القضايا الكبرى في حياة الأقليات العربية: سؤال الهوية والآخر

2024-01-21

حمزة قناوي

«ليس للكردي إلا الريح».

محمود درويش

لأي درجةٍ يمكنُ أن يتحولَ المعتقدُ الديني إلى سبيلٍ للاضطهادِ والتَنكيلِ بالبَشر؟ فعلى الرغم من أن معظم الأديان- بل حتى الأفكار الوضعية اللادينية والبشرية – تقومُ على مبدأ التسامح، وعلى فكرة نشر السلام والخير في الأرض، إلا أن الاضطهاد الذي وقع متذرعاً باسم الأديانِ وتحت رايتِها على مرِّ التاريخ من بعض البشر الذين يدّعون الإيمان، تجاه البشر الآخرين «غير المؤمنين»، من أجلِ التخلصِ من هؤلاء «عَبَدة الشيطان» ليعم العالم الخير والسلام، بغض النظر عن الإثم في إزهاق هذه الأرواح البريئة، أمرٌ يدعو للتأمل والتعجب.

فلنتأمل المقطع التالي من رواية: «لالين… حدث أن تزاوجت دور للعبادة»، للروائية السورية الكردية: وجيهة عبد الرحمن، تقول الراوية: «كان يتخبط بين أيديهم كالخروف المعد للذبح، بعد أن ربطت أطرافه الأربعة وأمسك أحدهم برقبته. أوصلوه إلى الخرابة، تعلوهم سحب الشتائم والتهديد، وهناك قام ثلاثتهم بالتناوب على نكاحه. كان الشباب الثلاثة من المسلمين، الذين رسخ الآباء في أذهانهم أن الإيزيدي يعبد الشيطان، والشيطان عدو الله، إنهم عَبدَة النار ولا يجوز التعامل معهم لأنهم أنجاس، تمنى لو التقى بهم لمزقهم إرباً إرباً، هؤلاء الشبان ظلوا كالأشباح يهددون وحدته».

بأي حقٍ يعطي اختلافُ المعتقد مبرراً للآخر لكي ينكل بمن هو مختلف عنه، ويستبيح عرضه وكرامته وجسده، ويتم إهدار الإنسانية تحت دعاوى تحقيق المزيد من الخير لها؟ من رحم هذا التناقض في الفعل والمعنى جاءت هذه الرواية «الإشكالية»، ذات الفضاء النصي الذي يتكون من مئةٍ وثلاثينَ صفحة. وقد يستهين القارئ في البداية بما فيها من فضاءٍ نصيّ، وسيجدُ أيضاً أن كل عناصر البنية الفنية، من لغةٍ وشخصيات وأزمان وأحداث وخيال خصب وإبداع، سيجد ذلك بأكمله متحققاً في الرواية، لكن هناك أمرين يستحقان الوقوف أمامهما.

الأول: الانقلاب الذي يحدث في الراوية ما بين المقطع الأول منها، وبقية أجزائها، فبينما كنا نتصور أن راويةً تحكي سيرتها الذاتية في المقطع الأول، التي سنعرف في ما بعد أنها (كاترين) بطلة الرواية التي تسلّمُ نفسها للعشق والعلاقة الحميمية مع شخصٍ إيزيدي اسمه (زارا)، وتخرج من ديانتها المسيحية وفاءً لهذا العشق – وإن كنا لا نعلم تحديداً السبب الجوهري لهذا الافتتان الساحر به، بينما يواجه كثيراً من المشكلات والتعقيدات في حياته من ناحية، ويعيش تحت اضطهادٍ كبير من ناحية ثانية، ولديه مشكلة في التواصل مع المرأة من ناحية ثالثة، فليس لديه هذا الإغراء لكي تترك (كاترين) عالمها وحياتها وتدمّر نفسها وأسرتها من أجل هذه التجربة، التي كان نتاجها الوحيد، وجود ابن لتزاوج المسيحية والإيزيدية معاً!

علي أي حال، تتغير «الراوية» في بقية المقاطع، وتتحول إلى «راوية عن بعد»، وتحكي عن تفاصيل أخرى، وسنعرف في ما بعد أن هذه الراوية هي (مارثا) صديقة (كاترين)، التي ظلت مخلصةً لها ولحكايتها، وطوال عشرين عاماً من عمرِها تراقبُ الأحداثَ دون أن تتدخل فيها، وتوثق فقط ما دارَ، وتتتبعُ ما حدث، ومع ذلك هناك راوية أعلى من ذلك، تروي عبر نسق مختلف، وهنا تظهر لنا النقلة الفنية الثانية، عندما يتم نقل السرد من (كاترين ـ مارثا) إلى الابن (لالين) بعد بلوغه سن الرابعةِ والعشرين، تقول الراوية: «- لا لين… ها أنت ذا، لو أن كاترين هنا الآن.

– لماذا؟ أين هي؟

ستخبرني مارثا في ما بعد أنها رحلت منذ سنين طويلة بحادث سيارة، تاركةً لها دفتر يومياتها، الذي سيتحول إلى الفصل الأول من هذه الرواية.

– رحلت بعيداً».

من الذي يتحدث هنا؟ ويعرف أن هذا المقطع سيتحول لجزء أول من الرواية؟ وإننا سنقرأه وسنشعر بتناقض في الحكي والراوي، بين المقطع الأول وبقية المقاطع، ثم في ختام الرواية يقدم لنا إجابة عن هذه المعضلة؟ وهل من كتب هذه الرواية هو: «لالين» الابن وليس (مارثا) كما نظن؟ هنا نواجه نوعاً من التداخل البنائي في «الراوي»، وكذلك في الأزمان، حيثُ لو تتبعنا تاريخها سنجد أنه يفترض أن تكون هذه الرواية مكتوبةً في 2027، وهو ما يعني أن الأحداث التي تبدو بسيطة، ولا تتعدى: خطيئة امرأة متزوجة مع شخصٍ تحبه، تغيير ديانتها، طلاقها من زوجها وتخليها عن أولادها، تسليم رضيعها لجمعية خيرية، تبني أسرة له، يعرف الصغير حقيقته عندما يكبر فيقرر زيارة معبد «لالش»، هذه التنويعة البسيطة من حكاية تقليدية، تتناص عشرات المرات مع أفلام وروايات، يتم تقديمها في سياق خاص بها، وفي إطار زمني يحتاج إلى تركيزٍ شديدٍ، «ما بين الخط الأفقي والخط السببي وحبكة النص»، لكي ندرك أننا أمام دعوة لإعادة النظر والتأمل في واقع الأمة العربية أولا، والطوائف والأقليات ثانياً، والطائفة الإيزيدية ثالثاً.

الانتماء والهوية

إذن نحن نتحدث هنا عن رواية من تلك النوعية التي تطرح القضايا الكبرى، وتلقي الضوء على المسكوت عنه، وتغوص في أعماق الوعي الجمعي، لا تخشى أن تخدشه أو تصدمه، لا تخشى أن يُفاجَأ القارئ بما لا يتوقع أن يقرأ عنه، إنها تتبنى صوت الإيزيديين، وتتحدث في بعض الأوقات نيابة عنهم، وعن الاضطهاد والمذابح التي تعرضوا لها، حتى إننا نشعر مع بعض السياقات النصية بأننا إزاء مقال سياسي – تاريخي تحليلي وليس نصاً روائياً، على سبيل المثال، تقول الراوية، أو الراوي: «لالش لم تكن بمنأى عن الغارات التي استهدفت كل مناطق الكرد، كان توجه النازحين عن بيوتهم نحو الحدود التركية، ومدينة رانيا، وفي ظنهم أنهم هناك سيكونون بمأمن من القصف العشوائي، الذي استهدف كل شبر من الأراضي الكردستانية، وحصل الكرد على الحكم الذاتي لإقليم كردستان، بعد حربٍ طاحنة مع نظام صدام حسين وكل من سبقه، وسيتولى شؤون الإقليم كدولة صغيرة غير منفصلة عن جسد العراق، حزب الاتحاد الوطني الكردي والحزب الديمقراطي الكردستاني، بانتخابات نزيهة، أسفرت عن تقاسم المدن الكردية، ومحاصصة المناصب في إدارة شؤون الإقليم، وسيتولى جلال الطالباني رئاسة حكومة العراق فخرياً في عام 2004، بعد تحرير قوات التحالف العراق، من نظام صدام حسين، ليتولى بذلك أول رجل كردي رئاسة حكومة كانت بالأمس تقطع أوصاله».

ربما لم يكن لهذه الأحداث التاريخية والتوثيقية ثقلٌ لو لم ترد في هذا السياق التشويقي، الذي نتطلع فيه لمعرفة نهاية القصة، ماذا حدث لتلك السيدة التي أغرمت بالإيزيدي؟ وعبر استسلامها لمتعتها معه أنجبت ابن الخطيئة، الابن الدال على إمكانية التوحد والتزاوج بين العقائد المختلفة متمثلة في شخص، شخص يعاني مشكلة في الانتماء والهوية، لا هو مسيحي، ولا هو إيزيدي، وليس في المعادلة الواردة في تركيبة الرواية، الدين الإسلامي، إلا في الذكر عبر فظائع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومن ثم فإن اللغة هنا يتم استخدامها عبر خاصية نوعية ـ على حد التعبير الذي يستخدمه (ميخائيل باختين)، لوصف مثل تلك اللغة الرهيفة، إنها لغة ذات خاصية نوعية من شبكة علاقات متباينة ومتداخلة تثير الكثير من الردود والاستجابات في النفس عند المتلقي.

والشاهد هنا أن المؤلفة تعرف تماماً متى تصنع لغة عالية تخييلية ومحلقة، تصل إلى حد الشعرية المطلقة، في وصف الحالة النفسية التي تكتنف الأشخاص الذين ترغب في الحديث عنهم، وذلك أمر آخر يستحق الإثبات هنا، أن الرواية تكتسب منطقها الداخلي عبر التوغل في نفوس الشخصيات، ووصف ما يشعرون به من ألم نفسي رهيب، ومن معاناة، ومن حيرة حول «الهوية» التي تتمركز فيها الشخصيات التي اختارتها الكاتبة بعناية، لكي تكون شخصيات على المحك، واقفة في تلك المنطقة الرمادية من القبول والرفض، من الإقدام والإحجام، من الشعور بالخطيئة والرغبة في الغفران، وتتمثل رمادية هذه المنطقة في شخصية (كاترين) التي رغم اختيارها برغبتها إنهاء حياتها الزوجية السابقة، إلا أنها لا تكوّن حياةً زوجيةً جديدةً، رغم اختيارها قبول الديانة الإيزيدية، لكنها لا تتكاتف ولا تكوّن مع (زارا) أسرة جديدة في مواجهة قسوة العالم، ولا (زارا) يحاول أن يأخذ موقفاً واضحاً من هذا العالم الذي اعتدى على كرامته، واغتصبه عبر المتشددين الإسلاميين، ولا يبحث عن حب حياته، وعن المرأة التي اختزلت كل النساء بالنسبة له، في ظل فشله في الزواج أو في تكوين أسرة، في تركيبةٍ عجيبة من الإخفاقات، رغم وجود الجرأة الكافية لتحقيق مغامرة مبنية على الخطيئة، وعلى كسر رباط الزوجية المقدس، لصالح رباط الغرام، ورباط الشهوة المفرطة، حب جسدي مغرق في الشهوانية، وتخلٍّ مؤلمٍ مريع، لكنه يأتي كالقدر الذي لا مفرَ منه، ولا تُظهِرُ هنا أيٌ من الشخصيات مقاومةً لهذا الواقع.

الكيمياء البشرية

 إحدى المعضلات التي تطرحها الرواية معضلة «الهوية»، وإذا استعرنا تعريف (أفلاطون) عن الهوية بأنه: «كل واحد مطابق لذاته»، ، فإن أحد أهم أهداف الرواية هنا طرح فكرة تصور الذات، أو تصور الذوات المختلفة من قبل العرقيات المختلفة التي قُدِّرَ لها أن تعيش في منطقة جغرافية واحدة، وهو أمر ربما لو تمت الكتابة عنه بصيغة المقال، أو التقريرية المباشرة، لكان هناك العديد من ردود الأفعال القاسية، التي ربما لا يمكن قبولها، لكنها عبر اللغة المتداخلة، وعبر الصعود والهبوط في مستويات اللغة، وعبر حبكة وظفت الجنس ومستويات العاطفة، وبها من الحيرة والقدر المحكوم مسبقاً بمأساوية مفرطة، وعبر تهويم لمعرفة من هو الراوي، عبر هذا كله استطاعت المؤلفة أن تجعلنا مشدودين إلى إكمال الرواية حتى نهايتها، وإن كنت أعتبر أن جوهرها ما يقوله (لالين) عن نفسه: «هل أكره نفسي لأنني حصيلة عار أمي، أم أحبها لأني استمرار لنهج الحب الإلهي الذي طرحه الله في النفوس الجانحة. أنا خدعة الأبدية الصماء، ثالوث الحياة بلعبة الجنس المقدس بين ثنائيات الكون السامعية، الحبل السري لاستمرار الجنس البشري على طريق الكيمياء البشرية، أنا هنا الآن لالين.. الاسم المسبوق بدهشة السماء لاندماج الشرائع في كتلة الصوان، أسير في شرايين الزمان خالي الوفاض من خطة لحياتي».

إن (لالين) هو الحلم المستحيل حدوثه في أرض ضجت بالدماء عقب صعود حلم التحرر مع انتشار ثورات الربيع العربي، والأقلياتِ التي كانت تتعامل معها الحكومات العربية وأنظمتها القمعية عبر الكبت والإسكات بالاغتصاب والاعتقال والإفناء والمذابح والمجازر، صار لها صوتٌ قويٌ يعبر عن معاناتها، وواقعها الأليم، خاصة مع مواجهات الإيزيديين مع «داعش»، ومع صعودِ نجم الناشطة العراقية نادية مراد، التي حصلت على جائزة نوبل، وكانت صوتاً حياً لما يتعرض له الإيزيديون من اضطهادٍ وتنكيلٍ على مرِّ العصورِ من ناحية، وعلى يدِ تنظيمِ الدولة الإسلامية «داعش» من ناحية أخرى، لتأتي هذه الرواية بطبيعتها الخاصة، لتلقي في عمق المياه العربية الراكدة تجاه قضايا العِرقيات والأجناس المختلطة وتداخل الأديان، حجراً كبيراً، مُتمثلاً في هذه النبتة المولودة من رحم مسيحي وبذرتها إيزيدية، وتحمل في داخلها عمق الحيرة والدهشة والخوف من المجهول القادم في المستقبل الذي لا نعرف إلى أين سيصل بالعالم العربي، سواء مركزه أو هوامشه او أطرافه، في مستقبله القريب أو البعيد، وأكبر أمنيات مواطنيه أن يأتي اليوم الذي لا يتم فيه التنكيل بأحد بسبب ما يعتقده حول الخالق، وحول كيفية عبادته.

شاعر وناقد مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي