الإشارات الصوفية في رواية «عيون سعدية»

2024-01-30

عبدالحفيظ بن جلولي

تمثل الرواية حركة «اللعب» الذي تظهر لذته فيما يوحيه للاعب من أخيلة وفضاءات أخرى وإمكانيات هائلة لاستمرار اللعب ذاته، هكذا فقد انهيت قراءة رواية «عيون سعدية» للروائي الجزائري الفرنكفوني يوسف بن دخيس صاحب جائزة «الجائزة الكبرى للمخطوط» في فرنسا لعام 2021، وتبين جليا في مخيلتي قراءة نقدية بدلالاتها وتأويلاتها، لكن عنصرا من عناصر القراءة أحالني إلى جانب مغاير، فإعادة القراءة لعب وليست استهلاك كما يرى بارث.

حول الرواية

تتأسس الرواية ابتداء كونها تنبيهية إلى أن البعد الفيزيائي ليس هو الوحيد الذي نعيشه في الحياة، إن لهذا الوجود بعدا لا مرئيا، موازيا، فما معنى الأحلام في حياتنا مثلا؟ يتمثل هذا البعد أيضا في الخيال المقصي من تفكيرنا في عالمنا المتخلف، والذي لا يستعمل مجتمعيا إلا للقدح في من حاول الخروج عن النمطي والمستقر. بهذا البعد الآخر تكتمل الحلقة الوجودية للإنسان ويمكن تفسير ولو القليل من الغموض الذي يكتنفها، فالرواية من هذا الجانب تقدم جانبا معرفيا في ما يتعلق بالحلم والحلم المزعج والكوابيس، وتقدم شخصيتين مهمتين في هذا المضمار المحلل النفسي والفقيه.

الملمح الثاني الذي من خلاله يتأكد الملمح الأول هو «عيون سعدية» التي كل من نظر فيها، رأى العمق الذي خلفها، وهو ما يحيل إلى الوجود اللامرئي في حياة الإنسان، وباعتبار «سعدية» أيضا شخصية متخيلة داخل الرواية، فهي شخصية من شخوص «رابح» الذي يكتب نصا داخل النص الإطار.

مُفتتح الرواية وفضاء الخلوة

تُفتتح الرواية بمشهد «رابح» وحيدا مع حاسوبه، ولا يسمع سوى النقر على لوحة المفاتيح، فضاء الصمت المطبق الذي تتطلبه الحالة الابداعية لكي يستمع الروائي فقط إلى صوته الداخلي، ذلك الذي يستقي منه الصورة واللغة وحركة العالم الذي يكتبه، والروائي بتصويره لصوت النقر إنما يريد أن يمنح الصمت هوية، فـ»الصمت موسيقى الكون» كما يقال، والروائي يريدنا أن نستمتع بهذا الصمت كما يستمتع به هو، لأنه ترجمة للأصوات الداخلية التي تتحرك فيه. الكاتبة الإيرانية بارينوش ساني تكتب رواية بعنوان «الصوت الخفي» بطلها طفل يكلمه صوتان «بابي» و»آزي» يتوهمهما، لكن ربما هما الصوت الداخلي الخفي الذي يحرك الوجود الابتكاري للروائي. والصمت لا يحيل إلا إلى «الخلوة» خلوة الكاتب مع ذاته، يستمع إلى نبضها العميق تماما كما هو الصوفي في خلوته يستلذ بالانقطاع استئناسا بمحبوبه، ويبتعد كلاهما المبدع والصوفي عن كل ما يفسد هذه الخلوة، لأن المبدع وهو يمارس طقس الكتابة، إنما هو منقطع إلى فعل الكتابة، فقط دون خرقة الصوفي الملموسة، خرقته هنا تتجلى في تجرده للنص وانفصاله عن كل ما يمت إلى ضجيج العالم بصلة سوى تلك التي تتسرب خفية في الصوت الداخلي.

حركة النص وإرباك القارئ

تمثل مورفولوجيا النص ذلك الشكل الذي يضعه الروائي كتصميم لبناء معمار النص، هذا الشكل يتحرك ضمن نظام يضمن للنص أن يكون له معنى يتقصده الروائي لإدماج القارئ في لعبة «غواية النص». إن تأثر القارئ بأحداث الرواية التي تحركها مشهدية الشخوص هو ما يجعل اندماجه مع النص منتجا، سواء على المستوى النفسي، أو على المستوى الذهني الذي يروم إعادة إنتاج النص.

إن طبيعة حركة النص التي اتخذها الروائي بن دخيس في «عيون سعدية» للفت انتباه القارئ إلى الموضوع الأساس في الرواية وهو «العالم الموازي اللامرئي» للعالم الواقعي المرئي، تنبني على إرباك القارئ، وبرنامج الإرباك يتضح من خلال التناوب السردي في تثوير حركة النص، حيث يستمر رابح الشخصية الواقعية في إثبات فاعلية اللحظة داخل نص «عيون سعدية» وهو النص المتخيل/ الإطار، ثم يتنحى لكي يبرز «النص المتضمن» لسعدية في إتمام النسيج السردي، فرابح منهمك داخل الرواية في كتابة رواية عن سعدية، وأثناء هذا التناوب بين حياة رابح العادية في الواقع المتخيل (الرواية الإطار) وحركة سعدية في الرواية المتضمنة، يرتبك القارئ باعتبارات الأحلام التي يراها رابح، والتي تتحول إلى واقع، فبعد أن كان يرى «سعدية» التي يكتب عنها في الرواية في الحلمِ فقط، أصبح يراها في الواقع، لكن بصورة تثير الرعب، خصوصا لما يطلع إلى عينيها اللتان تحيلان إلى عمق غريب وسحري يكشف عالما آخر. وهنا تتخذ الرواية مسار العالم المتخفي، حيث يشعر رابح بأن أحداث هذه الرواية كما لو إنها تملى عليه، كائن ما يوشوشها في أذنه، حتى إن الأحداث كان يشعرها تكتب ذاتها، وهنا يدخل القارئ متاهة الكاتب أو لعبة الغواية التي يمارسها كاستراتيجية لجذب القارئ، فيتساءل هذا الأخير عن طبيعة النص؟ وهل الكاتب فعلا يقصد هذا العالم الآخر المحايث للواقع؟ هل هذه الرواية «عيون سعدية» خيال أم واقع؟ هل يكون الكاتب قد تعرض لمثل هذا الحدث وهو في نصه الحالي يعرض تجربته؟

هذا الإرباك والتساؤل القلق، نتج عن انخراط القارئ في لعبة النص وما فاجأه به الروائي، حيث حمله إلى منطقة لا يتحملها القارئ، أي أن «لسان المقال لا يقدر على ترجمة واقع الحال» تماما كما عند المتصوفة، فما حدث لابن عربي والحلاج وغيرهما يكشف عن أن حال الصوفي محمول ثقيل على اللغة، وعند الإفصاح عن بعض الحال، يستشكل على العوام ذلك، فيرفضون «الحال» لأنه تجربة ذاتية لا يعرفها ويفك مغالقها سوى صاحبها، فالحلاج في قوله: «أنا من أهوى ومن أهوى أنا روحان حللنا بدنا/فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا» لم يفهم المتلقين هذا المنطق لأنه بكل بساطة منطق يرى بعين العين، أو عين الباطن كما يرد في بعض التعاريف حول الفؤاد، وحقيقة البيتين في ما يبدو، أنهما يتعلقان بما يمكن تسميته «ديمومة المعية في كنف المحبوب» فالديمومة يرى فيها المحب محبوبه لأنها تكشف عن استمرار لا انقطاع فيه في حضرة الله.

وكذلك الكاتب يشعر ذاته بأنه الوحيد الذي يفهم نصه وتستولي عليه بعد ذلك كيفيات تفكيك غموضه ليصل إلى فهم القارئ، وهذا هاجس مستبد بالكاتب، فمن خلال حواراتنا لمست فيه هذا المنحى الإيصالي للمعنى في روايته إلى القارئ، وهو غير ملزم، فرهانه مع اللغة والحدث والشخوص، والقارئ رهانه مع الفهم.

الشخوص ومقامات السلوك

بناء هرم الشخوص يحيل بعض الفهم للعمل الروائي «عيون سعدية» إلى استرجاع معنى «التخلي والتحلي والتجلي» في رحلة الصوفي نحو الله، المحبوب بغير انقطاع. أحلام رابح التي تتحول إلى واقع منظور، أي سعدية التي تنتقل من مجرد المتخيل والحلم إلى شخصية واقعية، ترفض بداية زوجته هذا الهذيان، ثم يتأكد لها الخبر شيئا فشيئا حيث تصبح هي الأخرى موضوعا للأحلام المزعجة ورؤية «سعدية» واقعا. بعد ذلك يدخل الأطفال في هذه اللعبة السردية، إذ تتبدى لهم في الحلم والواقع. هذا الانتقال في لقاء الشخصية المتخيلة من الأب إلى الأم، ثم إلى الأطفال، شبيه بالانتقال في مقام السلوك لدى الصوفي، فالتخلي عند مستوى الأب والتحلي عند مستوى الأم والتجلي عند مستوى الأطفال، وقد نتساءل أن التجلي إنما يكون في مستوى الأب لأنه يمثل النضج، لكن حال الصوفي والمبدع كلاهما شبيه بالطفل في إتقانه للعبة الأسئلة والعفوية في طرحها، فالمبدع لولا الأسئلة لما استطاع بناء كون من العلامات والرموز والأحداث التي تتحرك، والصوفي لولا احتراقه في مقامات السؤال لما تدرج في الانفكاك من ظاهر اللباس والانخراط في رمزية الخرقة، فالسلوك هو تخل في كل مقام عن زيف هذه الدنيا وتحل بحقائق الرحلة الربانية، والرمز في الخرقة ليس أكثر من الزهد في الدنيا الفانية والتعلق بالحقيقة الباقية.

في مرحلة انتقال الحالة التي تلبست رابح إلى زوجته، كان من الضروري سرديا حدوثها، لأن الرجل يمثل حالة النقص وحيدا ولا يكتمل إلا بالأنثى، و»كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه» كما يقول ابن عربي، وهو يمثل التوافق والانسجام في الذات لكي تصلح للترقي في المقام، فمرحلة رابح وحيدا في هواجس أحلامه تمثل رغبة الشوق لدى الصوفي. أما مرحلة التوافق في تلقي الحلم وصيرورته إلى الواقع فتمثل تحقق الشوق لدى الصوفي ومن ثمة تتحقق مقامية التجلي.

كاتب جزائري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي