الرفيق أبو أحمد

2024-01-21

الياس خوري

مات كريم مروة.

لا أدري لماذا هبط عليّ الخبر كالصاعقة. بدا هذا المناضل والمثقف كأنه جزء لا ينفصل عن حياتنا، فجاء موت ابن الثالثة والتسعين وكأنه مفاجأة لم نكن نتوقعها.

لم يمت قتلاً في أقبية المخابرات كرفيقه فرج الله الحلو، الذي أذابه جلاوزة المكتب الثاني السوري بالأسيد، ولم يمت اغتيالاً كرفيقه جورج حاوي لأنه تمرد على الوصاية السورية، بل مات ممسكاً بقلمه، كأنه كان دائم البحث عن الحقيقة.

عبر كريم مروة الحياة السياسية اللبنانية وهو يلبس عباءتين: عباءة المناضل والقائد وعباءة المثقف، وفي الوضعيتين كان مثال التواضع والكرم الأخلاقي.

ربطتني بأبي أحمد ومحمد دكروب ومهدي عامل صداقة ورفقة عمل أتت من حيث لا أدري، أنا القادم من صفوف اليسار الجديد والمقاومة الفلسطينية. كان ذلك بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. في ذلك الزمن كنا نتخبط بحثاً عن طريق، إلى أن دلني كريم مروة على مجلة «الطريق»، وانخرطت بعدها بشكل غير مباشر في عمل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

فوجئت يومها بالعرض الذي قدمه لي ولصديقي روجيه نبعة، بالانضمام إلى هيئة تحرير مجلة «الطريق»، فنحن لم تكن تربطنا بالحزب الشيوعي أي علاقة، بل كنا من أشد المنتقدين له، لكننا لم نكن نملك سوى أن نوافق، فهمُّنا في تلك المرحلة كان العمل على طرد قوات الاحتلال من لبنان، فصارت المجلة مكرسة للمقاومة إلى جانب اهتماماتها الثقافية المتعددة.

تلك التجربة القصيرة التي كسرتها حرب الجبل بفظائعها الطائفية، كانت مدرسة كبرى بالنسبة لي. فيها تعلمت الكثير، ودخلت في مناخات لم أكن أعرفها. إلا أن خروجي من «الطريق» لم يؤثر على صداقتي بكريم مروة، فكنا نلتقي مع محمد دكروب ومهدي عامل (حسن حمدان) مرة في الأسبوع في منزله في شارع مار الياس حول كأس وعشاء طبقه الرئيسي هو اللبنة والزيت. وكانت هذه اللقاءات غنية بالمناقشات والأفكار، يقودها أبو أحمد وسط عواصف محاولاتنا فهم الواقع اللبناني وتجاوز الطائفية التي حولت لبنان إلى جرح مفتوح.

بدأت حكاية كريم مروة في النجف. أرسله والده لتلقي العلوم الدينية، لكنه كنسيبه حسين مروة تحول إلى الماركسية، غير أن انضمامه إلى الحزب الشيوعي كان إشكالياً؛ فأبو أحمد كان محباً لفرج الله الحلو الذي استبعد وأهين من قبل خالد بكداش الذي قاد الحزب الشيوعي السوري-اللبناني بقبضة ستالينية. أما سبب الاستبعاد فكان موقف فرج الله من قرار تقسيم فلسطين، ورفضه الموقف السوفياتي الذي أيد تقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية. كما كان معجباً بأدب رئيف خوري، فذهب إلى رئيف، الذي طرده بكداش من الحزب، يطلب النصح فنصحه بالانضمام إلى الحزب والنضال من داخله لتصحيح الوضع.

هذه النصيحة أثمرت حين قام تلامذة فرج الله بثورتهم الداخلية في الحزب في مؤتمره الثاني 1968 بدعم من أمينه العام نقولا الشاوي. أثمرت ثورة جورج حاوي وكريم مروة ورفاقهما استقلالية للحزب عن المركز السوفياتي، وأعطته حيوية جماهيرية وامتداداً شعبياً لا سابق له، غير أن الحرب الأهلية أتت لتقوم بتغيير كل المعطيات.

كان أبو أحمد واحداً من الفريق الذي صاغ قرارات المؤتمرالثاني، قبل أن يتحول إلى العنوان الثقافي لليسار اللبناني، ويستقطب المثقفين الللبنانيين بحيث بدا الحزب وكأنه اللاعب الثقافي شبه الوحيد في صفوف الجيل الجديد من الكتّاب والشعراء اللبنانيين.

من جانب آخر، برز اسمان سيطرا على الموسيقى والأغنية السياسية، هما مارسيل خليفة وزياد الرحباني، وكان تأثيرهما كبيراً، بحيث صارت أغانيهما على كل شفة ولسان.

وفجأة سقط كل شيء، وضاعت الإنجازات في ظل هيمنة المخابرات السورية على لبنان. أُخرج الحزب من حلبة التأثير السياسي، ووصلت الأمور إلى ذروتها بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فأغرق لبنان في الوحول الطائفية، وتم ضرب المقاومة الوطنية وإخراجها من الجنوب بالعنف من قبل حلفاء سورية، وانهار التحالف بين الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، الذي كان حجر الزاوية في سياسة الشيوعيين خلال الحرب الأهلية.

وكان جورج حاوي السبّاق إلى اكتشاف الفشل، فقدم استقالته من الأمانة العامة للحزب، وأنكفأ جيله عن العمل السياسي، وبدأت رحلة كريم مروة في صحراء العطش والبحث عن المعنى من جديد.

كان السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي الإعلان الصارخ بسقوط مرحلة كاملة من النضال اليساري في لبنان وبقية أنحاء العالم، وبدلاً من أن يجدد اليسار نفسه بعد سقوط الهيمنة السوفياتية، تفكك، ولم تنجُ الأحزاب الشيوعية من هذا المصير.

خلال هذه المرحلة الصعبة من حياته لم ييأس كريم مروة، بل ثابر على العطاء، كانت خطواته اللامعة أحياناً والمتعثرة في أحايين أخرى، دليلاً لاكتشاف عمق الأزمة التي نمرّ بها، ولكنه بقي أميناً لقوة الحياة التي دفعت كريم مروة للمشاركة في الانتفاضة-الثورة في لبنان، وكان واعياً للأخطار المحدقة بها التي نجحت في سحقها.

سيبقى أبو أحمد في وجداننا وذاكرتنا نموذجاً للمثقف الذي نذر حياته للتجديد والتغيير.

وداعاً أيها الرفيق والصديق والقائد.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي