كيف أمكن لعقل مفصوم أن يبني رواية كاملة

2024-01-29

حسن داوود

الشخصية الرئيسية في الرواية تعرّفنا بنفسها في السطور الأولى: «اسمي حسين، أبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما وأنا مجنون». ليس مجنونا بالظنّ أو بالإدعاء أو بالمجاز، بل هو مجنون بالمعنى الفعلي، إذ يقيم مع مجانين آخرين في «مصحّة فسيحة للأمراض العقلية». ولن نتأخر في معرفة ما هو مرضه، إذ رغم علمنا القليل بتلك الأمراض نقدّر أنه مصاب بالفصام. فها هو موجود في مكانين في الوقت نفسه: على الجبهة يصوّب بندقيته، «قنّاصتي» كما يسمّيها، وفي المصحة مع رفاقه المجانين. وهو، في ما يصفه في الصفحة الأولى من الرواية، يوسع خياله، فينتبه إلى طائر صغير شاركه موقعه على جبهة القتال، وراح يرفرف بجناحيه لحظة ضغط بإصبعه على الزاد. النزلاء الآخرون هم رفاقه في القتال، وهم متنوّعو الأمراض والأعراض وتكاد أسماؤهم (مثل الريّس بنزاكسول وحمزة الظلّ وقاسم التمّ ومحمود الإبرة) تدلّ إلى ما يتميز به كل منهم في سلوكه، وكلّهم مقاتلون في الحزب نفسه، في المعارك نفسها ضدّ العدوّ الذي هو تنظيم «داعش».

أما حسين نفسه فلم تلحق باسمه صفة. هو حسين فقط، وهذا ما يذكّر المقبل على قراءة الرواية، وهو بعد في سطرها الأول، أن هذا الاسم ليس من الأسماء التي يختارها روائيو هذا الزمن. لكنه مع ذلك يعرف، ويعرّفنا أيضا، أن للاسم (حسين) دلالة واضحة، حيث من المفترض أن يٌستدلّ منه على هوية حامله، القتالية والطائفية. وعلى أي حال لا تبقي الرواية تفاصيل ذلك مغفلة، أو ملمحا إليها فحسب، فهي حافلة بذكر أسماء شوارع الضاحية الجنوبية وأنحائها، كما بذكر شعاراتها وأناشيدها وقتال أفرادها، كما باسم الحزب (حزب الله) واسم قائده.

أكثر ما يسعى القارئ في متابعته هو، إن كان السرد ملاحقا لمشكلة حسين العقلية دون مبالغة أو ادعاء أو خلط مرضه بأمراض أخرى. وهنا أحسب أن الكاتب بذل جهدا كبيرا في ابتكار الشخصيات العديدة، وكذلك في تفريق هذه الشخصيات بين الوجود الحقيقي والوجود المتخيّل في عقل حسين المفصوم، بعض هؤلاء مريض فعلا، بل مجنون حسبما يؤثر الكاتب القولَ. وهو جنون خالص حينا، ومدّعىً حينا آخر، بل أحيانا يدّعي أحد هؤلاء، وهو الريّس بنزاكسول، الجنون ليبقى مقيما في المصحة، فيما هو مجنون فعلا. في أحيانا يخطر لقارئ الرواية أن كل شيء مما تسرده طالع من توهّمات حسين، وأن جميع هؤلاء غير حقيقيين أو غير موجودين حتى. كأنهم كائنات متخيّلة بالكامل، جرى اختراعهم من هلوسات الذات الثانية لراويهم. غالبا ما يدعو هذا الافتراض إلى ضياع القارئ المتراوح بين اعتبار هؤلاء حقيقيين أو وهميين، لكنه يستقرّ في متابعتهم على النحو الذي رسمه الراوي لهم.

لا نتوقف عن التساؤل إن كان هؤلاء موجودين في حياة حسين، إن كانوا معه في الجبهة مثلا، أو حتى في المصحّة التي حُمّلت مرة واحدة اسم «العصفورية».

حتى في الصفحات الأخيرة من الرواية يلاحقنا ذلك الشعور المحيّر بالحقيقي والوهمي فنتساءل مثلا هل صحيح ما يجري على لسان الراوي، حسين، حول شفائه من الجنون وخروجه إلى منزله قادرا على إسكات نداءات الجنون الباقية، أو الباقي أثرها، في قاع الرأس. هل الممرّضة التي اسمها مسّ ميراي موجودة فعلا؟ هل حقّا أغرمت به دون المرضى جميعا، لتعاود الاتصال به وتزوره، من ثم ليكتمل شفاؤه، ولتتحقّق أمنيته في أن يكونا حبيبين؟

على ذلك الحدّ يضع الكاتب فوزي ذبيان قرّاءه، فيما هو يروي فاصلا أساسيا من حياة هذه الشريحة من شباب لبنان التي، في ما أعلم، لم يسبق لها الحضور في كتابة روائية. في السعي إلى تعيين المصائر يبدو أن حسين وحده، من بين جميع الشخصيات الأخرى، سواء الحاضرة في حياة حسين الفعلية أو الخارجة متخيّلة من مرضه، نجت من جنونها. الآخرون، مثل الحاج عباس الذي لقي حتفه غيلة، أو حمودي الطفل الذي قفز من نافذة المبنى طائرا ليسقط على الأرض ميتا. أولئك الذين أبقوا هناك منتظرين أن تضعف أجسامهم وتذوي قدراتهم مثل أبو زهرة الذي لم يعد يتوقّف عن التحديق بعضوه المنكمش.

حسين، الذي هو حسينان في أغلب الرواية، أدى انقسامه، أو فصامه، إلى انقسام في صيغة المتكلّم. حينا تجري الرواية على لسانه وحينا، في السطر الواحد، يصير هو شخصية يُروى عنها. وهذا لا نقرأه مرة واحدة، بل بقي مستمرا على مدار الصفحات كلها، ذلك جانب من التغيرات التي ابتكرها الكاتب، فيما هو يكتب عن الجنون الغامض والسريالي متمكّنا، على مدار صفحات الكتاب، من أن يبني رواية فريدة وجديدة في فكرتها وبنائها.

«القبلة الأبدية» رواية فوزي ذبيان صدرت عن دار الجمل في 235 صفحة سنة 2023.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي