عماد الضمور
يؤكد الروائي الأردني جلال برجس بإصداره سيرته الروائيّة (نشيج الدودوك) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2023م، مكانته الروائيّة في المنجز الروائي العربي، وما حققه من إضافة للإبداع السردي تجعل الدارس يعده من أعلام الرواية الأردنيّة المعاصرة.
سجل جلال مرحلة مهمة من مراحل الرواية الأردنيّة، مرحلة التخطي والترسيخ معًا، التخطي والتجاوز لما هو مألوف من طرائق السرد، وطرح الرؤى الفكرية في قوالب فنية، والتجاوز إلى مرحلة ترسيخ الفكرة الروائية في قالب فني، وبلغة فنيّة أيضّا.
يمتلك برجس ثراءً سرديّاً واضحا، وخطابا فكريا جامحا مكناه من بناء رواية ناضجة فنيًا وفكريًّا، وليس أدل على ذلك من طريقته في السرد التي تجعل المتلقي يتتبع صوت السارد لمعرفة الشخصية، التي يمكن نسبة الكلام المسرود إليها، وهذا جعل السارد جزءًا من شخوص الرواية.
إنّ معادلة التجرّد من التخييل والانتقال بوعي إلى الواقع والمكاشفة معادلة صعبة ومهمة حققها جلال في السيرة الروائية، حيث تتقاطع حكايته الشخصية مع حكاية ثلاث دول زارها : بريطانيا وأرمينيا والجزائر، ومع ثلاثة كتب رافقته في سفره. لذلك فإن السرد في «نشيج الدودك» يسير عبر مسارات متوازية: المؤلف، والمدينة، والكتاب.
يكشف المؤلف في سيرته الروائية عن سيرة مكانية ذات طابع إنساني موغل في الحضارة، من خلال الحديث عن ثقافة البحر المتوسط، وهي ثقافة عالمية لامست إبداع لوركا الإسباني ومولير الفرنسي وريتسوس اليوناني، وهكذا فإن ثقافة البحر الأبيض المتوسط راسخة في وجدان أدبائه ومبدعيه، فهي من ناحية تعكس بعدًا حضاريّا عميق الجذور، وهي من ناحية أخرى تترك أثرًا في الأدب المكتوب، والتراث الشفهي على حد سواء.
إذا كانت كتابة الرواية عملاً صعبًا، فإنّ كتابة السيرة الروائية أصعب. فالروائي في روايته يمزج الواقع بالخيال، وهو بوعي أو بغير وعي يُلامس جانبًا من حياته الشخصيّة، فيتسرب إلى الرواية بعض أحداث حياته، لكنه سرعان ما ينقذ ذلك بالتخييل، الذي يستطيع بواسطته صياغة أحداث جديدة تكتبها شخوص متخيلة برؤى متخّيلة، بعيدًا عن البوح والاعتراف الصريح. إنّها لحظة حرجة في حياة أيّ كاتب، وهي كتابة سيرة روائية بكلّ متطلباتها.
الصدق والموضوعية هما أهم شروط نجاح السيرة الروائية، وهما ما يحتاجه ويتوقعه أيّ قارئ للسيرة الروائية. لقد توفر عنصر الصدق إلى حّد ما في «نشيج الدودك» فقد كان جلال جريئًا منذ صفحة الغلاف، التي كتب عليها (سيرة روائية) ونعلم أن كثيرًا من الروائيين يتحرجون من ذلك فيجعلون حياتهم في الرواية دون التصريح بانّها سيرة روائية، بل أنهم يهربون أحيانًا من أي مواجهة لهم بأن هذا البطل أو الشخصية الروائية هي امتداد لشخصية كاتب الرواية.
فالكاتب الذي يخشى مجتمعه يكتب رواية، أمّا الآخر فيكتب سيرة روائية. إذ كسر جلال في سيرته قواعد التسامح التقليدي في المجتمع. لكنّه فعل ذلك بطريقة فنية بارعة، أنتجت لنا «نشيج الدودوك». استطاع جلال من خلال ذلك أن يقدّم للقارئ الحياة بوجهيها: المبتسم، والمتجهم، لقد رسم صورة حيّة لذاته في هزائمها وانتصاراتها.
يقول الكاتب: إنّه كتب سيرته الروائية لمواجهة الذات بالمكاشفة والكتابة، وهي في حقيقة الأمر تتجاوز ذلك إلى مواجهة القارئ بصفحات جديدة من حياة الكاتب. إذ مارس بكتابته لـ˘نشيج الدودوك» ما يشبه التطهير الذي يخلصه من قيود الواقع وحمولات النفس المشبعة بأحزانها وإنكسارات الواقع.
تحظى رواية السيرة الذاتية باهتمام واضح في الأدب العربي مثل: «الأيّام» لطه حسين، و»سارة» للعقاد، و»عودة الروح» و»عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و»زينب» لمحمد حسين هيكل، و»الخبز الحافي» لمحمد شكري، وغيرها من الأعمال الفنية الناجحة.
وهذا يقود إلى الحديث عن الحدود، التي تفصل الرواية عن السيرة الذاتية، فالأولى تقترب من الخيال، أمّا فن السيرة فيقترب من الواقع، ممّا يعني أن الانتقال من فن إلى آخر، أو المزج بينهما، لابدّ أن يكون ضمن قوانين واضحة تنظّم البنيات الداخلية للفن الروائي من سرد ووصف وزمان ومكان، وتجعل من الجنس الوليد (رواية السيرة الذاتية) نوعًا أدبيًّا قابلاً للتشكّل من خلال الجمع بين تقنيات الرواية والسيرة الذاتية، واستثمار مكونات السيرة الذاتية في بناء الرواية، وذلك بحضور الأنا عبر فضاءات الذاكرة.
تمتاز رواية السيرة الذاتية بقسط وافر من الانتقائية والتصرّف في الأحداث، فضلاً عمّا يُتيحه الروائي من توظيف لأساليب المراوغة، وبشكل جعلها تختلف عن السيرة الذاتية.
تقتضي الكتابة الروائيّة الحذف والإضافة وفق حركة الشخوص ورؤيتها الفكريّة، وهذا ما تتطلبه كتابة السيرة الذاتية حيث تقوم الذاكرة بتنظيم المسرود بالزيادة أو النقصان وبشكل يتناسب مع أهمية الأحداث، وأثرها في حياة السارد.
أمّا عنصر المكان في رواية السيرة الذاتية فمتغيّر؛ لأن السرد يتطلّب الحركة، والخيال يُشكّل المكان بواسطة اللغة، متجاوزاً الواقع إلى ما قد يتناقض معه، إذ يرسم الروائي معانيه الواقعيّة مستعيداً تفاصيله الروحيّة، وهذا ما حققه الكاتب في روايته من خلال الرحلة في ثلاث مدن.
يُخلصنا برجس في سيرته الروائية من إشكالية المؤلف والراوي والسارد، التي نجدها ملازمة لرواية السيرة الذاتية، ذلك أن التطابق بدا واضحًا بين شخصية المؤلف والراوي والسارد.
يظهر المؤلف في «نشيج الدودوك» شخصية روائيّة لها ملامحها الخاصة بها، منتميّة لذاتها، متسامية على جراحها، توغل في التأمل، والبحث عن الحقيقة، تكشف عن نفس قلقة، وأسئلة مقلقة، وفضاء لا ينتهي من التخييل، ولغة تزاوج بين كثافة المجاز وتفاصيل السرد، حتى وكأنك لا تستطيع الخلاص من أسر المرويات السرديّة، التي تنثال عليك عبر صفحات «نشيج الدودوك» وكأنها فيض من روح منتشيّة بفعل الكتابة، تشدو بأحزانها كما تنتشي بأفراحها. فهو يصدر من معين إبداع خاص، ذلك أن الرواية التي يكتبها برجس ليست رواية تسجيلية أو تاريخية أو حتى واقعية، إنّها رواية المزج بين الواقع والانفعالات والتراث والرؤى، تقدّم الدليل على مأسوية الفعل الذي يتعرض له الحالم/ المثقف أو مَنْ يحاول الحلم.
السرد بضمير الأنا سمة غالبة على «نشيج الدودوك» وكأنّه يريد أن يقول: (هذا أنا) وهذه ذاتي بتشكلاتها ونوازعها ودواخلها العميقة. حيث تقترب شخصية جلال في سيرته الروائية من شخوص رواياته، فهو يشبه (خالد) في روايته «مقصلة الحالم» ويغازل علي بن محمود القصاد في روايته «أفاعي النار» ويلتصق بشخصية إبراهيم الورّاق في روايته «دفاتر الورّاق» ويُلامس جوانب مهمة من شخصية سراج الدين في روايته «سيدات الحواس الخمس».
يقول جلال مفسرًا هروبه إلى الكتابة: «قلت على لسان إبراهيم في «دفاتر الوراق» إني (أكتب لأردم هوة تخلقت بي على نحو معتم). وقلت ما يشبه هذا الاعتراف على لسان خاطر في «أفاعي النار» وعلى لسان سراج في «سيدات الحواس الخمس»: أعترف بأني اختبأت وراء شخصيات في رواياتي، وصرخت بحرية من يُدرك أنه لن يُرى. ربما هذا ما جعلني أتمسك بكتابة الرواية رغم ما فيها من تعب كبير» (نشيج الدودك، ص 78).
وهذا ما يضعنا أمام سؤال مركزي: ما معنى أن تكشف السيرة الروائية عن شخوص روايات الكاتب؟ .
يمكن إعادة قراءتنا لروايات جلال برجس بعد قراءة «نشيج الدودوك» والسبب بسيط وجوهري في الوقت نفسه. لقد قدّم المؤلف لنا رؤيته للحياة وتناقضاتها وصراعاتها كما عاشها وأسقطها على شخوص رواياته ذات المنزع الإنساني العميق.
تتداخل أدبيات الرحلة في فن السيرة الروائية، رحلة جلال الظاهرة بدأت من قريته (حنينا) في مادبا، إلى المدينة بفضائها الواسع وتشتتها الوجداني، والتي تبدّت في (نشيج الدودوك) رحلة إلى الجزائر، وبريطانيا، وأرمينيا.
وفي حقيقة الأمر لم تكن الرحلة في الرواية مجرد انتقال مكاني في حياة الكاتب، بل هي رحلة للذات في مخاضاتها العسيرة، واستشرافاتها الحالمة، تترك آثارها النفسيّة والوجدانية الغائرة.
ناقد أردني