البعد الإنساني في رواية « الحياة من دوني» للمغربية عائشة البصري

2024-01-31

العالية ماء العينين

يقول أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة»: «لي انتماءات مشتركة مع كل كائن حي. لكن لا يوجد كائن في الكون يشاطرني كلَّ انتماءاتي».. الهوية كالبصمة، قد يتشابه الناس جميعا في وجود اليد أو الأصابع.. لكن لا بصمة مثل الأخرى. الهوية مفهوم يحيل على التحديد والتميز والحد، أي يفترض جوابا مانعا قاطعا عن السؤال من أنت؟ من هو؟ من أنا؟ هذه الصورة/ الجواب، التي قد تبدو متجانسة وثابتة تشبه إلى حد بعيد تلك الجداريات، أو اللوحات التي تراها من بعيد.. هيئة واضحة المعالم، لكن كلما اقتربنا أكثر تجلت المجسمات الصغيرة. الفسيفساء المتنوعة الألوان والهيئات والتفاصيل، التي تصنع تلك الصورة النهائية، وهنا يظهر لنا الجانب الثاني للهوية اللانهائي.. المتعدد.. المتشظي، الأجزاء التي تتكاثر وتتلاحق لتكون الصورة.

الهوية بهذا المعنى سلسلة من الاكتشافات لا تنتهي، وهو ما عبر عنه بول ريكور بقوله: «وما الذي يسوِّغ اعتبار فاعل فعلِ ما – هو الفعل الذي يعزى لاسم العلم الخاص به، أو بها – هو نفسه من تمتد حياته من الميلاد إلى الموت؟».

في «الحياة دوني» – الرواية الثالثة لعائشة البصري- ومنذ العتبات، يحاصرنا هذا الآخر الذي يبدو «مختلفا عنا» والذي يشكل بعدنا الإنساني.

– العنوان «الحياة من دوني» هذا العنوان لا يرمز إلى غياب الذات/ الأنا عن الأحداث، بل عن الحياة بالموت. وبعد هذا العنوان. سيظهر آخر يبدأ من الصفحة 23 وهو «فوتشين معزوفة حرب منسية».

– الغلاف، عبارة عن صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود لفتاتين آسيويتين يبدو ذلك واضحا من ملامحهما، ونعرف من الساردة مصدر الصورة وتعريفا بها: «صورة لصبيتين متعانقتين تتكئان على بقايا جدار، يبدو جليا أن الغلاف مركب من صورة حقيقية التقطت في استوديو تصوير ومن أنقاض مدينة بعد حرب ما».

– الإهداء «إلى ضحايا اغتصاب الحروب» إهداء يطبعه التعميم والإطلاق ويحيل على مأساة إنسانية، يتعزز بالنصوص القصيرة التي استفتحت بها الرواية، التي يجمع بينها «الحرب» نموذج: مقولة شاعر فرنسي: «كل الحروب هي حروب أهلية لأن جميع البشر أخوة».

وإذا تصفحنا العناوين الفرعية، التي تبدأ بالدار البيضاء وتنتهي بالرباط، فإنها تبحر بنا بعيدا بين آسيا وأوروبا: قرية جسر تشولانغ ونانجينغ وبكين في الصين وسايغون في فيتنام ومرسيليا وسانت ليفغادْ سور لو.. باريس… في فرنسا. إذن تبدأ الحكاية من الدار البيضاء في شتاء 2014، لنكتشف مع الساردة كيف تحول كتاب حول المقابر التي كانت مهووسة بجماليتها إلى أسئلة قلقة حول مصير الموتى. تقول: «كلما أٌعلن عن آخر إحصاء لساكنة العالم ازداد قلقي على مصير الجثث، بت أحمل على عاتقي مشكلة عالمية مقبلة.. كارثة أخطر من ثقب الأوزون.. وأفظع من جفاف منابع الماء.. تخيلت عدة سيناريوهات مرعبة، كأن يستيقظ شخص ما ويجد أن والدته فارقت الحياة ويقبلها على الجبين، ويرمي الجثة في حاوية الأزبال». هذا القلق سيرافقه سؤال: ماذا يفعل الناس بأمواتهم في ثقافات الآخر؟ رحلة تبدأ من بقايا امرأة ماتت في الصين، لينتقل رماد جثتها في جرة إلى سوق «الشِّينْوا» في درب عمر في الدار البيضاء، هناك ستقع في يد الساردة التي ستقتنيها مع مجموعة من الذكريات التي تخص، أم صاحبة المحل (الشنوية التي التقت بمحمد الجندي المغربي في الجيش الفرنسي.. المحارب في فيتنام واستقرت معه في الدار البيضاء) ومن بينها «كتيب صغير بعنوان: «فوتشين معزوفة حرب منسية» تحت العنوان وبخط أحمر شهادة حرب – تحرير كاترين لي» الذي يضم حكاية التوأم فوتشين وجين مي.

وتبدأ رحلة جديدة تسلم فيها الباحثة، في القبور والموت.. حبل الحكي لتتناوب الصبيتان الصينيتان عليه، ورغم أن أحداث الحكاية، أو جل أحداثها دارت هناك في أماكن بعيدة، إلا أن كل حلقة من حلقاتها تشدنا إليها بروابط أعمق بكثير من مجرد تعاطف إنساني؟ إنها أرواح تسكننا وتجارب تشبهنا، ويتجلى ذلك في صورتي الحرب والمرأة. تقول فوتشين: «حين جاءت الحرب قضت على ما تبقى من هوياتنا.. تهنا في الأرض بلا هوية محددة لأن الأسبقية كانت للبقاء على قيد الحياة» ودائما في أجواء الحرب تقول جين مي «لم تكن هناك سيارات إسعاف ولا صفارات إنذار. كما في المدن فكانت الطائرات تحصُد أرواحا أكثر». قد تختلف الوسائل والسياقات والآليات، لكن الثابت في الحرب هو حصد الأرواح.. ولأن التاريخ كالأخبار لا يهتم إلا بالأحداث «الكبرى» فإن الرواية ومن خلال التفاصيل تؤنسن الحروب وتضيء خيوط الوجع والألم حتى يصبح للإنسان اسم وإحساس وحياة وأهل وليس مجرد رقم. تقول الساردة: «يتحلق الأطفال حول الفرن يملأون دلاء الخوف من فم الجدة الدرداء. قبل أن يأتيَ الغزاة لنزع الحياة من الأسرَّة الباردة المبللة ببول الخوف والعطنة برائحة البارود». هل يمكن أن نتحدث عن «رابطة الحرب» في علاقاتنا الإنسانية. تماما كرابطة الدم أو اللغة أو العرق؟ شيء ما أو أشياء كثيرة في الحرب تجعل أهلها يتشابهون أينما كانوا. ومن هنا يصبح ما هو بعيد أقرب من حبل الوريد، لأن الحرب تكشف أحاسيس قد تكون مطمورة بفعل الحياة. وحدها قسوة الحرب قادرة على إشعالها. ولا يشعر بذلك إلا من خبر تلك التجربة ومرارتها «في الحرب لا ننتمي إلا لأنفسنا» كما تقول فوتشين.

ولأن نهاية حرب «واضحة « بين جيشين أو جهتين (مثل الصين واليابان في الحكاية) ليست سوى بداية لحروب لا تنتهي، حدثت هناك وهنا وتحدث في كل مكان. تقول فوتشين: «في مطلع سنة 1946 كانت حرب الأعداء قد أشرفت على نهايتِها، لتبدأ حرب الإخوة». وبصورة كاريكاتيرية مؤلمة تحاول فهم هذه المفارقة التي تجعل الإنسان يقاتل من أجل الجماعة والوطن. وعندما يزول الخطر ينقلب على نفسه/ جماعته وتبدأ حروب الإخوة الأعداء. تقول الساردة: «بعد طرد العدو الياباني طرح السؤال: ماذا سنفعل بلا حرب بلا طائرات وقنابل؟ استيقظت شهوة الدم واستؤنف الاقتتال الذي توقف سابقا على السلطة بين الأخوة الأعداء.. اختلط الحابل بالنابل.. سعار جماعي أصاب الإخوة والرفاق». هذه الصورة البشعة من الحرب الصينية اليابانية، لا تبدو غريبة فبعد أن تهدأ سَورة الفرح بالاستقلال تبدأ دورة أخرى من العنف. من كان يتصور أنه بعد استقلال المغرب يمكن أن تصبح ساحة الحرب والعنف وأبشع أنواع التصفيات. أبطالها أبناء الخندق الواحد في مواجهة المستعمر، فالخلافات التي غطتها المقاومة انفجرت مباشرة بعد الاستقلال فبرزت «هويات» على مسرح الأحداث لتزيح الهوية التي حاربت الاستعمار.. صورة أخيرة من صور الحرب البشعة، تقول فوتشين عن مقتل أبيها في الحرب: «إحساسنا بالارتياح كان أكثر من الإحساس بالحزن.. فالموت مؤكد والجثة موجودة حتى لو كانت بلا رأس».

في الحرب يصبح للراحة معنى آخر..

الوجه الآخر لهذا البعد الإنساني في رواية «الحياة دوني» هو النساء ضحايا الحروب.. قد نتساءل ونحن نغوص في أحداث هذه الحكاية. ما الذي شد الكاتبة إلى هذه الحكايات؟ ما هي الهوية التي ربطتها بهذا العالم؟ وهل الخلفية الإنسانية كافية لخوض مغامرة كهذه؟ أم هناك شيء أعمق من مجرد التعاطف؟ ماذا يعرف العالم عن الحروب الخلفية. حروب ساحتها جسد المرأة؟ عن رقيق الجنس في زمن الحرب؟ تتساءل فوتشين. وتضيف «حربنا السابقة لا تختلف كثيرا عن الحروب الآنية ولا الآتية إلا في تطور السلاح وزيادة القتلى.. أريد هنا أن أتحدث عن تلك الآهة الخافتة التي تطلقها امرأة مجروحة.. جروح الروح هي التي لم تدون»….

هل هي تلك الآهة الخافتة؟

إذا كانت الحرب رباطا دمويا يجمع الناس، فإن بين نساء الحروب رابطةً أكثر قسوةً وأشدَّ إيلاما. إنه الجسد الذي تستبيحه الحروب قبل أن تأخذ الروح. تقول: «الغزاة غزوا الوطن وأجسادنا نحن النساء، بالمعنى الديني دنسوا الأرض ودنسوا الجسد، اعتبروا أجسادنا غنيمة حرب فعانينا من احتلال مزدوج احتلال الوطن كمكان عام واحتلال الجسد كمكان خاص…». ويبلغ قهر الجسد (حامل الروح) مداه حينما يتساوى في العبث بخريطته العدو والصديق، قد كانت فوتشين تهب جسدها لحبيبها (المناضل) لكنها أيضا ملزمةٌ بأن يستغل جسدها كسلاح حرب ضد الأعداء، حين يرسلها لإلهاء جندي ياباني، حتى يتمكنوا من تهريب ما يحتاجون إليه، تقول «انتظرت لأيام إشارة من حبيبي المقاتل الذي أحببته.. رغم أنه كان يستعملني، لكنني لم أعرف حينها هل كان يستعملني للخيانة، أم من أجل الوطن». ليس غريبا بعد كل هذا أن تتشوه الأرواح والمبادئ أو على الأقل تتغيَر من حال إلى حال. فتصبح المرأة سجينة هويتها الجنسية وهناك تلتقي نساء كثيرات مهما اختلفت ألسنتهن، وأوطانهن ومعتقداتهن.. ولا شيء يسمع سوى صرخة فوتشين «جسدي أصبح وطني. الخرائط والحدود لم تعد تعني لي شيئا. الأديان والأسلاف والعقائد لم تعد بالنسبة لي سوى قيودِ للجسد».

هذه الصرخات التي لا تنقلها الأخبار ولا التاريخ المكتوب، لكن تتناقلها ذاكرة النساء من جيل إلى جيل ومن أرض إلى أرض لتجد صداها في أبعد نقطة يصلها صوت امرأة مستباحة الجسد والروح. عندما عادت فوتشين في الثمانين من عمرها إلى قريتها، لاحظت هذا التقدم الكبير الذي حدث، وتلك البنايات الشاهقة التي عوضت منازلهم التي هدمتها الحروب، لكنها لم تستطع البقاء طويلا، حملت الجرة التي تحتفظ ببقايا توأمها جين مي. وعادت بها إلى الدار البيضاء. هي ما تبقى لها. لم تكن تتصور أنها بتلك الرحلة القصيرة قطعت حبل السرة. فقد صدقت ما كان يقوله لها محمد، بأن وطنها حيث يوجد أبناؤها، لكنها عادت أكثر صفاء وهدأ الضجيج الذي في رأسها واختفت أصوات الحرب..

تقول الساردة في نهاية الحكاية: «أغلقت كتاب فوتشين، معزوفة حرب منسية» على صفحته الأخيرة. أحسست بانقباض في صدري وبرغبة قوية للبكاء. لم أركُنه في المكتبة على رف الكتب المقروءة، كما أفعل عادة، بل تركته عمدا على الدولاب جانب سريري أتأمل بين الفينة والأخرى صورة الصبيتين الصينيتين وأنقاض الحرب والخراب خلفهما. كنت اكتشف تفاصيل جديدة في صورة من الماضي بالأبيض والأسود، وأصوغها بألوان الحاضر. واضبت على حرق البخور كل يوم جمعة بجانب جرة جين مي. الأموات ليسوا أمواتا تماما انتظروا قليلا وسيصلكم همسهم».

أكاديمية وناقدة مغربية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي