في «لا أحد يعرف زمرة دمه»: تقاطعات الشخصية والمكان والحدث التاريخي

2024-02-04

حمزة قناوي

ثمة زخمٍ فنيٍّ وتقنيٍّ لافتٍ في روايةِ «لا أحدَ يعرفُ زمرة دمه» لمايا أبو الحيات، تستهوي الناقد الأدبي أن يستجليها، بهدف توضيحِ كيفية اشتغال هذه التقنيات معاً على النحو الذي يولّد بنيةً سيميائيةً دالة، قوامها الشخصية الروائية التي تنحتها مايا كالفنان الذي ينحت من خامة الصلصال أشخاصاً من روح ودم، أو كمن يرسم بريشته بورتريه محترفاً للشخصية الروائية، وفي خلفية الصورة مشاعرها وآلامها وتفاعلها مع الآخرين، وهو أمر في حد ذاته يستحق الإشادة والتقدير، لكن ما يزيد من جاذبية الرواية، تقاطعات الشخصية مع المكان، ذلك المتنوع بقدر هائل داخل البنية الروائية، الذي يتراوح بين الأردن وفلسطين ولبنان وتونس وإسبانيا، مساحة شاسعة تدور فيها أحداث الرواية، وتتقاطع الشخصيات فيها عبر هذا الفضاء الجغرافي الفسيح.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتداخل مع الاستقصاء والحضور التاريخي للقضية الفلسطينية بكل تعقيداتها، مضافاً إليها تعقيدات النفس البشرية من داخلِ قلب الأزمة، التي ربما يغيب عنا تصور دواخل الشخوص ونفسيات من تأثروا بها، أو أثّرت فيهم، وكل هذا من منظور استلهام قضايا المرأة ومشكلاتها ومعاناتها التي تزداد أضعافاً مُضاعفةً في ظلِ هذا الكم من التداخل الوحشي، مطعمةً ذلك بشعورٍ مريرٍ من الشكِ في بنوّةِ بطلةِ القصة لأبيها، وشكها في أن تكونَ حصادَ بذرةٍ أخرى غير ما غرس والدها، كلُ هذا يجعل من هذه الرواية طاقةً من البنية الفنية المتجذرة في الإبداع.

يرى سعيد بنكراد أن: «الشخصية ليست وليدة مستوى التجلي كما توهم بذلك القراءة العادية، بل توجد لحظة استشراق بنية مجردة، تعود إلى نص ذي مبنى، أي يملك بعداً تصويرياً يعد معادلاً محسوساً بحدٍّ مجرد»، ومن ثم فإنَّ تحليلَ الشَخصيةِ من وجهةِ نَظرٍ سيميائيةٍ باعتبارها علامةً لها دالٌ ومدلولٌ أمرٌ ليس بالهين، فهناكَ فَارقٌ بين التعامل مع الشخصية من منظور الوظيفة باعتبارها: «كل مشارك في أحداث الحكاية، سلباً أو إيجاباً، أما من لا يشارك في الحدث فلا ينتمي إلى الشخصيات، بل يعدُ جزءاً من الوصف، الشخصية عنصر مصنوع مخترع ككل عناصر الحكاية، فهي تتكون من مجموع الكلام الذي يصفها ويصور أفعالها، وينقل أفكارها وأقوالها»، والتعامل معها من حيث هي كائن وهبت له صفات البشرية، يقول جيرالد بيرنس: «كائن موهوب بصفات بشرية وملتزم بأحداث بشرية، ممثل بصفات بشرية، والشخصيات يمكن أن تكون مهمة، أو أقل أهميةً (وفقاً لأهمية النص) فعالة (حين تخضع للتغير)، مستقرة (حينما لا يكون هناك تناقض في صفاتها وأفعالها)، أو مضطربة وسطحية (بسيطة لها بعد واحد فحسب وسمات قليلة يمكن التنبؤ بسلوكها)، أو عميقة معقدة لها أبعاد عديدة قادرة على القيام بسلوك مفاجئ»، فترى من أي منظور سوف ننظر لشخصيات مايا أبو الحيات؟ وكيف نحللها في ظل السياقات التي قامت بوضع شخصياتها في تفاعلاتها مع الآخرين في ظرف تاريخي له سمته الخاصة؟

إن الرواية تزخر بأسماء أكثر من عشرين شخصية، منها ما هو محوري وتدور حوله، أو به الأحداث، ومنها ما يأتي عرضاً لزوم استكمال الحكي وتتبع المعطى النفسي للشخصية ـ كالأولاد الذين يغرمون بـ(جمانة) و(يارا)، ونلاحظ هنا الاهتمام الشديد بالمعطى النفسي للشخصية، خاصةً شخصية (جمانة) التي تبدأ منها الأحداث، وتنتهي بها مع ابنتها (شيرين) وهي تتبول في الطريق العام، وبين هذا الدَورَان من البداية إلى النهاية استرجاعٌ كثيفٌ يستحضر الأحداث كافة التي تسجلها الرواية، يمكن القول إن شخصيات (ملكة) و(يارا) و(جمانة) و(أبو السعيد) و(آمال)، تمثل الشخصيات الأساسية التي تدور حولها الأحداث في ثنايا الرواية، ولكن هل هذا هو الهدف فقط؟ هل سرد معاناة هذه الشخصيات التي يمكن القول إن بعضها تسبب بالمعاناة لبعضها الآخر، هو الهدف الأساسي للرواية؟

في خلفية الرواية وقائع تاريخية تمثل ركيزة جوهريةً وعنصر ثقلٍ أساسياً للسرد، متمثلة في المعاناة الواقعة على الشعب الفلسطيني، الذي يعيش الشتات في مختلف دول العالم، فأحداث حصار بيروت من قِبل العدو الإسرائيلي، وترحيل ياسر عرفات وأحداث «أيلول الأسود» في الأردن، والرحيل إلى تونس – ثالثة المنافي كما يقال، وغيرها من الأحداث التي ينظر لها التاريخ العربي نظرة خاصة في ذاتها، وتصلح أن تكون بنفسها سبيلاً للكتابة الروائية عنها، لكن المغاير في رواية مايا أن تلك الأحداث تمر بأشخاصٍ عاشوها فعلا، وذاقوا ويلاتها، ولكن في خضم ذلك هناكَ جانبٌ بشري نفسي وجداني ومشاعر من الحب والكره والأبوّةِ والأمومة، والإخلاص والخيانة، مشاعر البشر العادية في ظروف غير عادية، فشاءت الأقدار أن تكون كل هذه المشاعر لها طعم آخر، وكيفية مغايرة عن حياة باقي البشر في ظل هذه الأوضاع الاستثنائية، وغير العادية، إنها معاناة إضافية تضاف إلى المعاناة الأصلية.

فلو جرّدنا أحداث الرواية من خلفيتها الفلسطينية واللبنانية والأردنية، فكانت فقط عن مجرد فتاتين انفصلَ أبواهما، وتنوعت إقامتهما بين عمة (افتكار) لا قِبل لها بتربيتهما، وقد يتعرضان للاعتداء على يد أحد أبنائها، وأب لا يجيد التربية، ولا يعرف حسن الحوار، غليظ الطبع، ولا يعرف ماذا يفعل مع فتاتينِ ينعتهما ـ وهما ابنتاه ـ بأحطِّ الصفات، ويراهما مشروعاً جالباً للعار، ثم معاناة إضافية بظهور احتمال بألا تكون ابنة أبيها، وإنما ابنة خطيئة، وأن تكون شقيقتها ورفقة دربها (يارا) ليست شقيقتها، وتظل مع ذلك أختها من أمها، كل هذه المعاناة القاسية وما يتخللها من نظرة تعيد ترتيب الأوضاع الاجتماعية لمكانة المرأة ومعاناتها في المجتمع العربي كانت كفيلة بأن تقدم لنا عملاً اجتماعياً متشابكاً، لكن هذا البعد الاجتماعي للرواية يتخذ أبعاداً مضاعفةً مع الخلفية الزمانية المكانية التاريخية، التي صاغت الروائيةُ المُجيدة الأحداث في خضمها.

الشخصيةُ المحوريةُ التي بدأت من عندها الرواية واختتمت هي شخصية (جمانة)، وهي شخصية يمكن وصفها بالشخصية التي تدور حولها، أو من أجلها الأحداث، كما أنها تشهدُ تغيرات وتقلبات في وجهة نظرها خلال العمل الأدبي، والرواية تستعرض حياتها منذ اللحظات الأولى لولادتها، والتي تشهد نفور والدها (أبو السعيد) منها، حتى أن من يقوم بتسميتها هو الطبيب، تقول الراوية: «الطبيب أطلق عليها اسم جمانة. جمانة ذات الرائحة الملائكية المخلوطة بالحليب الناشف، أم سمير قالت إن صوته نشّف الحليب في (بزي) فلم ينزل الحليب، فاستعضنا عنه بالحليب الناشف الذي التهمته جمانة بنهم». ويظل طوال الوقت هناك نفور بين (جمانة) و(أبو السعيد) والدها الذي يحتمل ألا يكون والدها، رغم أن المعطيات الأخيرة للرواية تشير إلى أنها كانت بارة به، ترعى ما عليها من واجب تجاه والدها.

تتضافرُ الأحداثُ وتؤثر على كل شخصية بشكلٍ درامي ـ تراجيدي مذهل، فالمشكلة هنا ليست مشكلة أبٍ لا يحب إنجاب البنات، وهو أمر كفيل في حد ذاته بخلق معاناة هائلة لـ(جمانة)، ليست هذه المشكلة فحسب، وإنما يضاف لهذه المشكلة تراكمات أخرى تعقد من حياة (جمانة) وإدراكها للواقع، فالطريقة التي تم بها الزواج بين والدها (أبو السعيد) الذي لم ينجب (سعيداً) طوال الرواية ليظلَ اسمه رمزياً فقط، ووالدتها (آمال) التي كانت تحب شخصاً آخر غير والدها، ولكنها أرغمت على هذا الزواج الذي جاء لتقديرات أخرى، فوالدها عضو في المنظمة الفلسطينية، له نفوذ وسلاح ويرتبط خالها بعلاقاتٍ تجعله يبحث عن النفوذ أكثر مما يهتم بسعادة أخته، أو لم يكن يتوقع أن تكون طباع (أبو سعيد) بهذا القدر من الصعوبة وقهر شقيقته. تقول الراوية على لسان (آمال) الأم: «هو قال إنه سيأخذني خطيفة إن لم أوافق، ولم يكن يحتاج للكثير من التهديد، فأخي أحمد وجد أنها فرصة جيدة ستمكنه من تعزيز وجوده في صفوف المنظمة، كما ستجعل منه نموذجاً يحتذى به لزواجه من وفيقة، وهي الأخرى فلسطينية من المخيم، كشرة ولا يطيقها أحد، وكان قد تزوجها للهدف ذاته».

من وجهة النظر السيميائية فإنه لا شيءَ يرِدُ اعتباطاً، كل العناصر تتكامل معاً من أجل تحقيق الجانب الفني الجمالي، والجانب التواصلي الدلالي، لذا فإنني أتوقف أمام مونولوج داخلي بين الراوية ونفسها، أو قل بين الراوية (يارا) والقارئ، لكي تقول: «والغريب أن كلمة «نعود» لا تتفق أبداً مع حالتنا أنا وجمانة، فنحن لم نكن يوماً هناك لنعود، وأنا لا أفهم لماذا يجب علينا أن نشعر كما يريد لنا الآخرون أن نفعل. فأنا لا أعرف عن فلسطين سوى ما يقوله الأستاذ خيري أستاذ التاريخ وهو يحاول أن يعلّمنا «بالكندرة» شكل خريطتنا، ويثور على كل من يرسم اعوجاجاً غير مقصود لأي خط من خطوطها غير المستوية».

بهذه الجملة البسيطة تضع قضيةً كبرى على محكِ التفكير، ربما لو قيل الأمر في سياق مقال أو سياق محاورة لما وجد التأثير النفسي المتضمّن هنا، ففعلياً في ثنايا الرواية لم ترَ كلٌ من (يارا) و(جمانة) فلسطين، ولم تولدا على أرضها، ولم تعيشا فيها، لكنهما تعيشان يومياً الحياة تحت الاحتلال وتكتويان بتفاصيلَ مؤلمةٍ لا يراها من لا يعيشون على تماس مع هذا الاحتلال الكريه، فهي عبارةٌ على قِصرَها تعرض مسألة الهوية من منظور براغماتي هنا يتم طرحُه في خلفية النص، ففلسطينيو الداخل يتعاملون مرغمينَ مع الاحتلال الإسرائيلي كل يوم، ويحصلون منه على تصريحات دخولهم وخروجهم من المدن، وهو المشهد التصويري الذي أبدعت في رسمه عندما حاولت (جمانة) أن تذهب لأحد معامل التحليل لكي يحلل لها حمض الـ DNA بينها وبين أختها لتعرف إن كانتا شقيقتين أم لا، فتصف المشاعر المتضاربة والخوف من سلطات الاحتلال والتعرض للمساءلة، والخوف مرة أخرى من الاتهام بالتطبيع، في صراعٍ نفسيٍّ داخليٍّ معقدٍ وشديد الصدق.

على امتداد الرواية نجد مايا تصنع، بطريقة جمالية غير مباشرة، تأكيد تفاصيل قضية كبرى تلم بأدق يوميات معايشتها وحساسيتها. نتأمل هذا الوصف الذي تقول فيه: « اخترقتهم وفيقة التي أصبحت تتحرك بعصبية شديدة. سمعتها تصرخ وتصرخ، وكان هناك بجانبي من يبكون، وواحد خرج من الجموع وتقيأ قرب صندلي. دخلت مدفشة من هم حولي فوجدت وفيقة تشد بشعرها وتهز جسدها كالبندول أمام جثث لنساء ورجال وأطفال مكومة بعضها فوق بعض. أيد وأرجل ورؤس، ميزت وفيقة رأساً صغيراً أسفلَ بطنٍ مبقورة لامرأة أربعينية، وصارت تصرخ «جنى جنى». هجمت على الجسد الذي في الأعلى. كانت طفلة في العاشرة تلبس فستاناً مُمزقاً من الأسفل أظهر جزءها السفلي كله».

هذا الوصف للفجيعة حول المذابح التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني في لبنان، يجعلنا نتساءل: من وجهة نظر علم النفس: كيف أثّرَ ذلك على الذوات التي عاينت وشاهدت هذه المشاهد؟ وكيف أثر على من فقد أهله وأقرباءَهُ بهذه الطريقة البشعة؟ إذا ما كان هناك التأريخ السياسي، فإن نوعاً من التأريخ النفسي الاجتماعي تم إهمالُه لفتراتٍ طويلة حول قضايا عديدة نرغب دائماً في تجنبها ولا نخوض فيها، تخوضها مايا بكل جرأةٍ وتفرُّد، لا تتوقف عند حد، كتناولها أثرَ المذابح البشعة التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني.

إن أمراً جوهرياً تشير إليه مايا أبو الحيات في روايتها هنا، وهو أمر أعتقد أننا كثيراً ما نقع في الخطأ تجاهه به، وهي تُبصِّرُنا به، وهو التعامل مع الشخصية الفلسطينية على اعتبار أنها كُلٌ واحد، بينما الحقيقة أن الأمر مختلف بقدر تجربة كل فلسطيني عن الآخر، وأيضاً باختلاف تعاقب الأجيال عن بعضها بعضاً، على قدرِ ما عانى كل منها واحتمل وعاصر من ويلاتٍ بنبلٍ وشجاعةٍ وثباتٍ على المبدأ والموقف، فهناك من عاين المذابح واكتوى بنارها، أو من كان في مواجهة مع السلطات الأردنيةِ في أحداثٍ تاريخيةٍ حددت معطياتها لحظةٌ تاريخيةٌ ما، أو في شتات بعيد يعاني فقدان الأم أو الأب لأسباب متعلقة بالعدوان الإسرائيلي، أو للقيم العربية التي في جزء منها تضع المرأة تحت ظلم وطغيان يجبرانها أحياناً على العيش مع من لا تحب، وانتهاء الرواية بعدم تقدير من هم في السيارة مع (جمانة) لحالة ابنتها (شيرين) التي ترغب في التبول ولا تعرف كيف تتصرف معها، ثم ختام الرواية بفعل التبول في الطريق العام، والتأمل في الواقع «المعقّد أكثر مما نظن»، ونعامل كل موضوع وفق تاريخه الخاص به، وليس في عمومية أو تسطيح للقضايا، وهو أمر مذهلٌ في تصوري: أن تنجح هذه الرواية في إمتاعنا أولاً وإبهارنا بقدرتها الفنية المركبة شديدة الحساسية ثانياً، وجعلنا نتأمل ونعيد النظر في أفكارٍ عددناها من المسلماتِ طويلاً، دون أن نعي حساسية ومعاناة أفرادها المكتوين بتفاصيلها الموجعة ثالثاً.

«لا أحد يعرف زمرة دمه» روايةُ حضورٍ لفلسطين الحية اليومية في تفاصيلها الإنسانية البسيطة والعميقة والوجودية والمواجِهَة، حيثُ يتحرك البشر بذاكرةٍ حيةٍ ووعيٍ جمعيٍّ لا يُغفل التاريخ ويواصل مقاومة القبح وغطرسة قوة الاحتلال، بوعي شديد الرهافة لروائيةٍ لا تغفل تفصيلةً من أبسط عناصر الحياة اليومية إلى مساءلة مسلّمات القضايا الكبرى وتثوير الوعي بهدوء ومن خلال طرح الأسئلة.

شاعر وناقد مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي