المغربي عبد الجواد العوفير في: قصيدة بضفيرتين

2024-01-19

منصف الوهايبي

يظل الشعر كغيره من الأنواع الأدبية أو الفنون الأخرى، موضوعا للمعرفة مثلما هو مصدر لها. وربما تعزز هذا الملاحظ في تركيز الشاعر المغربي عبد الجواد العوفير على سريرته وتفاصيل معيشه؛ وما يخالطها أو يلابسها من حالات الوعي أو الحدس أو التجربة الحية في كتابه الشعري المتميز «سماء بضفيرتين» وفي نصوص مثل مصيدة أو فتاة الكونتوار أو شرح الأبدية أو صناعة عصفور أو لغات لم تنطق أو تأمل العشب أو رسولة الغيوم أو ما تخفيه الأشجار أو تأمل الجارة أو أطفال يركضون في الذاكرة.. وكل هذه النصوص التي تمنيت لو أني تمثلت بها، في هذه القراءة «الناقصة» لا شك. والشاعر فيها إنما يعهد إلى الخيال بوظيفة استكشاف الباطن، الذي يتجدد معنى وبنية في النص، بحكم قوانين الكتابة أو شروطها أو إكراهاتها وإلزاماتها. ولنسمه «التخيل الشعري» فلعل هذا المصطلح أفضل من قرينه «الخيال الشعري» الذي نهض به الرومانطيقيون. ويكفي أن نعود إلى الأعمال الشعرية العظيمة في تراثنا وتراث غيرنا، لنستكشف أوجه العلاقة، التي تنعقد بين مصادر الشعر ومجال «السريرة» فكرا وعاطفة وأهواء وإرادة. ويبدو أن الشاعر مثله مثل الروائي، يخول لنفسه الدخول بلا استئذان إلى حصن الذات؛ ولا يقف إزاءه مدفوعا مصدودا، وهو الذي يفترض أنه منيع عصي: «المطر الذي داخلنا أغزر» أو «المطر هذا الإله المتشرد» أو «الأمكنة القصية التي لا يصلها القلب ولا يملكها الخيال» حيث تقيم امرأة ما ولتكن «مادلين» كما يسميها الشاعر؛ أو القصيدة التي تخيرها عنوانا لكتابه، حيث السؤال: «أيكون لي شكل الإله؟» وقد نستحضر سارتر في مقالته الشهيرة عن فرانسوا مورياك، في ما سماه عبارة عجيبة «وجهة نظر الله» بل نستحضر المعري في تلك الإشارة البليغة «الشعر قرآن إبليس» وتحديدا في النصوص اللافتة من شعرنا اليوم: السماء تحبو على فخذي عاشقة… والبياض مثل أشجار النوم، أي هو الأسود أو محصلة الألوان كلها.. ولو أجزت لنفسي أن أستعير من وليم جيمس، أحد المفاهيم التي غذت خيال بعض الروائيين، ووضعت الشعر مكان الرواية؛ لأمكن القول إن الشعر هو هذه اللغة الفريدة التي تجعل «تيار الفكر (الوعي)» شفافا بالنسبة إلينا، وهو يقتادنا، أو يستدرجنا إلى سر تجاربنا وأفكارنا. لنقل إننا نرى في فن الشعر «مرآة المرآة» أو الروح الإنسانية بعمقها وتعقيدها.

قد يساورنا الشك في تناقض الشاعر، أو في أن البون بين نصه وحياته شاسع أو صدع لا يرأب؛ أو هو «يتحيل» باللغة على اللغة، كما في «الجسد الذي يبكي تحت رأس الجوكندا» و»ضحكات الجارة» حيث تلتبس الابتسامة بالبكاء والضحك.. وهذه وغيرها هي قصائد السيرة الذاتية التي تعتمد بشكل مباشر على الاستبطان، وبهذه الطريقة تلجأ إلى القدرة المفترضة، على أن تصبح الشاهد المميز لحالات المرء وأفكاره ومشاعره وحدها. والشعر، حتى عندما يتخذ شكل السرد بضمير المتكلم، فيقترب من السيرة الذاتية، بما في ذلك المتخيل فيه؛ فإنه على الأرجح ينشد علاقة ما مع الآخرين المختلفين، أو حتى غير المختلفين: الموسيقى تهبط الأدراج مثل امرأة غنوج/ لكن بيتي سفلي/ فكيف تخيلت أن الموسيقى تهبط الأدراج الداخلية؟» واستخدام ضمير المتكلم يختلف عن ضمير الغائب؛ إلا في حالات «الالتفات» أي العدول من التكلم إلى الخطاب أو الغيبة، أو العكس؛ فالمتكلم هنا هو «أنا» مثلما هو «أنت» أو «هو» في الآن ذاته. هو شكل من أشكال الكلام يتكون من استبدال الزمن، والوضع، وطبيعة كلمة، أو شخص بزمن آخر، أو بضمير آخر، أو بطبيعة أخرى، أو بشخص آخر. ومداره على استبدال صيغة نحوية واحدة (ضمير، اسم، زمن فعل) بصيغة أخرى؛ ويسمى أيضا الاستبدال، ولذلك فهو حذف وإيجاز وإضمار، أقرب ما يكون إلى المجاز المرسل، أو التعلق المعنوي حيث ترتبط المفردات في عبارة تبعا للمعنى لا تبعا لقواعد النحو. يساعد الالتفات في إنشاء صورة غير عادية، مذهلة قادرة على جذب انتباه القارئ أو المستمع. ويمكن أيضا أن يربك الكلام عندما يكون مستمرا عبر مجموعات نحوية تركيبية أشبه بجزر صغيرة ممتدة (عدة جمل يسلسل بعضها بعضا على سبيل المثال) وأمثلتها كثيرة في هذا الكتاب: في الأبدية التي تنمو في القلوب كأشجار العليق، أو «الملاك الذي يقود الموت ككلب» وهو «ينظر إلى السحب التي تتدافع كخراف».. وهذه صيغ متنوعة يأخذ بها الشعر، وهي تُعزى عادة إلى «الحيل» التي يخفيها كل فن، على قلق هذه العبارة؛ ولعل الأنسب أن نستخدم في السياق الذي نحن فيه مصطلح «اللعب» أو المحال من الكلام أي ما عدل به عن وجهه، أو الاحتيال الفني؛ والمقصود تحول النص من ذات نفسه.

ومثال ذلك التنويع الذكي على عبارة النفري «قرأت السهروردي حتى صارت عيناي أوسع من العالم».. أو «الشجرة التي تنام في ظلها..

قد يقال إنه يتعذر على القارئ أن ينفذ إلى أفكار الشاعر، أو الكاتب، أو ما يدور بخلده، مهما يكن المعنى المستبطن، بيْد أن هناك ضوءا ما ينبثق من أخيلة الشاعر ومجازاته وشتى ألاعيبه، يغني دواخلنا أو يستنطقها أو يكشف ما يحتجب منها. وهذا «استبطان» لا علاقة له بما يقدمه علم النفس أو الفلسفة، فالقارئ وهو يقرأ هو الوحيد الذي يمكنه أن يمثل لنفسه ما يختبره داخليا. وهذا من شأنه أن يثير إحدى مشاكل الاستبطان، وأقصد غياب «العيار» أو حتى تسويغه؛ إلا بعيار من خارج النص. والجملة نفسها يمكن أن يكون لها معنى أو أكثر من معنى، لأن مرد الأمر إلى التلفظ وما يحف به. لنقل إذن إن الاستبطان يقوم على اعتبار أن للذات القارئة وهي تحشد قواها أثناء القراءة، من القدرة الخاصة ما يجعلها تكون حالاتها الداخلية المفترضة، من عناصر السياق المتشابكة في النص. ويتعزز هذا بواسطة ضمير المتكلم في النص، وهو ما يفضي إلى ما يسمى «التقبل الذاتي». وفي نص يسند فيه الكلام إلى ضمير المتكلم، يكون الاستبطان من عمل المتلفظ؛ وكذلك الشأن في ضمير المخاطب، أو الغيبة كما تقدمت الإشارة.

وها هنا لا مناص من الإقرار بأننا ننفذ إلى هذا النص من منظور الألعاب اللغوية أو حتى ما يسمى «المفاهيم الخيالية» أو»المتخيلة» أو «الوهمية»التي تؤدي إلى تخيل ألعاب لغوية مختلفة عن ألعابنا، ترقى بنا إلى تخيل شكل من أشكال الحياة، أو «ميتافيزيقا» الأشياء، حيث نحن القراء لا ندرك معنى كلمة أو جملة، إذا نحن لم نحكم ربطها بسياقها، أو بالظروف التي تقال فيها، ذلك أن الألعاب اللغوية المتخيلة والمفاهيم الخيالية هي صورة من التجارب الفكرية حتى وهي تتخذ وظيفة طوباوية أو هي مخترعة مبتدعة. على أن عبد الجواد وهو قارئ متمكن للشعر الفرنسي كما يدل على ذلك كتابه هذا، يدرك كيف يدير التجربة اللغوية التي ترقى إلى نوع من اللعب بالمعنى الجمالي للكلمة، ويصلها بالحياة والمعيش واليومي، بل بالعمق الميتافيزيقي، وقضايا الإنسان الكبرى. وعلى ضرورة تنسيب الحكم، لأن الأمر يحتاج إلى شواهد وأمثلة دقيقة، لا يتسع لها هذا الحيز؛ أقول إن هذه النصوص عامة تتعالق فيه الفنون جميعها، خاصة الرسم والموسيقى. وقد يقول القائل: وكيف؟ ولكل من الشعر والرسم مثلا لغته، ولكل عالمه المميز. فكيف لهما إذن أن ينضما ويندمجا؟ فإذا سوغنا أن هذا في إمكانهما، فأين موقعه: عمل الشاعر أم عمل الرسام؟ بل هل يمكن أن نعقد حوارا بين هذين الفنين أو التعبيرين؟ في هذا السياق، وأنا أحتاج هنا إلى مثال دقيق، حتى لا يظل كلامي فضفاضا؛ أقول قد يصعب أن لا نتذكر الفرنسي روني شار، الذي يبني الصورة على نحو ما يستخدم الرسام «الدخلة» أي مزج الألوان وتخليطها، ليأخذ منها لونا آخر.

وفي تقديري أن ما يقال في السرديات عن الراوي، يمكن أن يقال عن الشاعر في هذا النوع من الكتابة المختلفة؛ فهو «شاهد مزدوج» يشهد لنفسه ويستبطنها على قدر ما يشهد لقارئه؛ إذ يغوص في الحياة بشتى تفاصيلها وشواردها. لكأنه «عازف البيانو» في فيلم رومان بولانسكي الأخير؛ ذاك الذي يجد نفسه وجها لوجه وهو الجائع المنهك المختبئ وسط الأنقاض، مع ضابط ألماني يدعوه إلى الجلوس إلى البيانو.. بل صورة أخرى من امرئ القيس: «أنا الشاعر المرهوب حولي توابعي/ من الجن تروي ما أقول وتعزف» وليس هو «جني الشعر» أو «شيطانه» كما دأبنا على القول، وإنما هو القارئ بألف التاج «قرين الشاعر» المتحرر من رق المكان والزمان.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي