«لها مرايا»… سيكولوجيا متفرّدة في فوضى السياسة والقوّة

2024-01-22

نسرين بلوط

ترمز المرايا التي تتشظّى فجأة، إلى انكساراتٍ إنسانيّة بضوضاءٍ تشبه انشقاقَ الروح في السيكولوجيا النفسيّة، وهي بمثابة اندحارٍ للقيم التي تدرّجت عليها، فتبعثرها لتعثرَ على إيقاع الظلّ الموازي للفعل، أي السبب والنتيجة، الذي وصفه فرويد بغياب الإدراك، عندما يضيع المنطق في خانة اللاوعي، لتقع الرواية في دائرة الصراع على إثبات الهويّة النفسيّة لكلّ بطلٍ من أبطالها، وترسيخ سبب وجودهم الشقيّ فيها، الذي لعبت الصدفةُ والسياسةُ دوراً في تفعيل أحداث حياتهم.

تندرجُ القصّة في إطار زمنيّ غير محدّد، تبدأ بخبر وفاة رئيس البلاد في سوريا، وتأثّر البطل الشديد وهو ضابط المخابرات المتقاعد سعيد ناصر لموته المفاجئ، وهو الذي لم يشترك في الجنازة لكونه قد آثر العيش في الجبل بعد تقاعده وحيداً مع بعض رجالٍ من حاشيته، وقد ظلّلت عالمَه صورٌ انطباعيّة عن رجال الأمن، الذين أحاطوا بمنزله حين أعلن تمرّده في شبابه مع مجموعةٍ من رفاقه، ثمّ غفران الرئيس له هذه «الزلّة الصبيانيّة» كما وصفها شرط أن ينحاز إلى صفّه، وينفّذ مخطّطاته السياسيّة بوعيٍ ودون ارتباك، وقد فعل، حتّى أصبح من الرجال الموثوقين في الدولة.

تنتقل الكاتبة إلى مشهدٍ آخر، حيث توجّه بصيرتنا ومخيّلتنا نحو امرأةٍ تدعى ليلى الصاوي تجلس في التاكسي وهي تهذي وتتلعثم حتّى ينتفض السائق غاضباً ويأمرها بالترجّل من السيارة ولا يطالبها بأجرته، فتسير في الطريق مترنّحة بجواربها الممّزقة وحذائها المهترئ، وقد ارتأت أن تتوجّه من فورها إلى «ماري» الفتاة التي تعمل في صالون تجميل كانت تتردّد عليه أيّام مجدها وصباها. هنا تراهن الكاتبة على كلّ ما قد يخرق هذه المرأة ويبتر معالمها، فظلال الذكريات تحوم بقوّة على أجواء السرد والماضي يشكّل مازوشيّة مفرطة للتحوّل الآني والمبدّد الذي اتّخذته خطواتها منحدراً لسقوطها.

تستقبلها ماري بعاطفةٍ جيّاشة، رغم اعتراض صاحبة صالون التجميل وتأخذها إلى غرفتها المتواضعة في سكنٍ مشترك مع فقراء أمثالها، حيث ترقد أمّها العمياء التي كانت مرفّهة في عيشها بين راهبات الدير، وبعد أن خطفها رجل غريب من أمام باب الكنيسة وأعادها بعد مرور أسبوع تكتشف أنّها حامل وتعتني بها الراهبات حتى تلد ماري، لكنّ نفوراً خفيّاً يداهم مشاعرهنّ إزاء الطفلة فيصفنها بالدميمة والقذرة، لتصدرَ عن الصغيرة تصرّفاتِ عدائيّة، فيلجأن إلى استئجار غرفة لهما خارج الدير وكأنّهن أزحن عبئاً قاتلاً عن ضمائرهنّ وأكتافهن، حسب وصف الكاتبة.

تدخل ليلى الصاوي منزل ماري كالفراشة المبلّلة بنور الفجيعة، تحمل خطيئتها وسجنها لسنواتٍ مريرة، وتجهش بتفريغ مواجعها بين أحضان عائلةٍ بسيطة وفقيرة لا ترتبط بها إلا بمعرفة بعيدة وغير وثيقة، لكنّها تتشابك بخيوط الهموم المتوحّدة والأحزان المنكمشة على أوصالها، فنستعيد معها زمنها العابر الذي عاشت فيه بعض الفرح والكثير من الغش والصدمات المتلاحقة واللامحدود من الدهشة وعدم التصديق. هي حكايةٌ تتكرّر واقعيّاً، وتعكس نظريّة العالم الفرنسي غوستاف لوبون، الذي لطالما اعتنى بسلوك الجماهير وتقبّله لمسار الرواية بالتبنّي الجماعيّ للرأي الواحد، حيث يجمع عليه أغلب القرّاء، ويتّخذ الكاتب فيه دور الإيحاء النفسي لجعلهم يتعايشون تحت سقف التفاعل الديناميكي للأحداث.

فتسلّط مجهر الانتباه نحو ليلى التي تبدأ طفولتها بتأثّرها الجمّ بحكايات جدّها الشيخ، الذي يجلّه قومه في الجبل ويعتبرونه مرجعاً مهمّاً للحكمة والرزانة والديانة، والذي يؤمن بالتقمّص ويعتنقه كمذهبٍ أساسيّ في تحوّلاته الروحيّة، فتعود بذهنها إلى أزمانٍ خلت لتتصوّر حكايتها وهي تُذبح من ابن عمّها في زمنٍ بعيد، بعد أن اكتشف خيانتها مع عشيقٍ لها سلّمته نفسها بعد أن اعتقدت أنّها شهدت معه قصّة حبٍّ في زمنٍ آخر، ثمّ تنبض ذاكرتها بمشهد يمثّلها وهي تتمدّد على الأرض أمام جنديّ عثمانيّ يهمّ باغتصابها فتومئ لزوجها بعينيها كي يرميها بسكّينٍ في قلبها حتّى لا يتيحَ لهذا الجندي فرصة النيل منها، فيفعل ثمّ يقع صريعاً معها على الأرض. وبعدها تشهد ولادتها في زمنٍ أبعد من كلّ تلك المشاهد الخياليّة، حيث تمرّ في ذهنها صورٌ لقومها يركضون في سهلٍ واسع والجنود يحثّون خطاهم ليلحقوا بهم، فتقع والدتها الحامل بها على الأرض ويأمر قائد القبيلة النساء بتوليدها فيفعلن، ويضعها تحت إبطه ويهرب بها قبل أن يطاله الجيش الذي يعدو خلفه، وبالفعل يتمّ إنقاذها رغم موت أكثر الناس الهاربين معه.

تنتقل مع سعيد ناصر إلى شقّة واسعة ويحطّم لها مراياها كلّها حتّى لا يرى حقيقة نفسه فيها، ويجعل منها ممثّلة في الصفّ الأوّل ويغرقها بالأموال والهدايا ويجعلها مدمنة على تدخين مادّة الحشيش والكحول. يزورها علي ليقنعها بالعودة معه إلى الجبل حتّى تستعيدَ مراياها المحطّمة، وبراءتها الغابرة فترفض.

تكبر ليلى لتصبح ممثّلة وهي لا تملك من حطام الدنيا غير شقيقها علي الذي يدرس الطب، ويكافح من أجل مستقبلٍ سياسيّ للوطن من خلال تضامنه مع رفاقه كي يعترضوا على بعض الأحكام الجائرة فيه، لكنّه يسجن لزعم المخابرات بتورّطه بقضيّة تخريب الوطن وإفساد الرأي العام فيه، ورغم كون سعيد ناصر من أبناء قريته وتربط والده علاقة قديمة بجدّ علي، إلا أنّه يوسعه ضرباً وركلاً وشتماً أثناء التحقيق ليفقد جزءاً من ذاكرته. ويخرج من السجن نصف إنسان ونصف كائنٍ حي. تستقبل ليلى أخاها بلهفة الحرمان خاصّة وأنّ جدّهم قد توفّي منذ زمن ولم يتبقّ لها سواه، لكنّه يؤثر الانفرادَ بنفسه في الجبل حتّى يستجمع شتات فكره، وتغيب ليلى في مراياها التي توزّعها في شقّتها، تتزيّن وتتدرّب على أدوارها في التمثيل أمامها، وتشرع روحها لنسماتٍ تهفّ من خلايا بلّورها لتعبقَ في خاصرة ذاكرتها. حتّى تتعرّف صدفةً على سعيد ناصر في حفلٍ تقيمه صديقتها الممّثلة، وتقع في عشقه على الفور ويبادلها الإحساس نفسه، وكأنّ الحبّ لا يعرف المكان ولا الزمان أو الطرح المنطقي.

تنتقل مع سعيد ناصر إلى شقّة واسعة ويحطّم لها مراياها كلّها حتّى لا يرى حقيقة نفسه فيها، ويجعل منها ممثّلة في الصفّ الأوّل ويغرقها بالأموال والهدايا ويجعلها مدمنة على تدخين مادّة الحشيش والكحول. يزورها علي ليقنعها بالعودة معه إلى الجبل حتّى تستعيدَ مراياها المحطّمة، وبراءتها الغابرة فترفض. ويعود على أعقابه خائباً ثمّ تعود إليه ذاكرته كاملة ليتذكّر بأنّ سعيد ناصر هو من قام بتعذيبه في السجن. فيقدم على حرق منزل جدّه ثمّ الانتحار.

تتحوّل الأحداث سريعاً بعدها فينقلب عشق ليلى لسعيد إلى مقتٍ عميق ونفورٍ قميء وتمنع عنه جسدها وحكايات تقمّصها التي سبق أن عشقها وهي ترويها له على سرير حبّهما، يصبر عليها حتّى يقرّر هجرها أخيراً بعد أن يغتصبها بسبب تمنّعها المقيت، فتدمن على الهيروين وتبيع حليها وممتلكاتها من أجل إدمانها ثمّ تتعرّض له في كلّ مكان يوجد فيه حتّى يأمر بتلفيق قضيّة ضدّها ليزجّها في السجن كي تتعفّن فيه، حسب تعبيره. تخرج ليلى من سجنها بعد سنوات من الاغتصاب الجماعي للعساكر لها، ولا تجد مأوى لها غير ماري الوفيّة التي زارتها في السجن. تنتهي الرواية بأن تطلب من الأخيرة أن تمنحها بعض المال لتدفع أجر الحافلة التي ستنقلها إلى الجبل لترى سعيد في لقاء أخير فتقوم ماري بتنظيفها وتهيئتها كأنّها تلبّي آخر رغبة لمحكومٍ عليه بالإعدام.

تشقّ الحافلة طريقها إلى الجبل في اللحظة نفسها التي يتحرّك بها سعيد في طريقه إلى المدينة للقيام بواجب عزائه لعائلة الرئيس، لكنّ ليلى تجهش في منتصف الطريق بالبكاء على كتف امرأة سمينة تجلس إلى جانبها وتشاركها المرأة بالبكاء.

سمر يزبك وضعت في راحة سردها حفنة دسمة من السيكولوجيا والفلسفة الواقعيّة المريرة ومرّرت من خلالها استنكارها للوضع السياسي المستبد حسب رأيها في وطنها، ومأساة القويّ ومفهوم انتصاره على الضعيف ببراعةٍ واتقان.

كاتبة لبنانية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي