في ديوان «شهداء في القلب»: تعددية المدلول الشعري وخلق فضاءاته

2024-02-17

حمزة قناوي

أحد أهم الأسئلة النقدية التي ينشغل بها الناقد خلال مسيرته: كيف حدثت تحولات الشعرية الإبداعية العربية؟ ما بين أوقات كانت لها طبيعتها الخاصة، وزمننا الراهن. كل قراءة لما هو ماضٍ تعكسُ في الحقيقة تأثيراً لما هو حاضر، على فهمنا ووعينا ورؤيتنا لواقعنا ومتغيراتنا، لذا أنظر لديوان (مكرم البلاسي) : «شهداء في القلب» نظرةً خاصة، في ظل اجتماع عدة صفات زمنية به، الصفة الأولى المتعلقة بزمن القصائد، والتي تتراوح إجمالاً ما بين عام «النكسة» 1967 والثمانينيات، وقد حصر الشاعر توثيق التاريخ لبعض القصائد، التي تكتسب معنى خاصاً عند ربطها بهذه التواريخ، في حين أن الديوان نفسه صدر في نوفمبر 1993، وهي فترة زمنية كبيرة ما بين أولى قصائد الديوان زمناً، وتاريخ الصدور، وكلها إشارات إلى أهمية ودلالة الزمن في التلقي الشعري، وهو ما سنضعه في الاعتبار عند النظر للتأويلات الدلالية هنا.

عنونة الديوان بـ«شهداء في القلب» يدلل على أن القضية الرئيسية التي تنطلق منها الشعرية الإبداعية في هذا الديوان هي قضية الهم العربي كله بما أصبح يعرف بأنه مسألة وجود في مواجهة الاحتلال الغربي، الذي غرس في الجسم العربي المعتل عضواً شاذاً يعكر صفوه. إن مسألة الصدام الحضاري بشكله العسكري هي أهم أولويات الديوان، ولما كانت العنونة هي: «النداء الذي يبعثه العمل الأدبي إلى مبدعه، وآخر ما ينسى من العمل الأدبي في معظم الأحيان» فإن هذا الديوان بمثابة النداء لتعظيم وتوقير أولئك الشهداء الذين يحفرون بدمائهم طريق النور للأوطان.

نلاحظ في ثنايا الديوان أنه لا توجد قصيدة تحمل العنونة ذاتها، وهو ما يعني دلالياً أنها تعبير عن حالة إجمالية للموقف، الذي تتناوله الذات الشاعرة، وتمتاز عناوين القصائد بطول لافت، تصل أحياناً إلى حد التعبير الكامل عن فحوى القصيدة، مثل قصيدة: «أحبيني. رسالة حب من الوطن العربي إلى .. سناء محيدلي» وهي القصيدة العاشرة من قصائد الديوان، وكذلك القصيدة الحادية عشرة، جاء عنوانها: «من طفل فلسطيني .. إلى جندي عنصري مدجج بالموت».

إن هذا الطول في عناوين القصائد يعكس، يحمل رغبة داخلية بالبوح المصاحب للشعرية، أي أن القصائد تحمل في بنيتها سمة توثيقية، ومن ثم فإن شاعرية البوح هنا متمكنة وغالبة على القصائد منذ بداية الولوج لعالم القصيدة، وهو ما يجعلنا ننظر إلى القصائد على أنها من نوع قصائد المجابهة والمواجهة، التي تتسم عادةً باستدعاء قيم تراثية، فنجد حضوراً للسندباد، في قصيدة تحمل عنوان: «عودة السندباد» وعودة السندباد هو استدعاء لذلك المغامر الذي وإن كان لا يخشى شيئاً، إلا أنه أيضاً لا يعود لشيء، وهي الثيمة المقترنة بسندباد الذي يأتي في الحكايات الخرافية من الموروث العربي.

لكن العنونة سرعان ما تنقلب على المعاني الكامنة من شعور بالفخر والاعتزاز بها إلى الدخول في قلب الصراع، فالعنوان الرئيسي مشفوع بعنونة فرعية هي: «من رحلته الأخيرة في حزيران» وحزيران/ يونيو يحمل هم الانكسار العربي أمام المحتل الصهيوني.. فكيف إذن سيواجه السندباد القديم هذه الجراح الحديثة؟ فلنتأمل ذلك، يقول:

«اليومَ عادَ السندباد

الرُخُّ أطلقه فعاد

لكنه قد عاد مثقوب الفؤاد

خالي اليدين من الرجاء،

من الإباء، من العناد

باكي اللسان فما لديه،

سوى أهازيج الحداد»

تقول (جوليا كريستيفا): «يحيل المدلول الشعري إلى مدلولات خطابية مغايرة، بشكلٍ يُمكن معه قراءة خطابات عديدة داخل القول الشعري. هكذا يتم خلق فضاء نصي متعدد حول المدلول الشعري، تكون عناصره قابلة للتطبيق في النص الشعري الملموس». في ضوء ذلك ننظر للمدلول الشعري في هذا المقطع، كيف يتحول المعنى إلى نقيضه، فسندباد المغامر، الذي لا يهاب البحار والمغامرات ويواجه الوحوش والشياطين، يتحول لمعنى نقيض من الانتكاسة والهزيمة، فهو: «مثقوب الفؤاد» ليس لديه أي رجاء أو إباء أو عناد..

لماذا إذن يتم استدعاء شخصية مقدامة لإظهارها في ذلك المظهر العاجز؟ ربما للأمر علاقة بما كان موجوداً من تناقض مرير في الهزيمة العربية، ذلك التناقض المتمثل بالشعور بالزهو والقوة قبل الصِدام، ثم الإفاقة على واقع جاثم على صدر الأمة العربية حتى الوقت الراهن، وهنا يلعب التوليد الدلالي دوره في توصيل فجيعة هذا التناقض. يقول (يوسف سامي اليوسف) عن الشعرية إنها: «رؤية لأرواح الأشياء المحبوسة في صورها». وهذا التناقض بين الاستدعاء التراثي والإسقاط الواقعي لمجريات الأحداث هو أحد العناصر التي تجعلنا نعايش روح الهزيمة والفجيعة في ثنايا النص.

وفي لحظة تصاعد المشاعر الجياشة، التي تغلب على تقنيات الشعرية، يهتك النص ستر ما قد تكشّف، فيقول الشاعر:

«يا مصر ما أشقى جراح الذاكرة

ما زال جرحي في صلاة القهر يندب ما جرى

ما زلت أبصر من خلال الدمع عرسك سندباد

وزفافك الدامي

على لب العروس الخائرة

القاهرة

وخروجها حبلى،

تتيه على المدائن والقرى

وجنازة الحلم الذي، أجهضته بيديك في أحشائها

بولادة متعسرة!»

هنا تعبير الذات الشاعرة عن الحزن بطريقة ممتلئة بعين الحسرة الممزوجة بعين المفارقة بين الكبرياء والعلو والسمو والروح، التي كانت ترفرف في أجواء السماء العربية، وبين الحلم الذي انكسر، والشعور بالمهانة والذل، ويأتي ختام القصيدة على نحو مفارق، عندما يكرر مقطع الافتتاح في عودة السندباد، ثم بلهجة الحسرة يقول: «يا ليته ما كان عاد».

يلي هذه القصيدة قصيدة أخرى عنونت أيضا: «في المسألة الحزيرانية» هذا التكرار المتتالي في ذكر «حزيران» يعكس مقدار الألم الذي تركه في النفس، مع التركيز على تشبيه فلسطين بالمرأة العشرينية التي أصبحت مثقلة بالهموم حتى صارت تسعينية، لا تتوقع شيئاً إلا الموت، يقول:

«ولأن السيف المتوارث

أصبح مخصيّاً أو عنّين

مات المستقبل أول أمس

ووري في الماضي المستقبل

وتكفن في منديل القدس

فالسيف المخصيّ العنين

لا يودع في الأرض جنيناً

أو شبه جنين! »

بهذا التناقض ما بين السيف الذي هو تعبير عن العزة والكرامة والكبرياء، وبين وصمه بالخصي أو العنة، وهو ما يوحي بمعاني البوار وفقدان الأمل في الإنجاب، فيما يمكن أن يعد أكبر استفزاز لمشاعر الرجولة الكامنة، بهذه الكيفية تصور الذات الشاعرة لنا واقع الهزيمة المطبق.

تلي قصيدة «أكتوبر» هاتين القصيدتين مباشرة، ومع مراعاة أن الديوان قد تم نشره في التسعينيات، بعد قرابة عقدين من الزمان ما بين زمن القصائد وما بين نشرها، فإن الترتيب هنا مهم، لكن الملاحظ أن اللغة واللهجة الموجودتينِ في قصيدة «أكتوبر» لا تتناسبان مع نقيض الوجع في القصيدتين السابقتين، بمعنى ما كنت أتوقع أن أجده من تأكيدٍ لمعاني النصر والتجاوز لانكسار الحلم وللسيف المخصي العنين في القصيدتين السابقتين، لا يأتي على القدر ذاته من الزهو والانبهار، بل إن ثمة نغمة خطابية تعلو في تقريرها ولا تتعمق في تصويرها، يقول:

«أكتوبر جاء

كنبيٍّ يزرع في الأرجاء

أملاً ورجاء

كالسيل المنقذ يغمرنا أرضاً وسماء

كي يحصد صبار الأحزان

ويعيد الله إلى العينين،

إلى الشفتين إلى الرئتين إلى الأثداء

قد جئت أخيراً أكتوبر»

يرى (أدونيس) أن «اللغة الشعرية قيمة في ذاتها لا وسيلة لأنها لغة مجازية، لغة تأويل، فهي تحمل دلالات كثيرة» ومن هذا نستنبط أن تحول اللغة إلى النغمة الخطابية والنزعة الجناسية والموسيقية العالية عند الحديث عن أكتوبر، تشير بشكل ما إلى عدم تغلغل روح النصر في النفس العربي بتأثيرها العميق، بالقدر ذاته الذي تغلغلت به روح الهزيمة في مأساة ومعاناة 1967، وربما لذلك أسبابه المتعلقة بكون أكتوبر لم يكن يحمل انتصاراً مماثلاً على الجبهات العربية كافةً كما حدث على الجبهة المصرية.

ومن مسلّماتِ الروح العربية التي تنعكس مظاهرها في الشاعرية تحقيق الوحدة العربية، لكنها ليست وحدة اقتصادية أو جيوسياسية، وإنما هي وحدة انفعالات ومشاعر، وحدة الهم العربي، وهذه الوحدة التي يكتنفها شعور المرارة بما يفعله الكيان الصهيوني المغتصب في أخوتنا العرب ربما يكون أحد تفسيرات أن الشاعرية العربية بل حتى السردية العربية لم تعطِ لانتصار أكتوبر بعد حجمه الواجب له، نظراً لما في قلوب الأشقاء من ألم في التعامل مع القضية الفلسطينية في مواجهتها مع العدو الصهيوني الغاشم.

لذا نلمس تَحولاً شعرياً كبيراً عندما يتناول الشاعر الحديث عن جانب المقاومة في مواجهة هذا المحتل، ففي قصيدة «سناء البتول الشهيرة بسناء محيدلي» يقول:

«جميع نسائك يا أمتي

يلدن ..يلدن..

ولسن يلدن سوى أطفال

ووحدك أنت سناء البتول

ودون انتظار لدق الطبول

وذبح العجول

بليلة عرس تكونين فيها،

العروس الخجول

مسحت الجبين كيحيى الرسول

بآهة قلب الجنوب الكسير

ودمع الشمال

وأسدلت صمتك،

مثل العباءة حول الجبين

لتخفى الجنين

ورحتِ تجوسين عبر الحقول

وخلف التلال

تفكين أسر الحمام الأسير»

اكتسبت (سناء محيدلي) سبقها التاريخيّ والوطنيّ من كونها أول فدائية فجرت جسدها في جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، وربما لأنه فعل استشهادي لا يعود بعده من قام به، فإن الواجب تجاه الشهداء إبقاء ذكرهم وتخليده، لذا ربما كان هذا المنطلق سبباً أساسياً في تجلي عذوبة التعبير الشعري تجاه (سناء محيدلي). ولا يكتفي الشاعر بذلك في الديوان ذاته، كأن كل ما قاله لم يحقق الواجب تجاهها، فيردف القصيدة بقصيدة أخرى، عنوانها: «أحبيني .. رسالة حب من الوطن العربي إلى سناء محيدلي».

ومع وحدة الموضوع بين القصيدتين يهمنا هنا أن ندقق في اختلافات التعبير، واختلافات الدلالات المتضمنة، ويبدو أن القصيدتين تمثلان مستويين من التعبير، الأولى تحدث فيها الشاعر عن نفسه في تمجيد ومدح (سناء محيدلي) وفي الأخرى تحدث نيابة عن العالم العربي كله، يقول:

«أحبيني

أحبيني

فإن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني

وما كانوا على ديني!

أحبيني وضميني

بكل حنينك العذري للمجهول ضميني

لتحميني من المجهول تحميني!

أحبيني

ولفيني

بخصلة شعرك المسكوب لفيني

فلو جفت عيون العطر في الدنيا

ولو خمدت براكيني

ولو نضبت شراييني»

بينما عنونة القصيدة تنطلق من كونها رسالة محبة من العالم العربي إلى (سناء محيدلي) إلا أننا نجد (محيدلي) هنا هي الأكبر والأفضل والأعظم، هي الملاذ وهي الملجأ، كأنها لاتزال على قيد الحياة. إن الشاعرية هنا تتحدث عن فكرة لا عن شخص، عن فكرة التضحية والفداء من أجل الوطن، وهو ما يمجده الشاعر ويعظمه.

يحمل الديوان طبيعة مرحلته، والتي لا يزال الكثير من عناصر هذه الطبيعة مستمراً معنا حتى وقتنا الراهن، فحتى وقت كتابة هذا المقال يحتدم الصدام بين الكيان الصهيوني وأهل غزة، وكأن الأمس يعيد نفسه مراراً وتكراراً في ذاكرة الجرح العربي أمام الغطرسة الصهيونية. لا شك أن الديوان يحمل أيضاً النواحي التعبيرية واللفظية الممثلة لطبيعة عصره في وقتها، حيث النغمة الخطابية والجهرية والصورة الواضحة وغير المشتتة والوصول إلى أعماق قلب الشعور الوجداني الذي يستحث المتلقي، وجميعها عناصر لغوية تفرض نفسها على وعي ووجدان الكاتب المتأثر لا شك بطبيعة نضج المرحلة زمنياً، لكن ونحن نعيد النظر إليه من مسافة زمنية أبعد، نجد أن ما في عمق القصائد من وجدان وشعور صادق لايزال صالحاً للطرح والتناول والتجاوب معه في وقتنا الراهن.

شاعر وناقد مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي