سلام عبود يفضح المسكوت عنه روائياً

2024-02-18

كاظم غيلان

تعرف القارئ العراقي على اسم سلام عبود، ككاتب مثير للجدل من خلال كتابه «ثقافة العنف في العراق» الذي صدر عام 2002 وأدرج ضمن أبرز الكتب الممنوعة التداول، الذي فضح خلاله مجمل الإصدارات الأدبية التي عملت على الترويج لثقافة الحرب، وأرست قيم الحقد والكراهية في أرواح أجيال عصفت بها تحولات العراق التاريخية.

وسلام عبود الذي يعيش في المنفى منذ الربع الأول من سبعينيات القرن الماضي أصدر العديد من الروايات ، كما أصدر بعد احتلال العراق 2003 «المجتمع والثقافة تحت أقدام الاحتلال» و»المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال» عن دار الجمل.

فسلام الشيوعي والشيعي يكتب ما يرصده ويمليه عليه ضميره كمثقف بكل تجرد عن العاطفة، وما تؤدي له من مساومات ومجاملات، فمثلما فضح ثقافة العنف في عهد صدام حسين وحروبه، راح يفضح ما آلت اليه الثقافة العراقية بعد الاحتلال الأجنبي. هكذا أحكم معادلته النقدية بما يحس ويرى وليس بما تشتهي سفن الطوائف والأحزاب المتنفذة والمتحالفة والمتحاصصة، وهذا هو أساس الواجب الحقيقي للمثقف.

يشهد عراق اليوم ماراثون المهرجانات، التي لا تنقطع، ومسابقات أدمن على جوائزها حتى بعض من كان يتدافع لنيلها في حقبة صدام حسين، إنها وباختصار ثقافة كرنفالية ـ طقوسية، تصر على تغييب وإقصاء الجوهري في الثقافة، حتى عادت الثقافة في العراق توازي في هذه المعادلة المرتبكة عملية ترييف المدن العراقية، ولذا ترى كفة الهامش تعلو كثيرا على كفة المتن ـ الجوهر.

رواية سلام الجديدة «الشاهرامة ـ البحث عن مدينة رهبوت» صدرت مؤخرا عن دار نشر فتية (كوديا للنشر والتوزيع ) في 432 صفحة من القطع الوسط صممها الفنان العراقي لبيد مالك المطلبي.

شاب في عقده الثالث يقرر فجأة مغامرته باقتحام مدينة (رهبوت) المرعبة بكل تفاصيلها. الرواية وكما يخبرنا مؤلفها (يوتوبيا) لكنها واقع مستمر. المدينة أولا كانت (رحموت) الجميلة الوديعة التي غزتها أحداث غامضة أدخلتها دائرة الوباء القاتل المخيف فتحولت إلى (رهبوت) «مملكة الشيطان الغامضة والاسرار المرعبة».

يدخل بطل الرواية (رحيم الشروباكي) عبر مهربي الصحراء (أبو يعقوب، أبو ثيماء) ويتخذ اسما جديدا (أنيس الاخضر) طوعا لما أبلغته لوحة الخيارات الإلكترونية، وتبدأ شبكة علاقاته مع أبطال عالمه الرهبوتي الجديد (باسمة، قطر الندى، ماء السماء، البتول، فرح الزمان، مزهر الشاعر، سامر). يتعرف على طقوسهم ويطلع على دستورهم الذي ينص على منعهم من تنظيم الأحزاب والتجمعات الحزبية فهي مخالفة للأخلاق حالها حال السرقة والنفاق والدجل.

رهبوت المدينة المغضوب عليها، لها أعيادها وقداساتها، وظواهر لم نسمع بها، ففي (عيد القرود) يحتفى بقرد وهو من فصيلة نادرة جلبها تاجر رهبوتي اسمه (شاه) من وادي (رم) وبالعثور على الشاهرامة اختفت ظاهرة (أكلوا الجثث). كلما توغلت في سبر اغوار الرواية تجد العراق بين سطورها، بكل ما حصل له، وبكل ما دارت من أحداث جاورته وشغلت ناسه، وأقلقت زوجة الشروباكي والتي هي (البتول) بسبب ابن عم لها (كرار أبو المحابس) النشال الذي تحول إلى (نائب) يتخذ من الدين وسيلة للمتاجرة التي يحرمها الدين في نصه القرآني. في منتدى الأدباء الشباب يدخل (أنيس الأخضر) ليستمع إلى قصيدة الشاعر مزهر:

(في الليلة الثانية بعد الألف/ كعادته طلع النهار/ فأبصر الناس نهرا من دماء غزار/ رفع المليك راية السيادة/ وأعلن الحصار ). إنها إشارة واضحة لتاريخ غزو الكويت، الحماقة التي ارتكبها صدام حسين في 2 أب/أغسطس 1991 والتي عجل المجتمع الدولي بفرض حصاره على العراق حتى سقوط نظام صدام في نيسان/ أبريل 2003. هذه واحدة من وقائع رهبوت ـ العراق، وقائع يوتوبيا ـ الواقع ، فما المتخيل سوى ذلك النسيج الفني والبناء الذي شهده العمل الإبداعي هذا بوصفه رواية. لكن سلام عبود وكعادته يفضح الأحداث لا يكتمها، إلا أنها هذه المرة عبر عمل أدبي وليس بجردة مشكلات تختفي خلفها السياسة، أحزابا، دولا، منظمات، إلخ.

برصد دقيق لما يعانيه الإعلام من هشاشة ويلعب دورا تدميريا، مستغلا ضعف موقف الحكام والمشاركين أمام سلطة التلفزيون، ذلك كله نجده في تغريب اللغة العربية فما معنى أن تسمعنا مقدمة برنامج مفردة (بكداد) بدلا من بغداد، أو يستحدث برنامج تلفزيوني من قناة تتمسك بالعروبة والإسلام لتسميه (رمضان بلاس)! وغيرها العشرات مما يثير سؤالا عن السر في تغريب كهذا، ينم عن جهل وخواء للذات. عن كارثة كورونا يكشف: «أربع دول خلطت الوباء بالسياسة وألاعيب الحكم: أمريكا، البرازيل، بريطانيا، السويد» مشيرا لوقائع تدفع للدهشة والاستغراب كرفض لجنة مكافحة الوباء، قرار استخدام الكمامات تحت ذريعة صيانة الحرية الشخصية الذي رافقه صدور بروتوكول كارولينسكا النازي، الذي يبيح للأطباء حق انتزاع جهاز التنفس من المرضى».

أحداث جمة يفضحها الكاتب لا يمكن عرضها، بل وفهمها إلا بقراءتها بنوع من التروي. الرواية العراقية تكشف من خلال تجربة سلام الجريئة هذه عن زيف التهويمات الرومانسية والمتخيلة التي تؤسس لثقافة إلهاء القارئ عن كوارث سياسية وبيئية تسهم في إقصاء الإبداع عن واقع ضاج بانتهكات صارخة لوجود الإنسان وحقوقه لأجل إدامة حياة حكومات جاهلة.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي