فلسطين إيزابيلا حمّاد: قبل الاستعمار وبعده

2024-01-26

 صبحي حديدي

في صحيفة الـ«غارديان» البريطانية اختارت جنيفا أبدول 5 أعمال سردية اعتبرتها بين الأفضل تحت تصنيف «الروايات ما بعد الاستعمارية»؛ مشيرة، أوّلاً إلى موقف الروائي النيجيري الكبير شينوا أشيبي، بأنّ الأدب «ليس ترفاً عندنا. إنه مسألة حياة أو موت لأننا نعمل على صياغة إنسان جديد». وإذا كان إدوارد سعيد في «الاستشراق»، وفرانز فانون في «معذّبو الأرض»، يصنعان القراءات التوضيحية غير القصصية، فإنّ لائحة الروايات الخمس تصنع بعض أفضل استكشاف تجارب التاريخ والهوية والمنفى، حسب أبدول.

الأعمال، طبقاً لترتيب أبدول أيضاً، هي «في قلعة جلدي»، رواية جورج لامنغ من باربادوس؛ و»موسم الهجرة إلى الشمال» للسوداني الطيب صالح؛ و»الباريسي» للفلسطينية إيزابيلا حماد، و»بدرو بارامو»، للمكسيكي خوان رولفو، و»ميراث الخسارة» للهندية كيران ديزاي. ومن حسن حظّ القارئ العربي أنّ أربعة من هذه الأعمال تُرجمت إلى الفصحى، ورواية صالح مكتوبة أصلاً باللغة العربية، وهذه حصيلة لافتة لا تُسجّل كشهادة حسن سلوك على مبادرات المترجمات والمترجمين العرب فحسب، بل هي -على قدم المساواة- علامة على أنّ آداب الشعوب تردّ البريد إلى المركز والإمبراطورية، كما عبّر سلمان رشدي ذات يوم.

محطّ بهجة خاصة، إلى هذا، أنّ وجود الروائية الفلسطينية الشابة حماد ضمن هذه القائمة يضفي عليها بُعداً إبداعياً وإنسانياً وسياسياً، خاصة في هذه الأيام حين تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني عموماً، وتستهدف المدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة خصوصاً. وفي سنة 2019، حين صدرت «الباريسي» باللغة الإنكليزية بحجم ضخم بلغ 576 صفحة، كانت حماد في السابعة والعشرين من عمرها، وأنجزت ما يصحّ توصيفه بـ»الاختراق» الصريح لحصون الصحافة الأدبية الأنغلو – سكسونية التي لا يُعرف عندها ودّ واضح تجاه الأدب الفلسطيني المعاصر.

ذلك لأنّ المراجعات، الكثيرة والغزيرة، في الولايات المتحدة وبريطانيا على وجه الخصوص، سارعت إلى مقارنة «الباريسي» برواية كلاسيكية إنكليزية عريقة وشهيرة هي «مدلمارش»، عمل جورج إليوت الذي نُشر في ثمانية أجزاء على امتداد عامين، سنة 1871. مسوغات المقارنة لم تقتصر على تعدّد الشخصيات في رواية حمّاد (أكثر من 50 شخصية، تتوزع على أربع عوائل بين فلسطين وفرنسا)؛ ولا على الشبكات المعقدة للأحداث الرئيسية والأخرى الفرعية، وما يجمع بينها أو تصنعه من تواريخ تتباعد تارة وتتقارب تارة أخرى. في المقابل، كانت خيوط التشابه ترتكز أكثر على الاحتشاد الاجتماعي الزاخر الذي يصنع نسيج الروايتين، وأنماط الشخصيات التعددية التي تساهم في تشكيل صورة فلسطين خلال تلك الحقبة، بالتناظر مع صورة بريطانيا خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر.

العدد الكبير من الشخصيات يفرز بالطبع تعدداً غير ضئيل من الهويات التي تتبادل التفاعل سواء مع محيطها الأمّ في فلسطين، أو على امتداد جغرافيات أخرى مثل تركيا وفرنسا ومصر، لتقطع مسارات ترحال مطوّلة ومعقدة تنتهي مجدداً في فلسطين؛ الواقعة هذه المرّة تحت الانتداب البريطاني، وعلى أرضها بذور ثورة 1936. عند عودته، بات مدحت تحت وطأة ازدواج الهوية، خاصة بعد تجربة عشق متعثرة مع جانيت ابنة مضيفه الفرنسي، وأطوار احتكاك مع شخصيات فرنسية وعربية خلال إقامة في باريس انتسب خلالها إلى جامعة السوربون ودرس التاريخ. غير أنّ التغيّرات التي طرأت على الفتى الفلسطيني لم تقتصر على انقسام الهوية والفكر والجغرافيا والمزاج والعلاقات مع عوالم المكان وانقلابات الزمان، بل إنّ مظهره تبدّل أيضاً، وكذلك ثيابه وسلوكه عموماً، فاختار له أهل نابلس تسمية «الباريسي».

وفي استراتيجيات تحليل الآداب ما بعد الاستعمارية، كما طوّرها وأرسى تقاليدها أمثال سعيد وهومي بابا وغاياتري سبيفاك وقمقم سنغاري وعبد الرحمن جان محمد وسواهم؛ ثمة ذلك المحور المركزي الذي يتناول فكرة «التقنّع البيئي» بين المستعمَر والمستعمِر، مع فارق حاسم هنا يتصل ببواكير التكامل بين استعمار بريطاني انتدابي واستعمار صهيوني استيطاني، ومعهما التفاف الإمبراطوريات الغربية من حول الكيان الإسرائيلي الوليد.

ثمة، استطراداً، ما قبل استعمار فلسطين وما بعده، حتى إذا كانت «الباريسي» تتفادى، عامدة، تفصيل تجربة النكبة في أبعادها الأعمق، الإنسانية والسياسية والاجتماعية؛ وتختار في المقابل الإغراق العميق المتعمد بدوره، في التقاط روح فلسطين بالمعنى البانورامي الأشمل. ذلك لأنّ الأعداد الهائلة من الشخصيات والهويات والجغرافيات والحساسيات اقتضت شكلاً نوعياً من الكتابة الروائية الفسيحة، والشخصيات الـ 50 اقتضت أن تكون ميادين التقاء وتقاطع أفراد عوائل كمال وحماد ومراد، وعائلة مولينو الفرنسية، والشخصيات الأخرى في مختلف مواقع الرواية؛ بمثابة مساحات متبادلة للنفي والمنفى، لدى الذات والآخر في آن معاً.

وتبقى إشارة إلى أنّ حمّاد ولدت في بريطانيا لأب فلسطيني وأمّ إيرلندية، وليس من المبالغة الافتراض بأنّ تلهفها على كتابة رواية بهذه الخصائص، وما تطلبه التحضير لها من زيارة إلى فلسطين وتدوين الحكايات الشفهية من أفواه الجدّات والأقارب، وإجراء أبحاث معمقة في التاريخ الفلسطيني خلال تلك الحقبة… هو مسار في استكشاف الجذور وتلهّف على البحث عن الهوية، وهو بالتالي طراز من التصدي للمنفى أو حتى مقاومة ضغوطاته وعواقبه.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي