رواية «ورثة الصمت» … حيث المغادرة لا تنجّي شأن البقاء!

2024-02-12

حسن داوود

أول ما يلفت قارئ الكتاب رفعتُه الكتابية. كأنه لأدبيته، مُصاغ بطريقة ما تكتب الرسالات والوصايا ونصوص المسرح القديمة. غالبا ما تعمد عبير داغر إسبر، الكاتبة، إلى التقديم لأقسام كتابها العديدة بنصوص من التوراة أو من حكماء التاريخ أو من شعراء قدماء. كل قسم أو فصل مسبوقٌ باستشهاد أُخذته من هذه النصوص كتوطئة للتجربة التي سيلجها أحد أبطال الرواية. وإذ نبدأ نقرأ نصّ الكاتبة ذاته، نشعر بأننا ما زلنا هناك، حيث كنا قبل قليل، أعني في قراءتنا حكاية ملحمية الوقع عن آلهة يونانيين أو مهاجرين بيوريتانيين، وأحيانا عن تجارب أقلّ قدما. من ذلك أيضا، بعد الاستشهاد برواية «الحرف القرمزي» لناثانيال هوثورن، نقرأ ما كتبته عن أحد أبطالها المحليين، وهو حسن المتقلّب في عذابات حاضرنا، مستكملا نزعات البيوريتيين القائمة على التقشف والانطواء. هكذا كأن حسن هذا منسول من زمان فرار الأوروبيين من أوروبا إلى أمريكا، الجديدة البكر. ولا يقتصر ذاك النسب القديم على حسن وحده من بين شخصيات الرواية، إذ أن الجميع جرى التمهيد لكل من مراحل حياتهم بنصوص تاريخية متفاوتة الأزمنة.

كل الشخصيات استحقّت مقدّمات مثل هذه في سقوطها فريسة المصائر المأساوية. في الصفحات الأولى يعرّفنا سامي قدسي، وهو بطل الرواية وراويتها، على نساء عائلته، أخته وأمه وابنته، مقتحمات للنهايات الفاجعة. هن الثلاث، وربما ينبغي أن نضيف إليهنّ زوجته، أو معشوقته الأخيرة، التي أمرضها السرطان وحطّم قوتها وصلابتها. أما الثلاث الأخريات، الأم والأخت والابنة، فكأنهن وُلدن مختلفات عمن يعشن معهم كأزواج أو كأخوة، إحداهن، الأم، انتهت حياتها بالاختفاء، بعد حياة جامحة وعيش كرنفالي. كان عبورها بسيارتها الفارهة في شوارع حمص يثير غيرة النساء، ولوعة الرجال معا. ابنتها نانا، وهي أخت الراوي سامي، أصاب انتحارها عائلة القدسي بفاجعة لم يتوقف ذكرها أبدا في محطات الرواية ومراحلها كافة. قتلت نفسها لأن ما ارتضته قصّر عن طموحها ولم يهدأ قلقها، شأن أمها فكتوريا. لم يكن ممكنا لنسوة تلك العائلة أن يسلمن. الأخت نانا، المنتحرة، أضيف إلى ضيقها بالعيش الذي لا يُعرف لا مصدره ولا عمقه، أن من ارتضته زوجا وضعهما معا في قلب الانقسام الأهلي حيث لم يكن أحد، لا من الأقربين ولا من الأبعدين، قادرا على السكوت عن خطيئة زواجها، هي النصرانية، من مسلم.

أما ابنة البطل – الراوي، جانو ذات العشرين عاما، فتمثل له قلق التهديد المستمر بالانتحار. في الصفحات الأولى من الرواية، وفيما نحن نتعرف على شخصيات الرواية، نقرأ كيف كان والدها يسرع إلى المستشفى بعد إبلاغه بمحاولة انتحارها الأخيرة. كان هو قد بلغ قعر تراجعه الشخصي عند ذاك، بلا مهنة فعلية، ولا أحد حوله ممن كانوا أقرباء له أو أصدقاء. وهو في هذه الحال رأى أن ما هو بيته قد صار آيلا إلى الخراب.

سيروي سامي حياة ابنته من حيث يقيم في بيتها، كما سيروي حياة آخرين يزدحمون في الرواية إلى حدّ أن تتداخل أسماؤهم في ذهن قارئهم. لكن يبقى أن لكل منهم قصته، أو مأساته. مطانيوس مثلا، ذاك الذي بدأت به الرواية ميّتا، حفظت القرابة العائلية ذكره وحافظت على الشرف الذي ناله، باستشهاده مقاتلا في مواجهة حربية. كل من ينتمي إلى هذه العائلة تناولت الروايةُ تاريخَه وأوجاعَه. ولم يمّر أحد من هؤلاء مرورا عابرا. كلهم عانوا من النهايات التي غالبا ما تطال أبطال الروايات وحدهم، دون الملحقين بهم أو الدائرين في فلكهم. هنا كلهم أشقياء، كأن شاغل الرواية الأهم إيصالهم إلى مصائرهم. ذاك أن كل شيء باعث على الانكسار والانتهاء. الحروب والكراهية الطائفية، والاضطرار إلى الانغلاق على المحيط العائلي وعلى الذات حتى الاختناق، لكن إن تمكن بعضهم من المغادرة فلا يمكن له، بأي حال، أن يتخلّص من ذلك. لم يفلح سامي ولا ابنته ولا الشاب حسن في النجاة من الإرث البلدي رغم البلدان التي تنقّلوا بينها، ورغم اختلاطهم بآخرين غرباء والارتباط بهم بالزواج الذي لم يضف لسامي قدسي إلا هما فوق همومه. كل تلك العلاقات المتشابكة وكل أولئك المنكسرين ضمّتهم اللغة الرفيعة بأدبيتها. ولا مرة واحدة هبطت الرواية عن حدّها الأدبي ذاك، وذلك ما جعلني، فيما أقرأ، أشعر بأني أتلقى ذلك سماعاً.

رواية عبير داغر إسبر «ورثة الصمت» صدرت عن دار نوفل في 268 صفحة سنة 2024.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي