العاهة في الرواية العربية: تفكيك السلطوي بالمعرفي

2024-02-26

مروان ياسين الدليمي

تمتلك الرواية من الإمكانات السردية والتقنية ما يمنحها القدرة على أن تتمثل العلاقات الإنسانية وترصد تحولاتها، داخل بنى ومسارات الحياة في حقولها المختلفة. والعاهة في الرواية العربية تم تداولها في نماذج عديدة، ورد قسم منها كعينات للبحث في كتاب الدكتور قيس عمر «العاهة في الرواية العربية» الصادرة طبعته الأولى عام 2022 عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين.

وباعتبار العاهة مفهوما ثقافيا، يتم التعامل معه في أبعاد تداولية واسعة، سواء من منظار الحياة الاجتماعية، أو في قراءات ذات منحى نفسي أو فلسفي، أو لها صلة بعلم الاجتماع، يأتي هذا الإصدار مندرجا في خانة النقد الثقافي، كاشفا بمنهجية أكاديمية توزعت على مقدمة وتمهيد وفصلين وخاتمة، عن تمثلات العاهة، بوصفها نسقا مضمرا في البنية الثقافية للمجتمع العربي، فهي من حيث مفهومها العام تلك المغايرة على مستوى الحسي والمعنوي، بالشكل الذي يفرض على الإنسان إقصاء أو عزلة، تفرض عليه بالقوة أو بالفعل، وتجعله متباينا عن الآخرين ومختلفا عنهم.

مصطلحات موازية

في التمهيد للكتاب الذي حمل عنوان «جينالوجيا العاهة»، يحيلنا إلى الدلالة الحسية والمعنوية للعاهة، ومن حيث المصطلح فيشكل تحديدا منهجيا داخل الحقل المعرفي الخاص به، إذ تعد المصطلحات تقنينا معرفيا، يهدف إلى إقامة حد جامع ومانع، وفي مجال هذا البحث يرى المؤلف أن هناك منظومة اصطلاحية بين تخصصات عديدة تختلف في التسمية، لكنها تتجاور في حيثيات المفهوم. فهناك مصطلحات موازية لمصطلح العاهة والمحايثة ثقافيا ودلاليا له. ويتتبع الكتاب هذه المصطلحات من خلال تتبع دلالاتها الاصطلاحية واللغوية، وإيجاد التعالق بين اللغة والاصطلاح والمسافة الفاصلة والواصلة مع مصطلح العاهة. ومن هذه المصطلحات: الشذوذ في اللغة، الإعاقة في علم النفس، الوصم في علم الاجتماع. ولأجل الإحاطة الكلية بأحوال العاهة آثر الكاتب أن يتتبع أصولها المعرفية، فيقف عند ثلاثة مفاصل: العاهة في الخطاب الديني، العاهة في الخطاب الفلسفي، العاهة في تاريخ الحضارات.

الجسد المغاير والهوية المغايرة

الفصل الأول من الكتاب جاء بعنوان «مرئية الجسد وتشكلات النص»، يقر المؤلف أن أغلب مقاربات الخطاب الروائي التي تناولت الجسد، كانت منهمكة في توصيف خطاب الجسد، وما يشكله الجسد السليم، الجسد التام غير المنتقص منه في بعده المرئي، فهناك مقاربات ايروسية وايديولوجية وعرفانية وجمالية، ومقاربات تقوم على ثنائية المقدس والمدنس. ويصل إلى أن كل هذه المقاربات كانت تعالج نصوصا تحتفي بالجسد على نحو عام.

وقد توزع هذا الفصل على مبحثين، الأول بعنوان «المرئي والمعلن»، والثاني بعنوان «المرئي غير المعلن». في المبحث الأول يرى بأن الجسد المغاير يترك هوية مغايرة تقوم على ربط الشخصية بهذا التشوه أو الخلل العضوي المرئي المعلن للرائي، وهي تشوهات لا يمكن سترها، لأنها تنهض على انكشاف أمام الآخر، الذي سيكشف بدوره عن تلقيه لهذا الاختلاف الجسدي.

المقدَّس والمدنَّس

وفي المبحث الثاني يشير إلى أن الجسد مرئي في ظاهره، لكنه محتجب في الكثير من جوانبه الحميمة، وتطوقه عزلة خاصة، فيكون ساقطا في الظل، بعيدا عن البعد المرئي للآخر، وللحديث عن «أنطولوجيا فاعلية الإقصاء»، يأخذ نماذج من عدة روايات، منها رواية «مرايا الضرير» لواسيني الأعرج، فشخصية الكولونيل «أمير الزوالي» تعاني من عدم الختان، فيكون حضور هذا الجزء من الجسد بوصفه عاهة تعيق حضوره المجتمعي أمام زوجته وفي مغامراته النسائية. وعند تناوله مسألة «العذرية والهتك الإشهاري» يؤكد على أن العذرية بنية لازمة لكل امرأة، فغياب العذرية ينقل الجسد من المقدس إلى المدنس، ويتوقف عند رواية «محاولة عيش» لمحمد زفزاف كنموذج لهذا المبحث.

وتحت عنوان «الوصف الثقافي وحتمية الجسد»، يجد الباحث أن التوصيفات النقدية التي رصدت آليات اشتغال الوصف في المنجز الروائي العربي وإن تنوعت فهي آليات يمكن تطبيقها على جميع النصوص، إلاّ أن الوصف هنا يرتفع في مستواه إلى معرفة تبني رؤية معرفية لا تقل حقيقة وجودها عن المعرفة، التي تكون غاية السرد، فالوصف هنا يمتلك ترسبات ثقافية، تنهض على مرجعيات متداخلة، وهو محمل بطاقة دلالية تعمل على سحب الوصف من مجاله السردي الشكلي ووظائفه الدلالية المتداولة إلى مساحة جديدة متداخلة ومتعالقة مع البنية الثقافية، التي صاغت الوعي الروائي.

الفصل الثاني من الكتاب جاء بعنوان «الهايبتوس والتناوب الهيراركي للنقص» متضمنا مبحثين، الأول:»ترسيمات الهايبتوس» حيث انفرد بمناقشة مسألتين «الجمال – لون البشرة الأسود»، و»الهايبتوس الخُلقي – الشذوذ». والمبحث الثاني حمل عنوان «خديعة النوع»، متطرقا إلى تراتبية الأنواع، واعتلال الصفة. وفي الإشارة إلى ترجمة مصطلح الهايبتوس، يستعين بما ورد في معجم بورديو، إذ يرد بأن ذلك يتعلق بتلك الأنساق التي تمتلك استعدادات ينشأ عليها الفرد، ويكسبها عبر طرائق مختلفة، ترتبط بنشاط حياته، ويتعلق الهايبتوس بأربعة مستويات: العرفي، الخلقي، الجمالي، هيئة الجسد. والهايبتوس من وجهة نظره، يعمل وفق آليات داخلية معقدة، تكوّن حدود الأنساق وتشكلها في استقلالية عن محيطه، وهو وعي يتقدم حضور الأشياء ويحيطها.

العرف والخديعة

في المبحث الثاني «خديعة النوع» يشير المؤلف إلى أن الجنس الإنساني يقوم على تصنيف ثنائي ذكر/ أنثى، يبدو للوهلة الأولى أنه تصنيف يقوم على التساوي والتكافؤ، إلاّ أن هذه المعادلة قد اختلت في توازنها، حين انتقلت إلى الواقع الحياتي، وساعد العرف على إشاعة هذه الخديعة.

وفي تصديه لمسألة الجسد المدنس/الطاهر، يرى الباحث أن صورة المرأة مرتهنة إلى ذاكرة بيولوجية، ووعي ذكوري انتقاصي، يستمد حيويته ومجال إسقاطه من خلال الاختلاف الرمزي في صورة الدم الذي التصق بالمرأة، بسبب التغيرات التي تصيب الجسد، ويأخذ رواية «تاء الخجل» لفضيلة فاروق مثالا على ما أورده من أفكار.

يذكر الدكتور قيس عمر في سياق تناوله موضوع «اعتلال الصفة «أنه عندما تنحسر أسماء الشخصيات في الرواية على (أرملة، مطلقة، عاقر، عانس) ويغيب معها الاسم الصريح أحيانا أو يستبدل بالصفة الاجتماعية، فهذه الصفة تضمر حمولة تنقيصية مركبة ومعقدة، وأهم مستوياتها تراتبية المرأة، ثم صفتها التنقيصية في كونها توصف بالعانس أو المطلقة أو الأرملة أو العاقر، وهي صفات تطبع الشخصية الروائية بالدونية، مستشهدا برواية «صحراء الظمأ» للأخضر بن السايح، وروايات أخرى مثل «الغول الذي التهم نفسه، ذاكرة الماء، محنة الجنون العاري، الأخرس والحكاية، أحلام الفراشات، رائحة الجنة».

في خاتمة الكتاب، يستعيد المؤلف مختصرات من أبرز ما طرحه من مفاهيم وأفكار في صفحاته، ستساعد القارئ دون شك، على أن تتشكل لديه صورة واضحة عن موضوعاته قبل أن يبدأ في قراءته. وسبق أن وصل هذا الإصدار إلى القائمة القصيرة ضمن مسابقة جائزة الإبداع عام 2023 التي ترعاها وزارة الثقافة والآثار العراقية.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي