أول الشعر أول الحياة… تأملات في ديوان «العُبورُ إلى الْمِيلادِ»

2024-01-16

ناظم ناصر القريشي

«عندما يأتي القارئ المناسب تظهر الكلمات للحياة – أو بعبارة أدق – يظهر الشعر الذي تخبئه الكلمات» ‏ بورخيس

كلنا نشتاق إلى وجوهنا الأولى، إلى بدايتنا الأولى، إلى الميلاد، حيث الشعر أول الحياة، والحضور حلم تأويله العبور إلى المِيلادِ، ففكرة الشعر في الكلمات هي كفكرة الماء في الحياة، وفكرة الفجر وهو ينبثق من الظلام والصباح وهو يترنم بموسيقى الضوء على مقام الحضور، فالشعر وحده يعرف كيف يختزل حياة بأسرها، ويوقظ أسرار الكلمات ويجسد القيم الجمالية والإنسانية، والشاعر منصور الشامسي المتأمل بروحه في الكلمات وفي الحياة وأحاسيس الإنسان العاشق الصوفي والمتأمل في البعيد، يجسد هذا المعنى ويدون حلمه في ديوانه «العُبورُ إلى المِيلاد» الذي يحتوي قصائده الأولى، وهي كبداية تعتبر أوبرا شعرية، فيها الكثير من الأنغام والتنغيم والمبهر أيضا، تتشكل فيها الصور على شكل لوحة تشكيلية بلغة شاعرية عن نهر صوفي ينعكس فيه وجه الحياة، وهي لا تتوقف عند بداياتها الأولى، فالنص الشعري لدى الشامسي كأنه في لحظة يتحول إلى نص بصري، وهذا البعد الذي تتحرك به قصائد الديوان لتكشف عن مضمونها الذي يتناسب مع انسيابية الفكرة وموسيقية الكلمات، وهذا ما جعل الشاعر يستهل قصائده الأولى بقصيدة ترانيم صوتك فيقول:

أَعْرِفُ صَوتَكِ

يَنابيعَ حُبٍّ

هَمَساتِ.. أَعراسٍ أعانِقُها كُلَّ مَساءٍ

فأَرحَلُ مِنْ نَفْسيَ.. مِنْ ذَاتِي

إلى حَيثُ لا أَدري..

مَعَ أشْرِعَةِ ضَحِكاتِكِ.. الطفولِيَّةِ

التي أَبْحَثُ فيها..

عَنْ وَطَن.. عَنْ شَمْسٍ

عَنْ حُروفٍ تَظَلُّ تَروي لي

حَكايا.. وَأَقاصيصَ

وأنت تنحازُ لي

إلى أن يصل إلى هذه اللحظة، التي يجمح فيها بخيال شعري، بصور ملهمة، تتشكل كحلم جميل يتعامد مع الروح ويتسع باتساع العبارة عبر افتتان الشاعر في صورة الإبهار، يجعلنا نتساءل لماذا يحرك فينا الشعر كل هذا الحنين الجارف؟ وهذا وعد الشعر الذي ينجزه والذي يماثل النجوم وسطوة الجاذبية إلى أن تتكامل مفاتن القصيدة:

أُقَبِّلُ صَوتَكِ

أُقَبِّلُ اسْمَكِ

أَبْني عَلَيْهِما أَحْلامَ يَقْظَتي

الوَرْديَّةَ

الْمُسافِرَةَ إلَيْكِ

إن تتطابق لحظة كتابة القصيدة بكل خيالاتها وعواطفها في لحظة حضور اللحظة الشعرية نفسها برغبتها التي لا تهدأ، عبر صيرورتها وحلولها في الكلمات، حتى تكون هي ولا يكون غيرها، لحظة تغنيك وكأنها كل شيء، لو كان في إمكاننا أن نمسك بنشوة تلك اللحظة المضيئة التي تلتقي فيها الكلمات والأفكار في الأفق ذاته فيقول في المرفأ الأخير انطلاق من قصيدة (وطِفلةُ الشّقيفِ تَظَلُّ كالشَّمسِ تَسْطَعُ):

المَرفأُ الأخِير: انْطلاقٌ

إنَّهُم يَمْضُونَ.. نَحْوَ اللاشَيْء، إلى هُناكَ، إلى مَكانٍ.. والمَصَابِيْحُ ـ النُّجُومُ ـ مَسافَاتُ النُّورِ ـ بَعِيدَةٌ، وتَظَلُّ عَنْهُمْ.. بَعِيْدَةً.. في حِينِ عُيُونُنا تَنْظُرُ المَرْفأَ الواعِدَ.. لِنَقْتَرِبَ مِنْهُ.. نَتَوَحَّدُ.. ونَمْتَزِجُ.. لِتُطِلَّ دُنيا كَوْكَبِيَّةٌ.. مُنْتَظَرَة.

وماذا نقول للإبداع بعد وهو ينحاز إلى ذاته، ويبتكر طريقته الأسمى، ويؤكد حضوره في الحداثة، حتى في أشد اللحظات حزنا وانكسارا وانحسارا وتراجعا، فيحولها طيفا من الجمال ويغازلها، ويجعلها ترتدي لون الروح الأزرق، لون البحر والسماء فيقول في قصيدته (ترتدينَ البحرَ والسَّماءَ فوقَ زوايا الانْحسارِ والتّراجُع):

أَنظُرُ

أُحاولُ أن أَقْرأَ

وَمَضاتِ الرّسالةِ التي تَمْتدُّ مِنها

زوايا انْحسارٍ

شَظايا مُبَعْثَرَةً مِنَ البَيْتِ إلى الوَطَنِ

وقمّةَ انهيارٍ تَزرعُ أقداماً قَذِرةً

يا أيُّها الجَحيمُ الأسودُ

أنتَ أساورُ عَذابٍ

وأَذْرُعٌ حَديديّةٌ مُجنزرةٌ

تغتالُ النَّهارَ

ثم ينتصر الشاعر لقضيته في هذا المقطع من القصيدة نفسها فيحول الانكسار والتراجع والخذلان في زمن بليد إلى (وهْج مُتأجّج يُطلقُ العَنانَ لكلِّ النّوارسِ والثُّوارِ):

تَرتدينَ البَحرَ والسّماءَ بينَ جَفْنَيْكِ

لأجلِ تَذكرةِ وصولي إليْكِ

يا مَسافةً واعِدةً

تطولُ في زَمنٍ بَليدٍ يَتراجعُ

وتستمرّينَ وهْجاً مُتأجّجاً

يُطلقُ العَنانَ لكلِّ النّوارسِ والثُّوارِ

يا جِبالاً مُتّقدةً أحلاماً زَنْبَقِيَّةً

شعرية اللغة في قصيدة (العُبورُ إلى الْمِيلادِ) استل عنوانها عنوانا لديوانه

هذه القصيدة تجعل المعاني تدور في الكلمات مع الموسيقى وتذوب شوقا واشتياقا، فهي تناظر موسيقى البوليرو لروفائيل، فبكلمات متسلسلة متدفقة، حيوية ومتآلفة مع إيقاعية الجمل الموسيقية، تتشكل الصور لدى الشاعر منصور الشامسي بنشوة جمال حضورها الذي يعبر عن مقدرة الشاعر على خلق الحياة أولا وبقوة الشعر بنية العبور للميلاد وهو يحتضن مشاعره وأحاسيسه ويجسد روحه ونضوجه الإنساني بالكلمات ثانيا:

العُبورُ إلى الْمِيلادِ

مِنْ هُنا

مَرَّ رَبِيعٌ في جَوْقَةٍ مِنْ نَدَى

يُشَكِّلُ سِماتِ الْمَطِرِ القَادِمِ

مِنْ بَعِيدٍ هُوَ قَادِمٌ

مِنْ لا شَيْءَ يَصْدُقُ وَعْدَهُ

يَخْطُو كَالجِرَاحِ

يَحْضُرُ

يَرْقُبُ

يَنْظُرُ

يَدُقُّ الشُّرُفَاتِ والحَنَايا

عَلى عُيُونٍ أَلِقَةٍ

تَنْبُتُ فَيها شُعَلُ الغَمَامِ

فَلا سَبِيلَ إليَّ

حَبيبَتي لا سَبِيلَ

قَبْلَ الاتقَادِ

قَبْلَ التَّهَجِّي

قَبْلَ مَواسِمِ البِذارِ

ثم تشرق فكرته في القصيدة، فتلامس قلب المتلقي وحدسه مرسخا صيرورة الإبداع واكتشاف المدهشة عبر أعجوبة الكتابة على اعتبارها حلماً يتحقق، وعلى اعتبار الكتابة حياة أخرى لها روح الميلاد وعنفوان العبور:

مُدّي يَدَيْكِ إلى الحُلُمِ الذي

لا يَهْدَأُ

ذاكَ حُلُمِي

مُدِّيها هُناكَ كالشِّراعِ

إذ وظف الجمل الشعرية بانزياحات جمالية وإبداعية فجعلها تلعب دورا مزدوجا في آن، أولا الفكرة وثانيا احتواء الرتم، أو التنظيم الإيقاعي للكلمات، الذي يشبه النبر على فواصل زمنية متساوية، هو الخلفية النغمية للقصيدة، مبتكرا حالة من مستويات الأصوات والتآلفات المختلفة:

تُنْبِئُكِ

بأنّي عَشِقْتُ الْمَطَرَ

بأنّي ذَرَعْتُ الْمَسَافَةَ

مَا بَيْنَ

نَجْمَةٍ ونَجْمَةٍ

بأنَّ يَدَيَّ أيْنَعَ فِيهما

طَلْعٌ نَضِيدٌ

وألْفُ بِذْرَةٍ

لِحَصادٍ بَعِيدٍ

بَعِيدٍ

وهذا التأنق ينبئك عن شاعرية الشامسي الباكرة، لذا جاءت قصائده آسرة غنيّة باختلافها وتنوّعها وبعمقها الفكري وقوتها الانفعالية وجمالها، تشير إلى ما هو مدهش في علاقته بالوجدان الإنساني وبالجمال، الذي ينبع من ذاته ومؤيدا بخياله، فالشاعر في قصائده متمكن من أدواته، فهو يمتلك لغة شعرية تأثيرية فائقة التعبير بصيغة التكوين، وكأنه يحاول أن ينجز بأبعاد جمالية صورا شعرية مرادفة للموسيقى والتشكيل.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي