غداً… أو بعد غدٍ ستموت

2024-01-23

إبراهيم نصر الله

مؤثر كان استقبال الوفد القانوني لجنوب إفريقيا العائد إلى وطنه من لاهاي، ومؤثر تجمع الفلسطينيين حول تمثال مانديلا في رام الله، يوم بدء محاكمة الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، وهم يهتفون لمانديلا ووطنه ويرفعون علم بلاده وعلم فلسطين.

كل من تحلّقوا حول التمثال كانوا يوجهون التحية لمانديلا، ووطن مانديلا الذي لم يبدّل تبديلاً، قبل وبعد أن قال هذا القائد الرمز كلمته الحاضرة أبداً: «إن حرية جنوب إفريقيا لن تكتمل بدون حرية الفلسطينيين». وكل هؤلاء، وكل من يمر بجانب هذا التمثال سائراً على قدميه أو بعربته أو ماراً بخياله، لا بد أن يحس بغصة عميقة وهو يستعيد ما آلت إليه أحوال القيادة الفلسطينية، التي أظهر استطلاع أخير أن 88% من الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة لا يريدونها، ولو وصلت أسئلة الاستطلاع إلى المنافي الفلسطينية لفاقت النسبة 95% على الأقل.

رائع أن تمثال مانديلا ينتصب اليوم في ذلك المكان، ليذكر الفلسطيني يوميّاً، بأنه ليس وحيداً تماماً، ويذكّره بما آلت إليه حاله سياسياً، ويذكّر الحرية بغربتها وعزلتها في بلد تحت الاحتلال لا يتطلع لقيمة كبرى كما يتطلع للحرية ويسير إليها بشهدائه وجرحاه ودموع الأمهات وغضبهنّ.

تمثال مانديلا هذا الذي ألقت السلطات الصهيونية القبض عليه، حينما أُرسل إلى فلسطين هدية من مدينة جوهانسبرغ بمناسبة تآخيها مع مدينة رام الله، ظلّ في الاعتقال ثلاثين يوماً، قبل أن يتم الإفراج عنه، وهكذا يمكننا القول إن مانديلا أمضى ثلاثين يوماً في السجون الصهيونية إضافة إلى الأعوام السبعة والعشرين التي أمضاها في سجون طغمة الفصل العنصري في وطنه قبل أن يتحرر.

أن يقبع التمثال في سجون الفصل العنصري الجديد، فهذا أمر يتجاوز المعنى الرمزي لطغيان كهذا، فلا رمزية، بل حقيقة هنا، حين يتعلق الأمر بالحرية، ومعناها، وقوتها المضادة لكل ما هو متسلط ومتجبّر وينصب نفسه فوق كل البشر، وفوق كل القوانين والأخلاق، وهو يزج بآلاف الفلسطينيين في سجونه، ويقتل هذا العدد الهائل من أطفالهم ونسائهم ورجالهم ويدمر بيوتهم ويقتلع أشجارهم ويسرق ماءهم وطعامهم، ويطالب بمحوهم، حتى لو كانت الوسيلة هي القنبلة النووية.

من يمر بجانب هذا التمثال المقام هناك منذ ثمانية أعوام تقريباً، سيراجع بوعيه أو لا وعيه ما آلت إليه فلسطين بسبب قياداتها، التي لا مكان لها في سؤال الحرية والتحرر الذي يشقّ الفلسطيني طريقه عبره وسط الموت والعذاب ليبلغ منتهاه.

من المفارقات الكبرى أن زعامات أوسلو التي تقف على رقاب الشعب الفلسطيني ضاغطة بكل ما لديها ولدى الصهيونية وذيول النباح العربي المسعورة، تتضاءل يوماً بعد يوم، في حين أن نضال الشعب الفلسطيني وصل الذروة في الأشهر الثلاثة الماضية، وهي مفارقة كبيرة مُنِي الشعب الفلسطيني بمتتالياتها منذ ذلك اليوم الذي عادت فيه السلطة إلى رام الله بعد أن تم منحها حصتها المحدّدة من الهواء ومن الكلام ومن السلاح الأخرس، ومن الأقفاص التي حُدِّدت مساحاتها بصرامة وبحذاء الصهاينة، وعنصريتهم بعد أن تأكدوا تماماً من خلو ذاكرة السلطة من نشيد:

أنا يا أخيْ/ آمنت بالشعب المضيع والمكبل

فحملت رشاشيْ/ لتحمل بعدنا الأجيال منجل

ومن نشيد:

طل سلاحي من جراحي.. طل سلاحي

ولا يمكن قوة في الدنيا تِنزع من إيدي سلاحي

لم يطل الوقت قبل أن يدرك الشعب الفلسطيني مأزقه الأكبر، وهو يرى نفسه واقعاً تحت احتلالين، ولذلك استعاد كل نضالاته وواصل انتفاضاته، وفي كل مرة قُمِعت له انتفاضة تفوّق على نفسه وأبدع ما هو أكبر منها؛ لذا كان لا بدّ من 7 أكتوبر.. ولم يطُل الزمن.

ونعود لغزة في أيامها ما بعد المائة، لنقول إن من يرى أن الإبادة الجماعية تحدث اليوم فهو مخطئ، لأن الإبادة الجماعية مستمرة. هل كان لا بد من أن يقوم هذا الكيان بقتل عشرين ألفاً لنقول إن هناك إبادة جماعية ونبحث عن دلائل تؤكدها؟ ماذا لو كانت الإبادة تحدث بالتجزئة كل يوم، كما تحدث منذ أكثر من مائة يوم في الضفة، وكما حدثت في الانتفاضات كلها، وحدثت في المجازر قبل النكبة وبعدها؟ هل كان الكيان الصهيوني لا يتقصد القتل وهو يقتل حينها؟ إبادة الفلسطينيين لم تتوقف يوماً، وما تفوه به وزير الحرب وهو يشير إلى شعب ليس أكثر من حشرات، تفوه بمثله حرفياً عشرات من قادة هذا الكيان منذ تأسيسه من مثل: «إن العرب صراصير في زجاجة ليس إلّا»، «إن استخدام الأعيرة النارية الحيّة، لم يعد يُجدي كثيراً، بل أستطيع القول إن ذلك أفقد جنودنا وسيلة الرّعب»، وصولاً إلى «الآن علينا أن نُدرك أن من يقول إن البيض يضطهدون السود في جنوب أفريقيا هو كاذب. نحن أيضاً أقلية بيضاء هنا»، وقد قيل ذلك منذ ثمانينيات القرن الماضي.

جنوب إفريقيا التي كان الصهاينة من أشد أعدائها في ذلك الزمان، هي جنوب إفريقيا التي نحبها اليوم، وأحببناها أمس، وكانت جزءاً من ضميرنا حين كنا نحلم بحرية لم تتحقق، ونحن نؤاخي حلمنا وحلمها ونحلم معها أن تتحرر.

وبعــد:

على المستوى الشخصي، لم تفارق ذاكرتي تلك القصيدة كنت كتبتها في الثانية والعشرين من عمري؛ قصيدة مؤرخة في الخامس والعشرين من شهر أيلول، سبتمبر عام 1977، أهديتها في ذلك العمر إلى «ستيفن بيكو» المناضل الجنوب إفريقي الذي قُتِل في سجون النظام العنصري هناك، وسبب فرحي بها أنني أستعيد كم كان النضال في جنوب إفريقيا يعنينا، ويعني شاباً صغيراً تسحقه صحراء الغربة، ولكنها لا تستطيع أن تنسيه عذابات الآخرين، ويفرحه يقينه وهو يكتب قصيدة واثقة بالنصر الإفريقي، النصر الذي تحقّق في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، وبات نصيراً حقيقيّاً لفلسطين وشعبها:

في زمن القهر المتمدِّنِ

تكبرُ في الظلمةِ مأساة الإنسان الباقي في العالمْ

منبعها آلات العصر الهمجيَّةِ من مُحتَلينْ

تفقأُ أعينَ أحلام الأرض… الفلاحينْ/ بالقمع وأنيابِ السكينْ

وطوابير رجال الأمنِ تُحيل المنزلَ والشارعَ والجامعةَ

مصائدَ للناس المظلومينْ

يتسلل سـيفُ الليل يُقطِّع أغنيةَ الفجر الإفريقيِّ بنار الغرب الدَّمويَّةْ

إفريقيا تبقى أُغنيَّةْ/ حالمةً كوجوه الأطفالْ

تطلعُ من ساحات القريةْ/ من بين الأنهار الحيَّةْ

إفريقيا تبقى أغنيّةْ/ تنمو حتى تصلُ الشَّمسا

فتُزلزِلُ ركنَ التحقيقْ/ ضحكاتُ الفَجْر المكبوتْ

تصرخُ في وجه عدوِّ الشَّمسِ:

غداً… أو بعد غدٍ ستموتْ








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي