«سوريو الباصات الخضر»: نبض سوريا في المقام الفلسطيني

2024-03-10

عبدالحفيظ بن جلولي

نقرأ ثم نعيد القراءة، نتمعّن في العنوان وصاحب الكتاب، ثم نقرّر خوض مغامرة السياحة في عالم الكلمات والمعنى، خصوصا إذا كانت التجربة مستعادة على وقع قراءة سابقة. وجدت بين يدي كتاب راشد عيسى «سوريّو الباصات الخضر» وكنت قد قرأت للكاتب «إنّها تدور/ مقالات في السّينما» حول سينما التوثيق في سوريا الجريحة، سوريا هذا الموضوع المتعدّد الأوجه، لكن بمعنى واحد، سوريا تلك التي ولد فيها راشد عيسى وهو الفلسطيني، فهو «سوري فلسطيني» لكنّه مع الأزمة السورية حسم فلسطينيته لأجل «القضية» الحرية والتحرّر معنيين فطريين ولدا مع الإنسان، فـــ «متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا» كما روي عن عمر رضي الله عنه.

سؤال الهوية و«المخيم» الجسر

الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات تحلّل المواجهة مع حقيقة النّظام السّوري، كُتبت بروح أدبية عالية، حتى لكأنّني في بعضها رأيتني أقرأ مقاطع من الشّعر لنيرودا بنكهة سردية، ما الذي جمع بين راشد عيسى ونيرودا، أظن ذلك الذي ذكره المسرحي العراقي جواد الأسدي في كتابه «الموت نصا/حافة المسرح» حول نيرودا، «لم نعرف من تشيلي وقتها سوى الحاكم والشاعر، الديكتاتور والقصيدة، والموت والحياة». افتتح كتابه بمقال «وهذه هويتي» يبدو أنّه البؤرة المركزية التي تدور حولها كل معاني المقالات الأخرى.

كان على راشد عيسى أن يحسم أمرا يجد من الأهمية بمكان البت فيه، وهو «الهوية» منطلقا من أمين معلوف، الذي حسم موقفه في «الهويات القاتلة» بامتلاكه «هوية واحدة مكوّنة من كل العناصر التي شكّلتها» وهو ما يأخذ بيد الإنسان بعيدا إلى تموضعه على شفتي الجرح الهوياتي وسؤال من أنا؟ وخصوصا في وضع كما ذاك الذي وجد الفلسطيني فيه نفسه في سوريا، شعب ينتفض من أجل حرّيته، من أجل أن يعيش في مستوى إنسان فقط، هنا تغلّب الإحساس بالحياة التي لا تقبل العبودية للغير لأنّ فطرتها «الحرية».

حسم راشد موقفه الهوياتي، «فقد احتاج الأمر ثورة كتلك التي انطلقت عام 2011 حتى يجد المرء في» فلسطينيته السورية « حلا مناسبا لا كهوية، بل عبر خيار الانتماء لقضية. ينطرح سؤال الهوية التي تتماهى مع القضية وإلى أي مدى يمكن للإنسان باعتباره صاحب قضية أن يكون «إنسانيا» في مواجهة نشاز «الوجود المعطوب» الذي يتسبّب فيه الديكتاتور في المطلق؟

يتأسّس الفلسطيني في أزقّة العالم وحاراته وشوارعه الفخمة باعتباره إنسان، فقط يبحث عن صورة للوطن، الذي بداخله، لا يريد المكوث بين تلك الجدران، هاجس «العودة» هو ما يحرّكه، وعبر هذا الإحساس يقودنا راشد عيسى إلى ما هو أهم في المأساة الفلسطينية، فكرة «المخيّم». هل الفلسطيني وهو يعيش حياته في عواصم العالم الكبرى وحتى الصّغرى يشعر بذاته في مخيّم؟ وهل المخيّم هو المرحلة الفاصلة في تذكير الفلسطيني بالوطن؟ «كان المخيّم وما زال يحتفظ بصورته كمخيّم» يستذكر الكاتب صورة مخيّم «اليرموك» حتى أواسط الثمانينيات في سوريا، كان «ملاذا حتى للسّوريين» بمعنى إنّ الوطن الذي كان «قوميا» ضاق بأهله واتسعت لهم صدور اللاجئين في «المخيّم» فما أضيق «الوطن» وما أوسع «المخيّم».

اللجوء… فلسفة الطريق وحنين العودة

«سوريو الباصات الخضر» عنوان الكتاب وهو عنوان مقال أيضا ضمن مواضيع المؤلف، ولعل العنوان يستدعي مجموعة من الأسئلة، فبمفهوم المخالفة، هل يوجد «سوريو باصات لون آخر»؟ طبعا القراءة سوف تكون أكثر انكشافا حين يتعرّض الكاتب إلى جدليتي «سوريو الداخل وسوريو الخارج» وهي محاولة لتفكيك المجتمع السّوري بتأجيج استقطاب حاد للمواطن في الداخل والخارج، وتأكيد أنّ الداخل هو «الوطنية» وأنّ الخارج هو «الخيانة» وبالتالي، يصبح حتى ذاك الذي لم يكن يوما اصطفافيا، ولا مؤدلجا، ولا مهتمّا أصلا بأيّ شيء سوى لقمة العيش والسّير تحت ظلّ الجدران، ولم يهاجر إلا بهدف أن يجد مرفأ آخر يستمر فيه كإنسان، يصبح هذا النّموذج عنصرا ضد الوطن، فقط لأنّه اختار «الرّحيل عكس الوطن من أجل تصويب أدق؟» لكن راشد باعتباره ممارسا للجوء لا يترك الجملة معلقة يلحقها بــ «وإنّنا لعائدون؟».

ما بين «العودة» و«الرّحيل» وآلة ذلك «الباص» ينبثق «الطريق» الذي هو مسار الوجهات وبه تتحدّد المحطات، لكن من خلاله تتفجّر كل الأسئلة الحارقة، فالمهاجر ترك وطنا وبيتا وأملاكا وذاكرة وعلاقات – ربّما رواية «ملكة الفوعة تلميذ بنّش» لشعبان عبود، تروي سلطة العلاقات وحرائق الذاكرة التي مزّقها الاستبداد – ترك شمسا لا يمكن أن تشرق بالطريقة ذاتها سوى في وطنه، الذي خلّفه وراءه كأمنية للعودة تحت قصف الاستبداد، الذي تجاوز مفهوم الإنسان ليصير التوحش من أشد المعاني انطباقا على من يهدم البيت فوق رؤوس أصحابه، وهو ينعم بالدفء في فراشه الوثير! على من يفرّق بين الأبناء وآبائهم وهو يحتضن «فلذة كبده» بكلتي يديه!

«لوقت طويل تغزّل سوريون مع أشقائهم الفلسطينيين بأسطورة الطريق، تلك التي تقول إنّ الطريق إلى البيت أجمل من البيت» هذا لأنّ الطّريق هو مسار التأمل والحكاية والنّزق الشّبيه بالحياة، الحياة فرح قد يمثله الطريق، الذي هو وجهتنا إلى الحياة، إلى العمل والمتجر والمؤسّسة والمقهى، لكنّ طبيعته تختلف حين يتعلق الأمر بـ «الطريق» الذي نتخذه مسارا عكس وجهة الوطن! لأنّنا حينها نفقد «البيت» المعلم الذي يتحدّد به استقرار الذّات، والطريق يتحوّل لحظتها إلى معاناة بقدر ما تغذّي رغبة الأمنيات في النّجاة والوصول الآمن، بقدر ما تعاني الانفصال عن ذاكرة الانبثاق الأول والأمن الفطري في حضن سماء الوطن. هي رحلة أهم ما يميّزها «مصاعب الطريق إلى بلد آمن» تلك المصاعب التي تتكلل أخيرا بهوية «لاجئ» وبعدها عداء مصطنع لهذا القادم من ابتلاء القدر وقهر الاستبداد.

يحيلنا راشد عيسى إلى فكرة جديرة بالاهتمام وهي أنّ اللاّجئ السّوري أصبح محسودا على صفته تلك، فكونه ميتا فكرة تريح بعض الذين لا يريدونه منافسا لهم في أوطانهم، أو هكذا يبدو لهم، وأحد عناوين الكتاب تبدو معبّرة حد الحزن، «اللاجئ السّوري: يحبّونني ميّتا» فلكي تكون له كرامة وتخلّد ذكراه، لابد للسّوري أن يموت، أما أن يناضل من أجل الحياة ولو هجرة إلى «أرض الله» فذلك ما لا تريده له الرّغبات المبتورة أصلا عن الحياة، لأنّ معنى هذه الأخيرة كامن في «الإنسان».

تحضر جاهزية راشد عيسى للرّحيل أيضا مثل الملايين من السّوريين، لكنّه كان محكوما بالانتظار إلى أن تحين الفرصة، وخلف هذا الانتظار هناك أعماق تشي باللجوء المستمر والمأساة الدائمة، وهو العابر إلى الوطن من الوطن، يجدّد اللجوء كي لا تنطفئ هوية «العودة» لأنّها بالنسبة للفلسطيني كما جرعة الماء القليلة في صحراء قاحلة تغذّي حياتها إمّا شمس حارقة أو برد قارص، ذلك قدره، ولهذا كل ما سيتذكره هو «الوطن» ولو كان خرابا..

الوطن، سيظل شبحه الجميل الذي يلاحقه تماما كما هي قصيدة كفافيس «المدينة» «لن تجد بلدانا ولا بحورا أخرى، ستلاحقك المدينة..» هي فلسطينيته السّورية التي سوف تنتصر للأرض في النهاية، تلك التي دفعت الآباء والأجداد إلى النور على وجه البسيطة، في أرض تظلها سماء بقدر «فلسطين» بقدر «سورية» وأغاني «راجعين» بكل اللغات. تلك هي أحزان النص في رواية راشد عيسى عبر سردية النّضال ضد الاستبداد، ومن أجل أن يكون اللجوء جسرا للعودة.

بين الأنقاض… بيانو كغيم يمطر حرية

تولد الحياة من بين الأنقاض، ويبقى الأمل المبشّر الوحيد بكيفيات التوائم مع الوضع لأجل التمرّد عليه لاحقا، والأمل قد يكون رغبة نفسية داخلية أو سلوكا معبّرا كما عازف البيانو في مخيّم اليرموك، لم يكن وحيدا، «اللافت هو أنّ الفرقة والبيانو يؤدّون في ساحة خالية، بين المباني المهدّمة، في مشهد ولا أروع لإرادة الحياة». لم يكن المخيم في مرحلة من المراحل كيانا زائدا على أي بقعة في الوطن العربي، كان مكمّلا لهويتها العربية والقومية، كان عنوانا لشرفها المهدور تاريخيا أمام انهزامات الخروج من التّاريخ و»القابلية للاستعمار» بتعبير مالك بن نبي، ولهذا اشتبك وعي الفلسطيني القائم تاريخا في «اليرموك» بهذه الحقيقة عند انفجار الشّارع عام 2011.. كان الحلم كبيرا أن تعود سوريا إلى الحضن القومي الحقيقي وليس المفتعل من خلال الخطاب القومجي العربي، الذي أطاح بكل رغبة في التحرّر من الاستبداد، بدعوى الخطر الخارجي على الأمّة والدولة القطرية.

لا شك أنّنا نتساءل عن «مخيّم اليرموك» أين هو؟ «تدور الكاميرا لتلتقط صور المباني المدمّرة، والآليات المحترقة والمعطلة والصّدئة الموزّعة في المكان، ثم تمضي لتصوّر العازف، والبيانو، لتدور على وجوه المغنّين..». يتتبّع راشد حركة الكاميرا، وكأنّه يوقظ في الضّمير العربي ذلك الإحساس الغائب، عبر تأمل المشهد الكارثي، متابعته في أدقّ تفاصيله، بعدما أصبح خبرا على شاشات الفضائيات، ربّما نتابعه ونحن نحتسي الشاي وتشملنا قهقهات في سمر بليد، هذه هي حقيقة المشهد الدّائر في وعينا المعطوب.. حركة الكاميرا هي ذاتها حركة وجداننا كما يجب أن يكون، عامرا بالمأساة، التي تدفعنا دوما إلى أن نكون في صلب القضية، التي هي قضيتنا في الأساس، غير متغافلين عنها للحظة، وتلك هي وظيفة الصّورة في عصر الميديا الجديدة، تديم الحدث، لكن أيضا نتابع قضيتنا القومية بكثير من الأمل الذي لم تتناساه عين الكاميرا في صور العازف والكورال البسيط، لأنّ القضية برمّتها قضية وجود وليست مهمّة «حدود» والتي تُختصر في كلمات الشباب وأنغام البيانو: «يا مهجّرين عودوا طال السفر وطوّل/يرموك إحنا زنوده عنه ما نتحوّل» فالقضية ليست قضية قُطر بعينه، إنّها أعمق من ذلك، «ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة.. ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة!» بتعبير محمود درويش.

كاتب جزائري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي