جامع العنابة: غرفة جمال القاسمي والإصلاح الإسلامي بدمشق

2024-01-27

محمد تركي الربيعو

استيقظت مدينة دمشق في الأيام الماضية على خبر احتراق أحد جوامع المدينة القديمة (جامع العنابة/ العنابي) وعلى الرغم من أن أخبار الحريق والقصف والجوع باتت جزءاً من يوميات المدينة منذ سنوات، مع ذلك يتضاعف شعورنا بالفقدان والألم في كل حدث، حيال الدمار الذي أخذ يطال المدينة وعمرانها القديم.

ولا يُعدُّ جامع العنابة من الجوامع الأقدم في المدينة، إذ بني في بدايات القرن التاسع عشر تقريباً، بالإضافة إلى أنه لم يرتبط في العقود الأخيرة مثلا بالتطورات الدينية والسياسية التي عاشتها البلاد بعيد خمسينيات القرن العشرين، مقارنة بجوامع ومجمعات أخرى مثل جامع زيد أو منجك أو مجمع كفتارو. رغم ذلك، يبدو أن الجامع كان شاهدا على محطة بارزة من محطات سيرة الإصلاح الديني الدمشقي.

في نهاية القرن التاسع عشر، عاشت غرف الجامع أول حلقة من حلقات النقاش والإصلاح الديني التي أدارها المصلح الدمشقي جمال الدين القاسمي، ما أثار لاحقا ردود فعل من قبل السلطات العامة والعلماء الرسميين. ومع احتراق الجامع، نكون قد خسرنا واحدا من الشهود على تلك اللحظة، والتي كان لها تداعيات كبيرة على مسار الإصلاح الديني في سوريا ليومنا هذا.

تاريخ جامع العِنابّة

في أعقاب الحريق، ذهب بعض المهتمين بالتأريخ لمدينة دمشق إلى ذكر بعض التواريخ المتعلقة بالجامع، ونشر بعض الصور، وبالأخص الصورة التي يظهر عليها اسم الجامع وتاريخ إنشائه 1233هـ (1817ـ 1818م).

ومن الصدف أننا نملك اليوم قراءة أقدم لتاريخ هذا الجامع، مع تحقيق ونشر موسوعة (خمسة مجلدات) لجمال الدين القاسمي مؤخرا (تعطير المشآم في مآثر دمشق الشام) وهي مخطوطة بقيت حبيسة الرفوف لقرابة مئة سنة وأكثر.

يخصص القاسمي الجزء الثالث من الموسوعة للحديث عن الزوايا الدينية التعليمية في مدينة دمشق، كما أنه يتطرق لتواريخ الجوامع التي وجدت في زمنه، واللافت أن تأريخه للجوامع لم يكن عادلاً، أو لنقل متوازناً، بل نراه يخصص صفحات أطول للجوامع التي عمل فيها مقارنة بالجوامع الأخرى، وباستثناء الجامع الأموي، الذي يخصص له قرابة (47 صفحة) بحكم رمزيته في المدينة، نراه مثلا لا يقف عند جوامع أخرى مثل، تنكز أو زيد أو المرادية إلا مرورا سريعاً (صفحة أو أكثر قليلا لكل منها، وأحيانا عدة أسطر) وفي الغالب لا يأتي على ذكر تواريخ لهذه الجوامع مرتبطة بأيامه. في المقابل نراه يقف عند جامع السنانية (9 صفحات) ليروي تفاصيل كثيرة عن التطورات العمرانية التي عرفها في زمنه. ويعود هذا إلى علاقة عائلة القاسمي بالجامع لسنوات طويلة، بداية بإشراف والده (القاسمي) على التدريس والإمامة في الجامع حتى عام وفاته 1900، ولاحقا مع القاسمي الابن نفسه بعد وفاة والده. وعلى صعيد جامع العنابة، وعلى الرغم من أن القاسمي لا يخصص صفحات طويلة عنه (صفحتين تقريبا) مع ذلك فقد ضمت هاتان الصفحتان تواريخ جديدة تمت بصلة للزمن الذي عاش فيه، ولعل ما يجعلها مهمة أيضاً هو أن القاسمي بدأ حياته الدينية وخطبه في هذا الجامع، ولم يكن يبلغ آنذاك العشرين من العمر.

يذكر القاسمي أن العنابة يعد من أعمر جوامع محلة باب السريجة في دمشق، وكان أولا مسجدا صغيرا بلا حرم، ثم وسعته جماعة من جيرانه سنة 1224هجرية 1809-1810م، ثم اجتمع أهل الخير من جيرته سنة 1233 هجرية 1817ـ 1818م وأحبوا شراء قطعة من الحديقة ليجعلوها حرما لهذا المسجد. وفي سنة 1299 (1881ـ1882) استطاع الشيخ محمد بن الشيخ سعيد الحكيم الحصول على براءة سلطانية في الخطبة فيه، وصنع له منبرا، وأقام خطبته.

وفي سنة 1303 هجرية 1885ـ 1886م، طُلِب من جمال القاسمي مباشرة الإمامة مع التدريس فيه، وبقي، كما يذكر، إماما للجامع حتى سنة 1317 هجرية 1899ـ 1900 التي توفي فيها والده الشيخ محمد القاسمي، فنقل للإمامة في جامع السنانية بديلاً عنه. وهناك تفاصيل أخرى يذكرها القاسمي عن إعادة ترميم الجامع في عام 1325هـ (1907ـ1908م).

العنابة… حلقة القاسمي للإصلاح

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ظهرت حركات الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، وكان لا بد أن تتأثر دمشق كحال باق المدن الإسلامية بهذا التطور.

يعتقد المؤرخ الأمريكي ديفيد كمنز في كتابه (الإصلاح الإسلامي: السياسة والتغيير الاجتماعي في سوريا آواخر العهد العثماني) أن هناك ثلاث مراحل شكّلت الأرضية التي انطلق منها الإصلاحيون الدمشقيون للنقاش حول مستقبل الإسلام والعقل في المدينة.

الأولى، تمثلت بقدوم الوهابيين، الذين رفضوا ادعاءات السلاطين العثمانيين بالخلافة، لكن علماء دمشق والعامة عموما، لم يوافقوا على هذه الآراء، خاصة أن الوهابيين اتخذوا موقفا غير مساوم من أضرحة الأولياء، إضافة إلى أنّ سيطرة السعوديين الوهابيين على مكة عام 1803، أدى إلى تأثر تجار الدمشقيين بسبب توقف قوافل الحج لفترة من الزمن. وقد عبّر العالم الدمشقي الحنبلي حسن الشطي (1790ـ 1858) عن هذا الموقف، في مقالات أرسلها لعلماء الوهابية، وذكر فيها أن ممارستهم للتكفير ليست مبررة، وأن تفسيرهم للقرآن يكشف عن جهل.

وتمثّل التطور الثاني بقدوم الأمير عبد القادر الجزائري (1808ـ1883) الذي يمكن اعتباره صاحب التأثير الأكبر على الأفكار الإصلاحية الإسلامية في سوريا. فقبل وصوله واستقراره في الربوة في دمشق عام 1855، كتب الجزائري في مقالة بعنوان: «ذكرى العاقل وتنبيه الغافل» أن على الناس أن يتأكدوا من الحقيقة بممارسة العقل، وليس بقول رأي السلطة. وعاد وأكد لاحقا ضرورة تمسك المتصوفة بالقرآن مهما كانت معرفتهم الخفية عميقة، وأن الصوفي الحق هو الذي يتمسك بدقة أكبر بالقرآن.

وفي السنة الأخيرة من حياة الجزائري 1883، وصلت مجموعة من المصريين إلى بيروت بعد نفي البريطانيين لهم لدورهم في تمرد عرابي، وعرف من بين هؤلاء محمد عبده. تواصل الجزائري معهم عبر تلامذته، من بينهم الشيخ عبد الرزاق البيطار (توفي 1917) وبات الدمشقيون من خلال هذا التواصل يطلعون على ما يكتبه الأفغاني وعبده في «العروة الوثقى». مع ذلك، يعتقد كمنز أن تأثير الجزائري في الدمشقيين بقي أكثر عمقا من عبده والأفغاني، خاصة أن أفكاره عن العقل والمعرفة والعلاقات الطائفية تشابكت مع هموم العلماء الدمشقيين، الذين كانوا يعيشون في فترة اضطرابات اقتصادية وإدارية أملتها السلطات العثمانية. وهنا لا ننسى أيضا دور الآلوسيين في إعادة تحقيق ونشر النصوص السلفية، وتعريف الدمشقيين بها، خاصة كتب ابن تيمية، وهذا ما تتبعه بدقة الباحث السوري في جامعة مكجيل الكندية ناصر ضميرية، الذي بيّن دور العراق في إحياء السلفية بحكم موقعه القريب من نجد، ولكونه أقرب الأقطار العربية اتصالا بالهند. كما وضح طبيعة العلاقات التي تشكلت بين محمود شاكر الآلوسي، وجمال الدين القاسمي في هذا الصدد.

علماء دمشقيون جدد

مع ذلك ربما نميل هنا إلى فكرة ديفيد كمنز، الذي قرأ أيضا التحولات الإصلاحية السلفية في المدينة، من خلال ربطها بطبقة جديدة من العلماء، ضمت فئتين: الأولى أولاد أسر علمية جديدة تشكلت في بداية القرن التاسع عشر (عائلة البيطار، وعائلة الخاني النقشبندية) وهي عائلات اقترب أبناؤها من الأمير عبد القادر الجزائري في منتصف القرن التاسع عشر. أما المجموعة الأخرى فتألفت من علماء متوسطي المكانة الاجتماعية، إن صح التعبير، وهذا ما نراه في حالة عائلة القاسمي. إذ كان جد القاسمي (قاسم الحلاق) يعمل حلاقا في شبابه، وقد ترك مهنته والتحق بحلقات الشيخ المصري صالح الدسوقي، ثم أصبح لاحقا إماما لمدة عشرين سنة، وتزوج من ابنة شيخه مما حسّن من مكانته الاجتماعية. وجاء بعده ابنه محمد القاسمي (توفي 1900) الذي بدا ناقما في مرات عديدة على النخبة الدمشقية الغنية، كما انتقد العلماء الذين احتلوا مناصب رسمية في دمشق. وخلال هذه الفترة برز أيضا ابنه جمال الدين القاسمي، وعين إماما لجامع العنابة في عام 1886، وتأثر بأحمد الجزائري (أخ الأمير عبد القادر). وحدث التطور الأهم لاحقاً من خلال دعوة الجزائري للقاسمي في عام 1895 لإقامة حلقة للنقاش بين العلماء. وهنا تأتي رمزية الجامع، كونه شهد أول اجتماع لهذه المجموعة التي جلست في غرفة القاسمي في الجامع صباح يوم الأربعاء 19 كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته، وحضره كل من عبد الرزاق البيطار وأحمد الجزائري ومصطفى الحلاق، ابن عم القاسمي وبعض طلاب القاسمي. ومع استمرار هذه الاجتماعات في أماكن مختلفة، أخذت شائعات تتداول في المدينة عن رغبة القاسمي بتأسيس «المذهب الجمالي» وحول وجود جدول عمل سري، وتعاونه مع الشيخ بدر الدين الحسني، الذي أعلن في درس علني في الجامع الأموي أنّ السلاطين العثمانيين، حولوا الخلافة إلى حكم غير عادل وقمعي.

عمامة القاسمي وطربوش البنا: مفارقات غريبة

أخذ بعض العلماء الرسميين، وفي مقدمتهم المفتي محمد المنيني، يتواصلون مع الوالي، الذي قرر إخضاع المجموعة للمساءلة والمحاكمة، التي ستعرف في دمشق بحادثة المجتهدين، مثل القاسمي في 1896 مع علماء خمسة آخرين أمام لجنة تحقيق، وبعد مناقشات وأجوبة، قرروا الاكتفاء بالتوبيخ.

اللافت أن هذه الحادثة كان لها تأثير كبير في نصوص القاسمي، إذ اضطر بعدها إلى أن يكثر في مؤلفاته من الاستشهاد بالقرآن والنصوص الكلاسيكية، ما جعل الحركة الإصلاحية الإسلامية غير قادرة أحيانا على التعبير عن أفكارها بشكل أكثر وضوحا وجرأة، وبذلك يمكن القول إنّ العلماء الرسميين تمكنوا من إحباط هذا الحراك الذي قاده عدد من الإصلاحيين الدمشقيين، كما أنّ وجود السلطان عبد الحميد وتبنيه للطرق الصوفية عمّق من هذا الواقع. واللافت هنا أيضا أنّ هذه المحاولة الإصلاحية، ستتعرض بعد سنوات أيضا لنكسة أخرى، من خلال ما جرى مع المفكر الاصلاحي رشيد رضا، فبعد خروج العثمانيين من دمشق ودخول الملك فيصل، لعب رشيد رضا دورا فاعلا، في كتابة الدستور. وتلاحظ المؤرخة الأمريكية اليزابيت تومبسون أن رضا بدا متحمسا لأفكار الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون حين طالب الأخير بحق الشعوب في تقرير المصير. وهكذا نجد أحد أشهر علماء المسلمين يمدح الرئيس البروتستاني، باعتباره تعبيرا عن رغبة الله، كما نجد هذا الشيخ وهو يطالب فيصل أثناء مناقشات كتابة الدستور بضرورة أن يتشاور الحاكم مع الشعب، وبدا مؤيدا لفكرة أخذ خطوات جدية حول حقوق الأقليات، أو موقع الشريعة في الدستور، في محاولة لتبني خطوات أكثر جدية وإصلاحية، لكن هذا النفس الإصلاحي أيضا، لن يصمد مع دخول الفرنسيين لدمشق، وأيضا في ظل معارضة بعض رجال العلماء التقليديين له من أمثال عبد القادر الخطيب.

وعاد رضا في عام 1934 وتحدث في كتابه «الوحي المحمدي» دفاعا عن النبي ضد انتقادات العلماء المستشرقين، ووجد أن الوحي لم يعرض أو يتعارض مع معتقدات اليهود أو المسيحيين، وكأنه بذلك كان يحاول طرح الإسلام كعقيدة عالمية بديلا للولسونية كأداة للسلام العالمي. توفي رضا بعدها بعام، لتنتهي معه قصة اللحظة الولسونية التي تشكلت في العقد الثاني من القرن العشرين. وقدم بعدها طالبه حسن البنا، الذي كان يعيش في لحظة بدت فيها النخب تبدي امتعاضا من النفوذ الغربي، وهذا ما سنراه في الأربعينيات والخمسينيات مع عودة أم كلثوم لغناء قصائد قديمة. وقد انعكست هذه الأجواء على أفكاره، ففي حين أنّ رضا المعمم صور الإسلام كاكتمال للدين المشترك مع المسيحية واليهودية، ركز البنا صاحب الطربوش على الإسلام كنظام سياسي واجتماعي مختلف عن الغرب. وفي موازاة هذا التطور كان عدد من العلماء الألبان يصلون إلى دمشق خلال الثلاثينيات والأربعينيات. وعاشوا كما لاحظ المؤرخ محمد م. الأرناؤوط، شيئا من الصدمة جراء التغيرات الحضرية والثقافية التي أخذت تعيشها المدينة، في الوقت الذي ظنوا فيه أنهم هاجروا للمدينة كونها مدينة إسلامية تقليدية كما تخيلوها. وهذا ما دفع بأحدهم (الشيخ سليمان غاوجي) إلى إصدار فتوى بتكفير من يلبس القبعة من المسلمين.

وبعد عقدين تقريبا سيأتي جيل آخر من الألبان الدمشقيين ليقود واحدة من أوسع حركات نشر الفكر السلفي مع ناصر الدين الألباني، ولنكون أمام مشهد آخر في المنطقة، بعيداً عن عالم الإصلاح الديني الدمشقي الذي كان جامع العنابة شاهدا ومشاركا فيه نهاية القرن التاسع عشر.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي