تجليات السخرية في قصص «أسماك لا تجيد السباحة»

2024-01-28

رشيد أمديون

يلجأ الإنسان إلى السخرية كسلاح مرن للحفاظ على كيانه الفردي والجماعي، وتعد قديمة قدم الإنسان، وقد تجددت عبر مراحل التاريخ، حيث ظهرت في شعر الملاحم والتراجيديات والكوميديا، كما برزت في شعر الهجاء والنوادر عند العرب. وعدَّ السيد عبد الحليم محمد حسين الجاحظَ أول مؤلف في تاريخ الأدب العربي يخص كتبا بأكملها في السخرية، تحليلا ودراسة، كما فعل في كتابه «البخلاء» ورسالته «التربيع والتدوير» لأن السخرية في ما سبق – أي قبل الجاحظ – كانت «نتفا، تأتي عفوية تارة، ومقصودة لغرض من الأغراض السياسية تارة أخرى، دون أن تقوم بالتفاصيل النابضة بالحياة تحليلا، وتصويرا، وتشخيصا، واستبطانا لدخائل النفوس، وإبرازا لخصائص المجتمع.. لم تقم بالتحليل النفسي الدقيق، الذي ينم عن عمق التجربة، أو يعتمد على دقة الملاحظة إلا نادرا».

والسخرية أسلوب فني في الكتابة الأدبية يسمح للأديب أن يعبر من خلاله عن قضايا المجتمع السياسية والاجتماعية والأخلاقية، فهي وظيفة للنقد يتكئ عليها الكاتب لطرح المفارقات، وكشف الخلل الواقع في النظم الاجتماعية، أو السياسية، أو للإشارة إلى خلل في طريقة التفكير، أو في الممارسات الفردية والمجتمعية. وقد توسل القاص عبد المجيد رفيع بالسخرية كأسلوب فني بارز في المجموعة القصصية «أسماك لا تجيد السباحة» وسنتتبع في هذه القراءة تجليات السخرية في هذا المنجز القصصي.

السخرية من واقع الإنسان العربي

تعتبر السخرية أداة ذكية للتنبيه وتحسيس الآخر باستبداده، أو هيمنته وتعاليه، بطريقة غير مباشرة، ونجد تجليات أثرها (في المجموعة قيد المقاربة) بداية من القصة الأولى «الجائزة»؛ حيث تنتهي بفكرة تهكمية تخطر للسارد بعدما أعياه انتظار الحصول على مكافأة فوزه في مسابقة مجلة عربية، يقول: «أخيرا اهتديت إلى سبيل أحسبه فكاك عقدتي، بعد أن علمت أن عاهل البلاد يعتزم القيام بزيارة إلى الإمارة حيث تقيم المجلة. حسنا، سأحمله رسالة إلى أمير البلاد هناك، يسلمها بدوره إلى وزير إعلامه ليحرك ملف جائزتي، سيصبح الأمر ذا أولوية لطبيعة المتدخلين، فأنا أعتبر جائزتي ملفا عالقا بين البلدين». وتضمر هذه الخاتمة الساخرة نقدا لواقع الإنسان العربي أمام سلطة المؤسسات وتماطلها: «فالتأخر في الوصول رتابة عربية في عصر السرعة». تمتزج لدى شخصية هذه القصة مشاعر متضاربة بين حرقة الانتظار وألمه، والحسرة على قلة الحيلة وانعدام الوضوح لانعدام التواصل، فيستبد منطق الشك، وتكثر الافتراضات لتفسير الوضع. ويصوغ السارد هذا الشعور في قالب ساخر رغم سمة الوجع البادية: «ربما جائزتي لم تقو على السفر، أو ربَّما أصاب مركبها عطل ما، أو ربّمَا ضلَّت الطريق، أو ربَّما آثرت السير على الأقدام، أو ربَّما هي ممنوعة من المغادرة، أو لا تحمل تأشيرة خروج، أو ربَّما.. أو ربَّما.. ودائما (ربّما) تشفع لسوء الظن أن ينجو من تفكيري، أموت ولا يزال في نفسي شيء من ربَّما. فإن لم يكن يمنعها من السفر خوف ولا مطر فلماذا لم تصل إذن؟».

إنه نقد ساخر ينتصر للإنسان العربي البسيط، الذي يطمح إلى واقع مغاير تكون فيه الأمور على قدر من التيسير دون تعقيد وصعوبة، وهذا حتى تجد جل القضايا العالقة طريقها إلى الحل. إن البطل يحلم ويفكر في كل الوسائل التي يتمنى أن تحقق مطالبه، حتى إن بدت تلك الوسائل واهية ومضحكة أو يعتريها الهراء، وكل هراء يصبح محركا ديناميكيا يمني النفس، فهو آخر ما تبقى للبطل يتعلق به قبل الغرق في بحر من اليأس لا يجيد السباحة فيه. ونلاحظ أن للسخرية هنا دورا مهما من الجانب النفسي؛ إذ «تساهم في رفع الروح المعنوية، أو الثقة بالنفس، بالاستعلاء على الخوف والقلق، والمواقف المحرجة، والشعور بالتفوق، والقدرة على الانتصار» مما يمنح ذلك الإنسان التوازن والانسجام النفسي بين عالمه الداخلي وعالمه الخارجي، وبين قناعته القيَمية والتغيرات الاجتماعية المستمرة.

السخرية من علاقة المواطن بالمؤسسات

نجد أن القاص في قصة «حدث في المحكمة» يتكئ في صياغة متخيلها السردي على السخرية أيضا، حيث يطرح علاقة المواطن بالمؤسسة القضائية، وقد برز هذا في اكتشاف الشخصية المحورية، أن دورة المياه في المحكمة تعالج إمساك البطن، يقول السارد: «فبعد الزيارة الثانية، فالثالثة ثم الرابعة اكتشفت أن ملاحظتي لم تكذب، واستيقن الظن عندي أني بمجرد أن تطأ قدماي أرضية المحكمة، وأجتاز جهاز كشف المعادن حتى تغرق أفكاري في خضم معمارها، وتتجاوب أطرافي مع هيبتها، ويتفاعل شهيقي مع هوائها، فترسل إشارة إلى بطني فيهتاج، ويطلب نقلا مستعجلا إلى أقرب مستراح. استخلصت بعدها أني وضعت قدمي على طريق اكتشاف أسرع علاج وأنجع دواء لمعضلة الإمساك وبأبخس الأثمان». هذه الصورة الساخرة، لوقعها صدى غريب، حيث نلاحظ ما يمتزج فيها من المأساة بالملهاة، في خلط مدهش، يشكل وجها مأساويا ينطوي على فجيعة ما، تحاول أن تبدو في شكلها الساخر لتنتقد وضعا قائما في علاقة المواطن المتوترة بالمؤسسة القضائية، التي تؤثر في ظروفه النفسية والاجتماعية، إذ يفترض أن يكون فضاؤها مكانا لتحقيق العدالة والألفة والتيسير على الناس وتسهيل مجريات قضاياهم دون تعقيد ولا تحيز ولا تحقير لكرامة الإنسان.

كما تنتقد هذه القصة الساخرة تحكم جهات معنية في مصير الإنسان، كونه يمثل لها عنصر استغلال، لهذا فقد وُجهت التهم إلى السارد حين أعلن عن اكتشافه على الملأ، ومَثُل أمام الشرطة بسبب دعاوى مدنية سجلت ضده، يتابعه فيها نقابة الأطباء والصيادلة المحترفين، ومسؤولي صيانة مجاري الصرف الصحي التابعة للمدينة. يقول السارد بعد ذلك: «ومن يومها بت أقتني دوائي من الصيدلية كلما استمسك بطني». وهذا على اعتبار أن المحنة كانت زاجرة، أصبح معها السارد «مواطنا صالحا لا عيب فيه سوى حب شرب الشاي في المقهى المقابل لمبنى المحكمة». ونلاحظ هنا إشارة إلى أن السارد يعيش «حالة عجز إزاء قوى الطبيعة وغوائلها، وإزاء قوة السلطة على مختلف أشكالها. مصيره معرض لأحداث وتغيرات يطغى عليها طابع الاعتباط أحيانا والمجانية أحيانا أخرى» فهو كالإنسان المقهور، لأنه: «عاجز عن المجابهة. تبدو له الأمور وكأن هناك باستمرار انعداما في التكافؤ بين قوته وقوة الظواهر التي يتعامل معها. وبالتالي فهو معظم الأحيان يجد نفسه في وضعية المغلوب على أمره». كما أن هذا التهكم لا يأتي بدافع سلبي، بل هو من أجل طلب الإصلاح، والوعي بالخلل الذي أصاب العلاقة القائمة بين المواطن ومؤسسات الدولة، حتى صار الوضع شبيها بعلاقة العداء. والسخرية هنا تأخذ منحى «التحرر من محاصرة القوة الطاغية والسلطة الأكبر، أو من سيطرة القوانين الجائرة والتفكير الجامد» فيشعر السارد (باستعماله السخرية) أنه ليس ضعيفا، بل يملك قوة المجابهة والتحدي.

إنتاج المفارقة

القاص عبد المجيد رفيع حين يسخر من واقع أو من مؤسسة أو من وضع قائم، فإنه يعرض جوانب النقص ويكشف عن الأعطاب والخلل بصورة صريحة تارة ومضمرة تارة أخرى، موظفا أساليب السخرية التي تمثلت في التهكم والهزل والإضحاك بـ«ألفاظ موحية بدهاء، والعبارات والجمل التي ترمز لها باستخدام التورية والتعريض، أو المواربة والتغافل» قصد نقد وتعرية وفضح الواقع والأشخاص، وتصوير واقع ينعدم فيه الضمير وقيم الإنسانية، مثل ما جاء على لسان اللص في قصة «من سرق محفظة العجوز» يقول: «حتى ابتلينا بنوع من اللصوص هجين، تزامن ظهورهم مع انتشار الديمقراطية وصناديق الاقتراع، وهم أحقر نوع وأجبن فصيلة، يدّعون الشطارة، يفتخرون بشهاداتهم مع أننا نراهم بلا مبادئ. يسرقون مثلنا لكنهم يأنفون من الانتساب إلينا ولا يعترفون أن السرقة هي مهنتهم..».

إن القصة القصيرة أو الأدب عموما، يعتمد على خلق المفارقة بإظهار الموقف عكس حقيقته، بخلط الجد بالهزل. و«الصفة الأساسية في أي مفارقة تضاد بين المخبر والمظهر، ويبدو أن صاحب المفارقة يقول شيئا لكنه في الحقيقة يقول شيئا مختلفا تماما» ولهذا فإن هذه المفارقة الساخرة (في هذا النص القصصي) هي «وسيلة لقول أقل ما يمكن، وتحميل ذلك القول أكبر ما يمكن من المعنى، كل ذلك من أجل كسر أفق تلقي القارئ، الذي يفترض أن يكون فطنا وهو يواجه شيفرات رسائل المفارقة» التي أنتجها النص؛ لأن الخطاب هنا ليس الغرض منه تزكية فعل اللصوص، بل إنه يحمل في طياته أسلوبا ينتقد كل سلوك يتستر صاحبه بستار القانون والوظيفة والمسؤولية ويدعي النزاهة والأمانة في حين يمارس السرقة في الخفاء، ولا يعترف بكونه لصا.

إن أغلب قصص هذه المجموعة تتجلى فيها السخرية على مستوى ألفاظها وأسلوبها السردي أو اعتمادها لحدث ساخر متخيل يقوم عليه بناء القصة، أو يدور في دائرة إنتاج المفارقة. ومن هذه القصص نذكر: (الجائزة، ساحرة الحي الشعبي، حدث في المحكمة، شلة نبيل، من سرق محفظة العجوز، أنسولين، في ضيافة المحقق، أحبك حتى الموت، اللص الإلكتروني). وقد جمع القاص بين السخرية الاجتماعية والسياسية والدينية وما يخص السخرية من بعض الأشخاص باعتماد الهمز واللمز والغمز، أو الوصف لنفسية وشخصية بعض الشخوص. بهذا تكون السخرية أسلوبا يتضمنه الخطاب السردي في «أسماك لا تجيد السباحة» يعبر من خلاله القاص عن مواقفه ورؤيته للإنسان والمجتمع وقضاياه، بشكل يجعل القارئ يتقبل هذا النقد ويسهل معه الوصول إلى الفكرة. كما أن الخطاب السردي لهذه المجموعة هو محاولة إعادة الحياة المستحقة، الجديرة بأن تعاش إلى سياقها الصحيح؛ الحياة التي يبذل من أجلها الإنسان قصارى جهده، كأداة إضافية، كي يمتلكها، وأن يمتلك الحياة يعني أن يراها ذات معنى، لأن حياة بلا معنى لا قيمة لها.

خاتمة

وبناء عليه يرتكز خطاب قصص «أسماك لا تجيد السباحة» ومتخيلها السردي على السخرية ليحقق جمالية فنية إبداعية، كما يعد تعبيرا عن رؤية وموقف وتعرية لنظم المجتمع المهترئة التي تتحكم في صيرورة الإنسان وتفرض عليه وضعا اجتماعيا أو سياسيا أو ثقافيا، يعجز أمامه عن المبادرة، بل يؤدي به إلى التخلي عن قيمه وقناعاته ويحط من كرامته.

وبناء عليه فإن المنجز القصصي «أسماك لا تجيد السباحة» يعد تجربة إبداعية ومغامرة كتابية تحقق من خلالها القصة المغربية بحثَها الدائم والمتواصل عن الجديد، وعما يُحقق نوعيتها باعتبارها خطابا أدبيا واعيا، دائم الانفتاح والتحول، يساير تحولات العالم المعاصر، ويرصد الواقع، وتتجلى فيه الرؤى الذاتية والوجودية للإنسان النابعة من قلقه ووعيه بالمآزق الأخلاقية والمظالم المتجذرة في النظم المهيكلة للمجتمع، ويعكس التناقض والاضطراب الاجتماعي والأخلاقي ويستنطق الذات المهزومة والمثقلة بالهموم والمغلوبة على أمرها.

عبد المجيد رفيع: «أسماك لا تجيد السباحة» قصص، إصدار الراصد الوطني للنشر والقراءة، طنجة، ط.1، مارس/آذار 2021.

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي