جمالية المعنى وإيقاعية التصوير في ديوان «لحظات هاربة»

2024-02-25

حمزة قناوي

عبر خمس عشرة قصيدة ذات رؤية فلسفية ووجدانية، يقدم لنا الشاعر الفيلسوف الدكتور محمد شيا في ديوانه: «لحظات هاربة» حالةً شعرية مكثفة وشديدة الفرادة، تفتح الباب لمزيد من التأمل حول طبيعة الشعر وطرائق وأساليب التعبير، فهو يعتمد على كيفية التأمل في معنى وغاية وغرض الشعر ذاته، خاصة إذا نظرنا إلى المقدمة التي اختص بها ديوانه، والتي جاءت بعنوان: «كيف أفهم الشعر؟» وفيها يطرح مجموعة من القضايا المتعلقة بمفهوم وطبيعة «الشعر» في حد ذاته، ويقول في مطلعها:

إنما الشعر مشاعر // ولدت في قلب شاعر

صاغها جني عبقر// لوحة في قصر ساحر

هذا المدخل الذي يفتح الباب للتساؤل الفلسفي حول طبيعة الشعر، هو ما يوحي بأن شاعرنا قد قرأ وتدبر وأبحر عبر الكثير من تاريخ الشعر، ومن تاريخ الأدب، مما يجعلنا نستحضر مقولة (رينيه ويليك) «التاريخ الأدبي هو الطريقة التي تحدد نقاط التغيير.» ، فليس من شيء يسهم في معرفة ما يجدر أن يتغير في مفاهيم الشعرية، ليحقق سبل تطور وتجديد طرائق التعبير لدى الشعراء عن وجدانهم وأفكارهم، ما من شيء يمكن من ذلك سوى تتبع تاريخ الأدب.

ويبدو أن الشاعر والفيلسوف محمد شيا، قد أمعن النظر في تاريخ الشعر، وأكثر من القراءة فيه، وحوله أيضاً، ومن ذلك خرج بوجهة نظر يجدر وضعها في الاعتبار عند تحليل قصائده، حيث يقول: «باختصار، الشعر عندي مرآة تعكس، بل تجلو، في أجمل صورة ممكنة، أحاسيس القلب وانفعالاته. لكن في وسع بعض الشعر أن يرتفع قليلاً فيكون شعر الأسئلة أيضاً: أسئلة القلب والعقل والروح، أسئلة الإنسان، كما هو، في كل زمان ومكان. نقول الأسئلة لا الأجوبة. إذ ليس من وظيفة الشعر أن يقدم الأجوبة، إلا من باب فرعي غير مباشر. أضعف الشعر شعر الأجوبة، كائناً ما كانت.» .

إذن يحلق الشاعر شيا في سماء الشعر بجناحي الفلسفة، مع تأكيده فارقاً جوهرياً بينهما – أقصد الشعر والفلسفة، ألا وهو «الصورة» فكلاهما يطرح الأسئلة، لكن الفيلسوف مهتم بالنظر إلى الأسئلة في الكون من حوله، أما الشاعر- والذي عليه أن يطرح الأسئلة أيضاً، لكنه يطرحها بنوع من التأملية التي تنتبه للشعور والوجدان- فإذا كان الفيلسوف يركز على أسئلة العقل، فإن الشاعر يركز على أحاسيس القلب، وهذا التركيز يجعل الشعر في مرحلة أعلى من الفلسفة، ومن ثم فإن نجاح الشاعر في تقديم السؤال الذي يثير الانفعال مع قدرته على دعم ذلك بالصورة المغايرة الفارقة، ومتى نجح في تحقيق ذلك يكون قد قطع شوطاً كبيراً، وباعاً طويلاً في تحقيق الشعرية، وفي التحليق في سماء الجمال الأدبي والإبداعي وفق نظرة الدكتور شيا المُقدّمة هنا.

وأستنتج من هذه الرؤية، وهذه المقدمة الطويلة الحصيفة في مفهوم الشعر، أنها مؤشر انتقال من عصر الشاعر البديهي أو الفطري، إلى ذلك الواعي بالعملية الإبداعية ذاتها، وبممارساتها في نفسها وارتباطاتها بالنواحي المختلفة التي تتقاطع معها، وهو ما يتوافق مع مقولة الناقد (صلاح بوسريف) : «لا أحد من الشعراء، ممن يعون الكتابة كممارسة شعرية حديثة، يكتب، دون وعي نظري بالمفاهيم الحديثة للشعر، أو ببعضها على الأقل.» ومسألة الوعي تجعلنا ننظر للإبداع بطريقة أكثر إجرائيةً، وبنظرة تنحو إلى تحديد الفوارق الأسلوبية في السمات التعبيرية؛ لكي ننجح في تحديد الأثر الذي تركه هذا الوعي على الأسلوب والطريقة وأيضاً القضايا التي تناولها الشاعر.

ومن القضايا التي تبدو ملحةً وتؤرق شاعرنا الفيلسوف الدكتور شيا اهتمامه بانتكاس الموقع وضعف المكانة التي يحتلها العرب في العالم الآن، ففي قصيدة «لو عاد موتانا» يستغل شعريته في تقديم نوع من «جرد الحساب» من أجدادنا العظام، لنرى أين كنا وكيف أصبحنا، يقول:

لو عاد/ الذين قضوا/ أو غابوا/ أو رحلوا،/ لفاضت الساحات/ أفرادا/ ووحدانا!/ لو عاد/ الذين مضوا/ لكان سؤالهم/عما جرى،/ أو صار/ أو كانَ!/ وكان سؤالهم/ ما نحن فيه/ وما فعلنا،/ فماذا/ نقول/ لموتانا!/ وماذا عساهم/ فاعلين/ بنا/ لو شاهدوا/أحوالنا،/ أو بعض/دنيانا!/لو شاهدوا/ التمثيل/ مهنتنا،/ أكاذيب،/ أشكالاً/ وألوانا!/ أو شاهدوا/ التدجيل/ ديدننا،/ وصنعتنا،/ ومتعتنا/ ونجوانا…. ص 31-33

ومن هذا النص تبرز لنا أولى التقنيات الفنية التي يعتمد عليها الشاعر هنا، ألا وهي الإيقاع، فطريقة تقسيم أسطر القصيدة، وسلاسة الألفاظ فيما تؤديه كل لفظة إلى التي تليها تجعلنا نتأمل مقولة (عبد الحميد جيدة) التي يعرِّف فيها الإيقاع الداخلي بأنه: «النغم الذي يجمع بين الألفاظ والصورة، بين وقع الكلام والحالة النفسية للشاعر، إنها مزاوجة تامة بين المعنى والشكل بين الشاعر والمتلقي.»

الإيقاع إذن إحدى التقنيات التي تساعد على اجتذاب القارئ للنص، وعلى إحداث حالة المزاوجة والتماهي بين الشاعر والمتلقي، ويعمد ( محمد شيا) في تحقيق الإيقاع الداخلي الخاص به إلى طريقتين: الأولى التقسيم الصغير للشطر الشعري الذي يكاد يكون كلمة واحدة، وبناء على وضع هذه الكلمة في سطر واحد، فإنه يعقبها توقف، وهنا يستغل الشاعر بوعي ومهارة أسلوبية، فن الوقفات مع المد في داخل بنية الكلمة – إذ نلاحظ غلبة المد بالألف أو الواو على الكلمات المستخدمة مثل: «وحدانا – موتانا – دنيانا – أشكالنا »؛ ليصنع من ذلك إيقاعاً داخلياً متوازناً، يوحي بالسلاسة ويدفع القارئ إلى الاستمرار في المزيد من قراءة الشعر.

الأمر الآخر هو حسن اختيار الحروف بشكل يحقق التناسب بين حروف الهمس والجهر، فنشعر بنوع من السلاسة اللغوية، ليس من ثقل في ثنايا الحروف، ولا ارتباك في جريان المخارج، وهو ما حقق للقصيدة السلاسة المطلوبة، رغم أنها تتناول موضوعاً فلسفياً عميقاً، لكن لم نشعر بهذه الغرابة، أيضاً لم يقدم الشاعر جوهر ما يريده مرة واحدة، بل التزم بالرؤية القديمة التي عمل من خلالها- بشكلٍ ما- على إيجاد نوع من المقدمة لقصيدته، فهو لم يبدأ من المساوئ التي نحياها الآن مباشرة، وإنما بدأ بذكر افتراضية عودة أجدادنا القدماء الراحلين، وهو ما يمهد لإعادة المنظور والتصور للنظر إليه من نقطة زمنية سابقة، كانت فيها الأمور أفضل كثيراً.

بعد هذا التمهيد يمضي إلى جوهر اعتراضاته على عصرنا وزماننا، وما يرغب في لفت النظر إليه، يقول:

كيف/ النقاق غداً/ في كل شاردة،/ فبات/ يافطةً،/ بل بات/ عنوانا!/ وكيف المال/ في العرش/ استوى،/ سحراً/ وبات/ سيداً/ سلطانا!/ وكيف/ صوته العالي/ غدا «ديناً»/ ودستوراً،/ فجهلنا،/ وأنسانا!/ وكيف/ «سحره» الطاغي/ طغى./ كوناً،/ فأغواه/ وأغوانا!/ وكيف/ الجهل صيّرنا، / فقرا،/ مشاعاً،/ سلعة للبيع،/ مجانا!/ وكيف/ نسينا/ من ضحى،/ ومن قاسى،/ ومن/ عانى!/وكيف/ انتسينا/ من قضى ظلماً،/ أو/ قضى قهراً/ فأدمانا! [ص33-36]

هذه التقسيم للقصيدة يبدو منطقياً، حين بدأ بمحاولة التهيئة للفكرة العامة للقصيدة، قبل أن يسحب القارئ للنقطة الأساسية التي يرغب في تكريسها في القصيدة، ألا وهي الواقع المتردي من غشٍ وخداع وتعظيم للمال وتحقير للفضيلة، حتى عم الجهل وغلب الفقر وزاد السوء والفحش بين الناس، وعند محاولة التفكير إن كان ثمة طريقة جمالية للتعبير شعرياً عن مثل هذه المشاعر، نجد أن التهيئة التي قدمها (محمد شيا) أسهمت بشكل كبير في تقبل الصورة القبيحة للمجتمع، ووضعها في إطار التساؤل الجمالي الفلسفي الشعري بصورةٍ إبداعيةٍ شديدة التفرد.

شاعر وناقد مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي