهمون هم أنفسهم في هذا الحراك النقدي، باعتبارهم ذوي تجربة ويتكلمون في العملية الإبداعية من داخلها، كميلان كونديرا في «فن الرواية» و«الوصايا المغدورة» و«الستار»، وغابرييل غارسيا ماركيز في «كيف تُكتب الرواية»، وما يتيح للتجربة أن تندفع إلى أمدائها القصوى، هو البحث في العملية الفنية انطلاقا من لحظة وعي نقدية، كما فعل تولستوي في «ما هو الفن؟».

ولم تكن تجربة الناقد الفرنسي جيرار جنيت بعيدة عن هذا المسار في تفكيكه للبنية السردية في تقنية الكتابة عند مارسيل بروست، في كتابه الرائع «خطاب الحكاية»، ثم مراجعة هذا المؤلف بعد الانتقادات الواسعة التي وجهت له، وبعد التطور الحاصل في مجال السرد أيضا، وهو ما يسمح بإمكانية التجاوز مع الاحتفاظ بالخط الماسك لمسار التجربة منذ انبثاقاتها الأولى وحتى راهن الكتابة الحداثية.

حول الكتابة أو النقد السالب:

لا يمكن أن نفصل في عالمنا العربي الإحساس بالغربة والتخلف عن ركب التطور عن الوعي الجمعي المناهض للجماليات الممكنة في الكتابة والفن على العموم، لذلك نجد الكثير من الانتقادات للعمل الإبداعي تنطلق من قناعات بعيدة كل البعد عن «العملية الابتكارية»، أي «المسلك الذي يتخذه الفنان (من بدايته إلى نهايته) لكي يصل إلى الغاية الأخيرة التي يحققها»، كما يقول محمود البسيوني، فالعمل الفني هو عبارة عن محاولة تشتبك فيها قوى العقل والوجدان لإدراك حالة من حالات الغياب/الحضور، اللامفسرة واللامبررة، التي لا يمكن تفسيرها سوى بنتائجها المقررة إبداعا في واقع اللحظة الإنسانية الموشومة بالموهبة الخلاقة، ولهذا لا يمكن أن نفسر ما تقوم به بعض الفعاليات من انتقاد المادة الإبداعية، من وجهة نظر تقويمية بمساطر خارج بنية النقد الفني، إذ يمثل هذا إجهازا على جهاز الابتكار وتعطيلا لفعالية النقد الحقيقية التي ترتكز على المعرفة والتجربة والذائقة، ومن هذه الحالات المعطلة لحركة الفن والإبداع، مسطرة يجوز ولا يجوز، إذ ما يسكن وعي المنتقد في هذه الحالة ليس النقد بل الوعظ، وهو يتصور أنه يوجه المبدع لكي يكتب حالة إبداعية تخضع لأخلاقية ما، وبالتالي فهو لا ينطلق سوى من رؤية فقهوية للعمل الإبداعي، الذي يعتبر أصلا إنتاجا عقليا بمعطيات روحية تستأنس بالدلالة والتأويل والرمز، لأن الإبداع لا يخضع سوى لشرطية الخلق والابتكار، وهذا لا يعني تجاوز أخلاقيات مجتمعية كما يحلو للبعض أن يمارسها خارج نطاق الأطر التي تحكم المجتمع، لأننا شئنا أم أبينا فنحن نخضع لمنظومات مجتمعية وجب التعامل مع معطياتها الوجودية الحاكمة لنظام معاشها السياسي والثقافي والعقدي وفق الأطر الناجزة في الوعي الفوق صدامي، أي المتجاوز لخرق معايير المجموعات الاجتماعية، كما يؤكد ريجيس دوبريه الذي «يكشف على أن الأيديولوجيا هي عاطفية ومرتبطة بأمر الانتماء إلى مجموعة إنسانية».

٭ كاتب جزائري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي