مئة سنة وما زال البلد كما كان في أوّله!

2024-01-17

حسن داوود

تحكي رواية «أغنيات للعتمة» سيرة عائلة لبنانية ممتدّة على مدى زمني ينوف على مئة سنة. هي سيرة لبنان أيضا على صعد كثيرة. سيرة لسياساته وأحزابه وحروبه بالترافق مع تعاقب الاحتلالات عليه، وكذلك سيرة لثوابته التي لم يتمكن الانفتاح على الثقافات الوافدة إليه من تبديل معتقدات أهله. الكفاح للخروج من تلك الثوابت لم يحقّق تلك الرغبة بالانتقال التي تتمثّل بابتكار «شهيرة» إحدى بطلات الرواية، طريقة لإبقاء أولادها في المدرسة الإرسالية، وهي مبادلة محصول أرضها من زيت وزيتون وثمار فاكهة بتحصيل العلم، بعد موافقة مس ستيوارت مديرة المدرسة على ذلك.

المدرسة والجامعة هما جزء من انشغالات الرواية، التي لم تفوّت واقعةً من الوقائع التي جرت خلال الأعوام المئة. أعني تلك التي كان حريّا بها أن تحوّل المسارات العامة لساكني لبنان، من ذلك الانتقال من زمن العثمانيين إلى زمن الفرنسيين، ثم الاستقلال الذي، كما في الرواية، لم تدم الآمال المعلقة عليه بسبب ما يتربصّ به من وقائع مخربة، حاضرة على الدوام.

بالترافق مع أحداث لبنان تتوالى حياة عائلة دالي، فإضافة إلى المجريات الخاصة بكل جيل من أجيالها هناك العنوان العريض الذي منه مجاعة لبنان في الحرب العالمية الأولى، ثم ما سمي بحرب 1958 الطائفية، ثم حرب 1967، ثم حرب 1975، هكذا كأن الحروب هي السمات المميّزة للحقب. كما أنها، إضافة إلى أنها عناوين لتاريخ البلد، يشكّل كل منها تاريخا ثانيا لحياة كل من الأفراد، وهؤلاء كثيرون ما دامت الكاتبة لم تشأ إهمال أحد منهم أو نسيانه. التفرّع العائلي، المضاف إلى التعاقب الجيلي، على مدى يزيد عن القرن، ولّد ما لا يسهل حفظه من أسماء لولا تمكّن الكاتبة من تصنيفها في مجموعات تنضوي كل مجموعة منها تحت واحد من أسماء النساء الثلاث اللواتي تولّين، بالتتالي، أدوار البطولة في الرواية. هؤلاء هن النساء اللواتي تميّزن عن سواهن، ببدئهن رغبات في الخروج عن الأدوار المرسومة لهن كنساء. شهيرة وليلى وياسمين هن بطلات حقبهنّ إذن، حيث لم يتح لياسمين أخرى، وهي جدة ياسمين آخر البطلات، بالمعنى الروائي، أن تكون حاضرة مثلهن. لا فقط بسبب موتها المبكر، بل أيضا لأنها لم تُعد ّنفسها لدور يستحقّ الذكر.

الرواية التي أبقت خيط السرد موصولا بدت، رغم ذلك، كأنها اختُتمت ثلاث مرات. إحدى هذه المرات تمثّلت باختفاء ليلى، المحيّر والمأساوي في آن، فبسبب كراهيتها لعيشها، هي الرومنطيقية المولعة بقراءة الروايات، اختفت ولم تترك أثرا يرشد إلى مكانها. وكان الاختفاء نهائيا، وفي الوقت نفسه مغيّرا لطبيعة الرواية وبيئتها حيث ليس من المعتاد أبدا أن يجري ذلك كحدث يمكن توقّعه في مجتمع مثل ذاك الذي تعيش فيه عائلة دالي. كان يمكن للرواية أن تنتهي هنا، إذ بماذا يمكن أن تعد رواية بعدَ ذلك الختام الذي، لقوته، يدعو إلى أن ما ينبغي أن يعقب إغلاق الفصل المختص بليلى وضعُ القلم جانبا وإغلاق الرواية على صفحتها الأخيرة تلك.

لكننا لسنا إزاء رواية درامية، تختتم عند بلوغها ذروة مأساتها، بل إنها رواية ذات طابع ملحمي تعيد سرد الحياة بعد أن كانت قد وصلت إلى ما يمكن له أن يكون نهايتها، نهاية احتمالاتها. هكذا، بعد اختفاء ليلى، أمكن لابنتها أسمهان أن تؤسّس لبطولة خاصة بها، لكن في خارج الكنف المكاني (بلدة كسورة) الذي احتضن تاريخ العائلة. كانت أسمهان قبل ذلك قد عاشت المعاناة المتصلة لنساء العائلة، جيلا بعد جيل. أمها ليلى كانت قد عاشت حياة أوحت لها في إمكان أن تكون حرة في خياراتها، لكن ذلك لم يدم إلى ما بعد زواجها. كان العشيق الجامعي قد تراجع هو أيضا عما كان واعدا به، وها هو الزوج الأخير في سلسلة أزواج نساء العائلة يسلك على منوال سابقيه، الذين كان أبرزهم سالم، رجل الأعمال الذي أفلسه جشعه ومغريات اللهو المتاحة عادة للرجال.

وها هي الرواية التي رافقت توالي الأجيال تقف عند الزمن الأخير الذي وصل البلد إليه، انفجار المرفأ مثلا ورحيل آخر بطلاته عنه، إلى أمريكا. هنا، تولّت أسمهان، الأخيرة في سلم الحفيدات، اختتام الرواية مرة أخيرة، عبر تولّيها إعادة جمع المآسي في ما يؤدي إلى شمول الخسارة تاريخ العائلة النسائي كلّه. مئة سنة من الإحباط وخيبة الآمال، وليس هناك خطّ نهاية لذلك، فها هو كريم، نجل أسمهان، يبدأ حضوره في الرواية، قبيل إقفالها، سائرا على خطى من سبقه من الرجال.

«أغنيات العتمة» رواية إيمان حميدان صدرت عن «دار الساقي» في 254 صفحة- سنة 2024.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي