فاعلية الصراع في رواية «شهد القلعة» لإبراهيم عبد المجيد

2024-02-06

علي لفتة سعيد

لا يبدو استهلال رواية إبراهيم عبد المجيد «شهد القلعة» استهلالا طبيعيا توصيفيّا يعتمد على المستوى التصويري، أو حتى الإخباري، رغم أنه بدأ بهذا المستوى في ثوبه العام، لكنه بدأ بالحوار الإخباري ليدخل مباشرة إلى التفاعل ما بين الحركة الدرامية وفعل الصراع. فهو استهلالٌ لا يقع على أنه عتبة ثانية بعد عتبة العنوان، بل هو مفتاح الحلّ التدويني، الذي ستسير عليه الرواية في منهجيّتها المتصاعدة. فالاستهلال هنا هو أس البدء، والعنوان الذي سيكون هو بوابة الدخول إلى مدينة السرد، والبحث عن التأويل لا يكتمل دون التواصل مع المنهجيات الكثيرة لهذه الرواية. فعنوان (شهد القلعة) بحاجةٍ إلى تفكيكٍ من نواحٍ عديدة، كونه أيضا يعتمد على المستوى الإخباري، فضلا عن كونه دليلا سيميائيا، وأيضا دلالة مكانية يمكن البحث عنها وربط الشهد بالقلعة (على الأقل بالنسبة للقارئ العربي) ولذا فإن الدخول العام للرواية وحكايتها تبدأ منذ السطر الأول، حيث يكون الحوار دالاً لما يأتي، ويكون دلالة لما يمكن استخلاصه:

(أين نذهب الآن؟!

تساءل إسماعيل.. أجابت شهد مبتسمة:

– لا تخف.. سنعرف كيف نعود..)

وبهذا يكون تفكيك العنوان من خلال مسك أولى العلامات، وقد بدأ منذ الاستهلال حين توضّح اسم البطلة (شهد) وسيمضي المتلقّي للإمساك بالطرف الثاني من الجملة الإسمية (القلعة) ومن ثم تركيب الدلالات الكبرى والصغرى، من خلال متابعة الحدث والحركة والفكرة والشخصيات والأمكنة وتحرّك الأزمنة، التي تشكّل الحكاية برمّتها، ليكتشف المتلقّي أن الرواية هي رواية المكان المتنوّع، مثلما هي رواية الحركة الانفعالية، ما بين الداخل والخارج في حركة الشخصيات وما يمكن أن تشكّلها المشاعر في خوض الغمار التأويلي بين شخصية رجل كبير في السن مثقف، وشخصية شابّة متأثرة بالفعل الثقافي، لتنطلق الأمكنة التي ترافقها حركة الزمن، لأن المكان سيتوزّع على عديد الوقائع المتنقّلة ما بين مصر وعُمان، وأماكن أخرى أجنبية، وكأنه يوقّف عجلة الزمن على حافّة المكان المليء بالمشاعر، فتتشكّل القلعة هنا من حاصل جمع الصراعات والفعل الدرامي والخاصية التأويلية، وكأن الرواية في فكرتها ليست مناقشة الخير والشر أو السلب والإيجاب، بل هي مناقشة الواقع عبر متناقضاته ومشاعره المضطربة، ليتحوّل المكان إلى واقعٍ، والزمان إلى مخيّلةٍ، فيرتبط الفعل الإنتاجي بمحاولة سحرية السرد، عبر لغةٍ تأخذ بالدهشة. فتأخذ المعادلة الإنتاجية في لعبة التدوين ثلاثة أبعاد:

البعد الأوّل: بعد الشخصيات بدءا من الشخصيتين الرئيسيتين، حيث تدور بعده كلّ الأشياء حول (شهد).

البعد الثاني: بعد الأمكنة التي تعطي مفعول الواقعية بحدّتها ووصفها وتوصيفها وأسمائها، وما يمكن أن يؤدّي ذلك إلى افتعال المشاهدة الوصفية لها.

البعد الثالث: بعد الأزمنة ليس فقط من ناحية حركة الشخصيات وانثيال الذاكرة وتشعّبها ـ بل أيضا من خلال زمن الشخصيات ذاتها وفارق العمر، وما يمكن أن يشكّلها الزمن في تفكيك لوائح العلاقات.

ويمكن أن يستخلص كلّ هذه الأبعاد من خلال المقطع الذي يأتي بعد مقطع الاستهلال الأول:

(جاء منذ ثلاثة أيام.. وتخلى عن عادته في أن يعرف درجات الحرارة وحالة الطقس في البلد الذي يسافر إليه.. استسلم للإحساس الشتوي.. فيوم سفره هو الخامس والعشرون من ديسمبر/كانون الأول.. الناس تأتي إلى القاهرة لتمضي نهاية العام.. وهو يترك «القاهرة» إلى «مسقط…!» سافر بالإحساس الشتوي، رغم أنه يعرف من زمان أن «عمان » دولة تقع في جنوب شرقي جزيرة العرب) ولهذا نرى أن العنوان قد تكشّفت كلّ أسراره منذ الصفحات الأولى، حيث اندمجت الأبعاد الثلاثة من خلال مقطٍع حواريّ واحد:

(- إلى أين نذهب حقّا؟

تساءل.. أجابت:

– ما رأيك في القلعة؟)

المستويات والتنقّل السردي

يعتمد التدوين في لعبته على خاصية المستوى الإخباري المطعّم بشكلٍ متداخلٍ مع المستوى التصويري، لذا فإن عمليات التنقّل بين المستويين، جاءت بسبب عمليات التنقّل في المتن السردي، حيث يمكن للمنتج أن يستبق الحدث ثم يعود إليه، بالتالي فإن الاحتكام إلى خاصية السير بالمستوى الإخباري لم تكن هي الفاعلة فحسب، بل جعل التداخل مع الإحساس الداخلي للشخصيتين هما الأقرب إلى عملية المبنى السردي لتقريب المتن الحكائي والعكس صحيح. وهو ما يمكن أن يراه المتلقّي عبر الأسئلة الداخلية، التي تحوّل المونولوج إلى عملية اقتراب سيكولوجي، مثلما يتحوّل الراوي العليم إلى راوٍ مشارك في ترتيب عمليات التنقّل السردي، فكلّ شيءٍ يتحرّك من خلال الراوي المنيب عن الروائي الذي يصف الأشياء بطريقة الغائب الذي يحكى عنه، بمعنى أن اللعبة السردية التي يقودها الروائي عبر راويه لا تبدأ من خطّ واحدٍ أو نقطةٍ واحدةٍ لتسير بخطٍّ مستقيم، بل من خلال تعرجّات السرد، الذهاب والعودة، بل يبدأ أحيانا بالمستقبلي بالنسبة لحياكة السرد، ثم يعود إلى الحاضر ثم إلى الماضي.

(- ماذا حدث؟!

– هذه الغابة لم تكن في طريقنا، ونحن نأتي إلى القلعة أمس!

اندهش بدوره للحظة! في الحقيقة لم ينتبه إلى الطريق أمس..

كان منشغلا في الرد على أسئلة أمها الكثيرة، واختلاس نظرة إليها هي بين الحين والحين).

وقبل هذا المقطع مثلا كان قد بدأ بانتظار قدوم شهد إلى فندقه، فراح يتناوب بالانتقالات السردية المرتبطة في الكثير من الأحيان بالذاكرة الزمانية والفعل المكاني وأحداثه.

إن هذه المساوقة ما بين تفاصيل المتن السردي، والأحداث وصناعتها وصراع المفاجآت التي لا بد من توافرها في جلباب الحكاية، التي يخلقها العنصر الدرامي، وهي بالتأكيد ستؤدّي إلى الكشف عن الأسرار مرّة، والكشف عن الحكاية وفعّالياتها مرّة اخرى. ولهذا نجد أن هذه الطريقة في التنقّل السردي ستأتي له بالفائدة. وبالنتيجة فإن الطريقة الإنتاجية أخذت العديد من المستويات التي ينتقل فيها الروائي عبر ثلاثة طرق للسرد وأماكنه:

أولا: المستوى الإخباري الذي يعطي مفعول الإخبار عن كلّ حركةٍ وزمانها للشخصيات الرئيسة والثانوية، وهو مستوى متابع لكلّ الأشياء مثلما هو تابعٌ لحركة الراوي:

(بينما كانت عيناها فوق الفتاة المغطاة.. لا يظهر منها إلا شعر رأسها.. دهشتها من نوم الفتاة العميق، جعلها لا تشعر بفرح جسدها باستقبال أعظم اللذات إلا للحظة! هكذا قالت فاتيما).

ثانيا: المستوى التصويري، الذي يكون نائما تحت إبط المستوى الإخباري أو المرافق له حدّ التلاصق، وهو الذي يكوّن المشهدية لكلّ حادثةٍ أو فعلٍ دراميٍ وصراعٍ وتوضيح المكان ودلالته، وهذا المشهد لا يأتي توصيفا فحسب، بل يأتي لشرح خاصية المشهد الذي يسرده الراوي:

(فوضع يديه تحت إبطيها يوقفها.. فوقفت.. أراد أن يجلسها على حجره.. صغيرة كعصفورة.. ممتلئة كبطة برية.. لكن الذي حدث أنها جلست حول ساقه اليسرى.. أصبحت ساقه الآن تحت أسفلها كله..).

ثالثا: المستوى القصدي وهو المسؤول عن الغائية التي يبثّها الراوي على لسان الشخصيات وتأتي في الكثير من الأحيان عبر الحوار أو جملة استنطاقية أو حتى استدراكية داخل المشهد الواحد، وهو هنا لا يأتي استكمالا للمتن السردي، بل لكسر أفق التوقع وصناعة منطقة إدهاشية:

(- تذكرت شيئا..

– هل يمكن أن أعرف؟

– صينية ألومنيوم اشتريتها، ولم أستخدمها حتى الآن..

اندهشت، وهزت كتفها.. قالت:

– هذا الخلاء الواسع، وهذا الصمت الذي يلف الدنيا كلها، وهذا الحصن الرابض في الخلاء والصمت.. لا يذكرك إلا بصينية

ألومنيوم؟).

التبويب وفاعلية الحوار

انتهج الروائي/ المنتج طريقة لتبويب الجسد السردي من خلال تفاعل الحدث من خلال التقطيع، عبر نجومٍ وليس عبر فصولٍ لها عناوين، أو أرقام أو اتصالٍ مباشرٍ بحدوث فراغٍ بين جزءٍ وجزء. وهذه الآلية التي جعلها وكأنها عملية التقاط الأنفاس له خلال العملية الإنتاجية، مثلما جعلها التقاط الأنفاس للمتلقّي، لكي يتابع حركة الشخصيات والأفعال والأمكنة والاستذكارات والأزمنة والمتواليات. وهو الأمر الذي يمكن أن يدركه المتلقّي من خلال عملية الدخول إلى الرواية وحكايتها، بعدم وجود إهداءٍ أو مقدّمةٍ أو الاستعانة بمقولةٍ لتسهيل المهمّة وتسيير دفّة القراءة في اتجاه معيّن، كمن يريد قيادة عملية التلقّي إلى حيث يشاء، فقد ترك كلّ شيءٍ مزروعا بعمليات التأويل التي يأتي حصادها بعد القراءة. وهذه الطريقة منحت المنتج قدرة الرسم الكلّي للحكاية، وقد منحت المتلقّي أيضا بعض الخصائص المتوالية، منها:

أوّلا: التفاعل الزمني وتصاعده ليس من ناحية التوازي في اللعبة التدوينية، التي اعتمدت على حركة التصاعد والتراجع، بل من خلال معرفة الفاعل الزمني الذي بدأ من أولى المشاهد، حين وصل إلى العاصمة العمانية مسقط، وتلك الحوارية بين الشخصيتين الرئيسيتين.

ثانيا: التقارب العلاقاتي بين الشخصيّات وتوزيع المهام السردية على كلّ شخصيةٍ سواء الشخصيات الرئيسية أو المرافقة، وسواء كانت شخصيات مرتبطة بالبطل وماضيه وأماكنه الأصلية (مصر) والبطلة الثانية (مسقط) أو الأخرى التي يعودان لها، وبالتالي فإن التقطيع منح عملية الإدامة لكلّ حدثٍ ماضيه بسهولةٍ ويسر.

ثالثا: التقاط الأنفاس من قبل المتلقّي لكيلا تختلط علية عملية التسارع، خاصة أن المستوى الإخباري قد ضخّم نفسه في المقاطع وراح يأتي بكلّ ما له علاقة بالحكاية وأحداثها.

رابعا: تفكيك وحدات التصارع وتوزيعها على المقاطع التي يتوقّف عنها التدوين وعدم ربط كلّ مقطع بالحادثة الكلية، بل الاستمرار بتوزيعها ومن ثم لملمة أجزائها، مثلما يتمّ ذلك في المسلسلات التلفزيونية، لكي يمنح المتلقّي عملية البقاء والبحث عن الأشياء الناقصة هنا وهناك، في هذا الحدث أو ذاك.

وبهذا تكون اللعبة التدوينية قد يسّر لها قدرة فكّ الارتباطات السردية، سواء في المبنى السردي أو متنه، وهذا يأتي من تراكم الخبرة وأستاذية المنتج إبراهيم عبد المجيد

تبدأ رواية «شهد القلعة» بالتأويل من العنوان وربط اسم الشخصية بما يتحصّل عليه البطل من شهدٍ من نوعٍ آخر، ولهذا فإن العوامل الأوّلية لهذه الرواية قد اعتمدت على فاعلية الصراع ومنهجية الإنتاج، وتداخل المستويات مع بعضها، وكانت اللغة هادئة، مراقبة، فاحصة، متابعة، تابعة للراوي، وكان الحوار فيها يمتلك الرؤية المنطقية لرسم الصورة المكانية التي تلعب لعبتها في عملية الاختلاط بين الأمكنة ذاتها.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي