أحمد المديني: في حداثة الرواية العربية… ما النقد الذي نريده؟

2024-02-10

إبراهيم خليل

في كتابه حداثة الرواية العربية – قراءة الذائقة(الرباط: دار الإيمان 2022) يدعو الكاتب القاص الروائي أحمد المديني في مقدمة مطولة وضافية يتناول فيها إشكالية العلاقة بين الرواية والنقد، لقراءة جديدة تعتمد الذائقة لسبر أغوار النصوص، سواء أكانت من القصص القصيرة أم من الرواية.

فالرواية العربية تجاوز عمرها الافتراضي المئة عام، وما تزال على المستوى النقدي تراوح في المكان نفسه، وترقص بساق واحدة. فالرواد الأوائل الذين استقدموا فن الرواية والقصة من الأدب الغربي، بصرف النظر عن هاتيك المحاولات التي ترفض التسليم بذلك ـ عن طريق المحاكاة، والاقتباس، والتثاقف، استقدموا مع ذلك قيما وأسسا نظرية، ومعايير لنقد هذه الفنون.

وقد غلب على الأوائل كأمجد الطرابلسي، ومحمد عزيز لحبابي، التأثير في طلابهم تأثيرا كبيرا، بقراءة النص باطنه وظاهره، مع الربط بين الأدب، والفكر، دونما رفض لفكرة الالتزام فيه بهموم الوطن، والمجتمع الذي يخاطبه الكاتب الأديب. لكن الأدب ـ في رأي المديني- بطبيعته، ذو طابع سجالي، أي جدلي، وحجاجي. ولا مندوحة للكاتب الأديب من أن يكون متمردا، لا في ما يكتبه فحسب، بل أيضا في غيره. ولاسيما على صعيد حياته اليومية، وعلاقاته بالسلطة. فالمديني يرفض رفضا قاطعا أن يكون الأديب ثائرا فيما يكتبه، مواليا في ممارساته، وفي حياته اليومية، ومواقفه من الأحداث. فيكون متمردا في أثره الفني مثلا، ومنافقا للسلاطين أو الطغاة في غيره. ولهذا السبب مال منذ البدء للقراءة المتحررة من الإملاءات التي تصدر عن كبار النقاد، فقراءاته المبكرة بدءا من عطية الأبراشي، وجورجي زيدان، وجبران، والمنفلوطي، ونجيب محفوظ، قراءات لا تخضع لتلك الإملاءات التي تساوي بين السرد، من حيث هو إبداع، والنقد من حيث هو سبرٌ لأغوار هذا الإبداع، بعيدا عن المقاييس المسبقة، والمعايير القبلية التي تنكر دور الذائقة الفردية، وتنكرُ تأثيرها في تقويم العمل الأدبي، والحكم عليه ضعفا، أو جودة.

فالقراءات ذات النزعة التاريخية، أو الفيلولوجية، التي تكتفي بشرح الألفاظ، وببلاغة التراكيب، واستخراج معاني النص، ودلالات ارتباطه بالسيرة، أو بالمجتمع، وبالطبقة التي ينتسب لها الكاتب وينتمي، قراءاتٌ طُرحت بالنسبة له جانبا، وأخلت مكانها لقراءة جديدة تقوم أساسا على التركيز في النص وتفكيكه، وإعادة تركيبه، للوقوف على مبناه ـ لا على معناه – وما فيه من إتقان، وتماسك، وانسجام متألق، يضمن له الكثير من الجماليات التي تستثير ذائقة القارئ. لقد آن الأوان، في رأي المديني، لتجنب أداء دور التلميذ النجيب المنضبط في كتاتيب النقد الغربي، ومدارسه، القديمة منها، والجديدة. وآن الأوانُ، كذلك، للتوقف عن السير الأعمى على خطى الأسلاف. وآن لنا أنْ نتوقف عن الترحُّل بين المناهج، تارة تحت ذريعة تبني هذا المنهج أو ذاك، وطورا تحت ذريعةٍ أخرى أكثرَ بريقا، وهي تضافر المناهج، وائتلاف المعارف.

وفي هذا الموقع من تقديمه يصرح المديني تصريحا لا قِبَل لنا بردّه، وهو ضرورة الانقلاب على مفهومات أساسية شائعة شيوعا أضحت بسببه منذ زمن كالحقائق المسلم بها، منها الواقعية، والالتزام السارتري، في الكتابة. فهذا تقليد ينبغي لنا تجاوزه، ولاسيما في نقد القصة القصيرة والرواية. فالذين أخضعوا في دراساتهم هذين الفنَّين، لهذه المعايير، وضعوا السرد، سواء الروائي منه أو القصصي، في قوالب محددة، مقيدة، وما عداها استبعد من دائرة الضوء. وعُدّ – ظلما – فيما هو عديم القيمة، ما يتعارض مع القول (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) «سورة الشعراء: 183». فأيُّ نصّ قصصي، أو روائي، يتعارض مع التقاليد المتبعة، والمعايير المقتبسة، يعدونه رديئا، بصرف النظر عما فيه من نزوع فني مستقل، وجديد، يمثل انزياحا عما هو سائد، متناسين أن الخروج على ما هو تقليد في الأدب والفن، مغامرة إيجابية وثورية، تؤتي في الغالب آثارا يانعة، وأخرى ناضجة. فالرواياتُ، والقصص، التي تغرد خارج السرب، أو تسبح عكس التيار، وإن لم تنسجم أيديولوجيا مع الناقد، فلا يجوز أن تهمل، أو تصنف في المستوى الوضيع الذي لا يثير اهتمامه، أو عنايته.

فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كان السرد في حقبة نشأة الرواية العربية يقوم على محاكاة الواقع، والتخييل في هذا الضرب من المحاكاة هامشي وعابر، ومهمته نقل المعنى، أو الفكرة. مرتديا بعض الأزياء الأيديولوجية، مما أضعف الرواية، وأوقعها في تكرار متراكم دفع بعض الموهوبين في أواخر القرن الماضي لتجاوز ذلك، مع التضحية بتقريظِ النقَدة. وأضحى السرد العربي في شيء يشبه الماراثون، فهو يسعى بما أوتي من قدرة على الالتحاق بالزمن الحديث، مضطرا في هذا المقام لما يسميه المديني حرق المراحل، متجنبا الخلط في الأساليب، متجاوزا قواعد التجنيس، ونظرية الأنواع، مؤثرا التهجين واللاتحديد، بمعنى أن لا يحول بين السرد وحوار الأجناس، أي الكتابة بحساسية جديدة على مذهب إدوار الخراط. فالقصة، والرواية، في هذا الطور من أطوارهما، في ما يرى المديني، تحتاجان إلى قراءة جديدة ليست من زاوية الكاتب المبدع وحدها، ولا من زاوية البراعة في التأليف فحسب، بل أيضا من زاوية ثالثة لا تختلفُ مع الزاويتين، وهي زاوية التلقي. وتفاعل النقد مع المادة تفاعلا يتخطى به الناقد ما هو شائع في الصحف السيارة.

إذن، فإن الرواية العربية التي بلغت النضج في أخريات القرن الماضي، وما كان يوصف منها بالتجريب، أضحى مع التراكم النصّي، النوعي، شيئًا ليس معترفا به فحسب، بل شيئا يفرض حداثته على الإرث السردي، الذي يمكن نعْتُه بالإرث الكلاسيكي، إذا جاز التعبير وساغ، ولذلك ينبغي للنقد أن يتجاوز الأسس التي رُسّخت في ذلك الوقت، وأن يتخلص من هيمنة القيود الأيديولوجية التي اعتادت على تقييد النقد بسلاسلَ ليستْ من حرير، فحالتْ بينه وبين الإبداع النقدي. أما اللهاثُ وراء المناهج النقدية التي برزت في ستينيات القرن العشرين؛ من لسانية، وسيميائية، وبنيوية، أيْ في ما يعرف بالطفرة، فهي لدى المديني لا تعدو كونها تقاليعَ تتحول إلى تمرينات ينخرط فيها الطلبة الذين يُعِدّون الأطاريح. وهي لا تمثل نقدا في الواقع، إذ لم يتبلور منها، أو عنها، تيار مستقل يشغله الأدب، بقدر ما هي حذلقة تنتهي بوضع الأدب على طاولة التشريح ليقطّع، ويُفحص، بأدوات صمّاء. وعلى الرغم من أن الحداثة حداثاتٌ، والبنيوية بنيوياتٌ، فإن نقد الرواية، والقصة، الحداثية منها وغير الحداثية، لا تحتاج إلى ما هو أكثر من أن يكون الناقد ناقدا قارئا مثابرا، لديه شغف بما يقرؤه. وأن يتكامل له جهازه المعْرفي؛ بدءا بمتون النقاد القدامى، وانتهاء بمتعة النصّ لرولان بارت. فهذا القارئ ينبغي له أن يتلذذ بقراءة الرواية إن كانت مما يلذّ، والقصة القصيرة إن كانت مما يلذ، وأن يتلذّذ بنقدهما، لا أن يهبط على النص من علٍ هبوط الوَرْقاء على ابن سيناء:

هبطت عليك من السماء الأرفعِ

وَرْقـــــاءُ ذات تـــدَلُّلٍ وتمَنُّـع

أو هبوط المظليّ بالباراشوت، ثم يحسب نفسه ناقدا ألمعيا، إن ظن بصاحب النص ظنا كانَ كمَنْ رأى ومَنْ سمع. فالقارئ المحترفُ لا يعدو كونه عابرَ سبيلٍ، خارقًا للنصوص.

يذكر أن المديني من مواليد (برشيد) المغربية عام 1947 وقد درس في فاس، وأتم دراساته العليا في باريس (جامعة باريس الثامنة) و(السوربون) وعرف أثناء دراسته الكثير من النوابغ، الذين وهبوه الكثير من الوعي بالأدب: كجمال الدين بن الشيخ، وجاك لنهارت، وعبد الرحمن منيف، وآلان روب غرييه، وجيرار جينيت، وميشيل فوكو، وأحمد عبد المعطي حجازي، ولوسيان غولدمان، ومحمد باهي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد آيت، وغيرهم ممن ذكرهم، وأثنى عليهم، في كتابه «نصيبي من باريس» (2014) وتجلّى ذلك في إبداعه المتنوّع. فهو كاتب قصة قصيرة «العنف في الدماغ» و«سفر الإنشاء والتدمير» و«طرز الغرزة». وروائي «حائط الصفصاف» و«ظلّ الغريب» و«في بلاد نون» وغيرها. وشاعِرٌ، وناقدٌ أدبي، له غير كتاب منها: «القصة القصيرة في المغرب» و«الأدب المغربي المعاصر» و«في حداثةِ الرواية العربيَّة». وله في السيرة كتبٌ عدَّة منها «نصيبي من باريس» و«نصيبي من الشرق» و«فِتَنُ كاتبٍ عربي في باريس» وكتاب «باريس أبدا، يوميات الضفة اليسرى». وله في الرحلات «الرحلة إلى بلاد الله» و«الرحلة إلى رام الله» و«الرحلة المغربية إلى بلاد الأرجنتين وتشيلي البهية»، وقد فاز كتابه «مغربي في فلسطين» بجائزة ابن بطوطة.

وله في الترجمة الكثير، وهو كاتبُ مقالٍ صحافيّ، أدبيّ، قرأنا له في «النهار» و«الاتحاد الاشتراكي» و«العَلَم» و«المحرر» و«السفير» قبل أن تحتجب، والصحف العراقية، كـ«الجمهورية» و«البعث» و«الثورة»، وفي مجلات منها: «أقلام» و«الآداب» و«الطريق». وأعدَّ كتبا عُني فيها بإحياء ذكرى أدباء لامعين من المغرب، كمحمد زفزاف، وأحمد المجاطي. وقد صدر في عام 2014 كتاب تكريمي له بعنوان «وردةٌ للوقْتِ المغربي» ينطوي على عددٍ من الدراسات التي تناول فيها الدارسون بعض آثاره في القصة، والرواية، والشعر، والدراسات الأدبيّة، والترجمة.

كاتب أردني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي