غسان كنفاني في «عائد إلى حيفا»: الإنسان قضية

2024-01-13

موسى إبراهيم أبو رياش

«عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني، رواية قصيرة (نوفيلا) لا تتعدى ثمانين صفحة، لكنها تقول الكثير، وما بين السطور الكثير أيضا، وتعد من روايات «أدب المقاومة» هذا المصطلح الذي أطلقه غسان كنفاني، على الأدب الذي يتحدث عن أوضاع فلسطين تحت الاحتلال، أو أي دولة تحت الاحتلال، ولا ريب في أن هذا الأدب سلاح مؤثر وفعال، له أربابه ومبدعوه، تماما كما للبندقية حاملوها وجنودها.

تتناول الرواية موضوعات كثيرة، منها: العمل المسلح كخيار وحيد للتحرير، خيبة الفلسطينيين في التحرير بعد مرور عقدين على الاحتلال، التهجير وظروف الهجرة الأولى، وذهول الناس، الانبهار بالمحتل، استيلاء المحتلين على بيوت وأرضي الفلسطينيين، قتل الفلسطينيين بدم بارد، الإنسان في قضيته وما يؤمن به وتربى عليه، وغيرها.

وملخص الرواية أن سعيد وزوجته صفية يعودان إلى حيفا بعد غياب عشرين عاما، أملا في العثور على طفلهما «خلدون» الذي تركاه في مهده قسرا، ويتجولان في شوارع حيفا، ويحسان بغرابة، ثم يدخلان بيتهما الذي تقطن فيه امرأة يهودية، وفي أثناء الحديث يعلمان أن طفلهما «خلدون» أصبح «دوف» وأنه جندي في جيش الاحتلال، ولا يشعر بأي انتماء لوالديه، بل يعنفهما على تركه ومغادرة حيفا، وعدم السعي لاسترداد حقهما بالقوة، ويقطع عليهما الطريق بأنه منتمٍ لدولة الاحتلال، ومؤمن بقضيتها، فغادرا وفي رأسيهما ألف سؤال وسؤال، وحسرات وآهات، ونكبة فوق نكبات.

وتتناول هذه المقالة ثلاثة موضوعات لها أهميتها ودلالتها وأبعادها يوم نُشرت الرواية عام 1970 وما زالت إلى يومنا هذا.

الإنسان قضية

في بيتهما الذي استولت عليه اليهودية، ينتظر سعيد وصفية عودة خلدون (دوف) من عمله، مع تخوف سعيد من الآتي؛ فخلدون لم يعد خلدون بعد أن ربوه وعلموه وشكلوه هم، وعرض على صفية أن يخرجوا، فقد سرقوه، ولا بد أنهم خدعوه، وأصبح منتميا لهم، لكن ثمة خيط من أمل أجلسهم إلى أن حضر ابنهما، فإذا هو جندي صهيوني، لم يكترث أنهما والداه، وينفي أي صلة بهما، ويقول لهما «إن الإنسان قضية» وأنه عرف أن والديه عربيان قبل ثلاث سنوات. ثم يقول: «بعد أن عرفت أنكما عربيان، كنت دائما أتساءل: كيف يستطيع الأب والأم أن يتركا ابنهما وهو في شهره الخامس ويهربان؟ وكيف يستطيع من هو ليس أمه وأباه أن يحتضناه ويربياه عشرين سنة؟ عشرين سنة؟» فيجيبه سعيد: «الإنسان في نهاية المطاف قضية، لكن أي قضية؟ إننا حين نقف مع الإنسان فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوزات السفر.. هل تستطيع أن تفهم ذلك؟».

حاكم دوف والديه، وأعلن بوضوح أنه ابن قضية تختلف عن قضيتهما، والإنسان بقضيته لا بجيناته أو بدمه، فهو عربي النسب، لكن تربى على يد دولة الاحتلال، التي علمته ودربته ووظفته، فأصبحت قضيتها قضيته، وعلم أصله بعد فوات الأوان، فقد تمت برمجته وتشكيله وفق قوالب دولة الاحتلال، بل معرفته بأصله زادته سخطا على والديه أن تركاه رضيعا وهربا خوفا وجبنا، ولم يسعيا للبحث عنه وإرجاعه طوال عشرين عاما.

دوف محق في أن «الإنسان قضية» لكن الفيصل في ذلك ما قاله أبوه سعيد «أي قضية؟». فلكل إنسان قضية، ومن كان بلا قضية فهو مجرد رقم صفري لا قيمة له. وقيمة الإنسان بقضيته، وشتان شتان بين قضية تسعى لإزالة الظلم وقضية تكرس الظلم. وشتان بين إنسان قضيته الحرية والعدالة، وآخر قضيته الجور والعدوان. نعم «الإنسان قضية»؛ ولا حصر للقضايا؛ فهناك المال والشهوات والأملاك والسلطة والحرية والعدالة والاستعباد والتسلط والعدوان والتجبر والقتل والتدمير وغيرها الكثير الكثير. والكيان الغاصب أعلن قضيته قبل إعلانه، وتلبسها كل أفراده، وتمثلت في القتل والتهجير والاغتصاب والظلم والعدوان ومحو الآخر وبث الرعب والاستيلاء على كل شيء، في مقابل قضية الإنسان الفلسطيني التي تسعى للتحرير وطرد المحتل وتحقيق العدالة والحياة الكريمة وإعادة الحقوق لأصحابها، والتمسك بالأرض والدفاع عنها بكل غالٍ ونفيس.

الحل العسكري

كان واضحا في ثنايا الرواية أن كنفاني يتبنى العمل العسكري طريقا للتحرير، ولا طريق سواه، فما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة. فعندما يطرق سعيد وصفية باب بيتهما في حيفا، وبعد أن عرفت اليهودية أنهما صاحبا البيت قبل الاحتلال، يقول لها سعيد بعفوية: «طبعا نحن لم نجئ لنقول لك أخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب..» فتسكته صفية. في تأكيد أنه لا يفكر أو يتصور حلا غير الحرب لاستعادة بيتهما، ولا يتردد في أن يصرح بذلك لليهودية وهو في بيتها/بيتهم، فلا مهادنة مع الغاصب ولا مجاملة ولا اعتراف له بأي حق.

يصفع دوف (خلدون) والده بقوة، ويتهمه والفلسطينيين بالعجز وعدم بذل الجهد لاسترداد الأرض، يقول: «كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة… وهذا ليس مستحيلا، لقد مضت عشرون سنة، ماذا فعلت لتسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا. أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بسلاسل ثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون! الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود.. ولقد أمضيت عشرين سنة تبكي؟ أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك التافه المفلول؟!». جاءت الحقيقة على لسان العدو، حقيقة كلطمة، تكشف عوار العرب وضعفهم وجبنهم، فأي عذر يشفع لهم ضياع عشرين عاما دون محاولة واحدة للتحرير؟! وضاعت عشرون وعشرون بعدها، ولا ندري ما سيقول غسان كنفاني لو قُدِّرَ له أن يعيش إلى يومنا هذا؟

إزاء هذا الموقف من دوف (خلدون) ورفضه الاعتراف بوالديه، استرجع سعيد نفسه وموقفه من ابنه خالد، الذي حاول أن يلتحق بالفدائيين، إلا أنه منعه بقوة، وشدد عليه. فراجع قراره بعد أن رأى تمسك دوف بقضية ظالمة ودفاعه عنها والقتال في سبيلها، فما باله يقف في وجه خالد الذي يسعى لتحرير الأرض واسترداد الحق، يقول سعيد لصفية: «عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور، وهم إنما ينظرون للمستقبل، ولذلك هم يصححون أخطاءنا، وأخطاء العالم كله.. إن دوف هو عارنا، لكن خالد هو شرفنا الباقي» ولذا كان يأمل أن يستغل خالد فرصة غيابهما ويلتحق بالفدائيين، يقول لزوجته وهو على مشارف رام الله: «أرجو أن يكون خالد قد ذهب.. أثناء غيابنا!» فلا عذر لسعيد ولا حق له أن يمنع خالد، فابنه الأول يدافع عن محتل غاصب، ومن العار أن يمنع ابنه الثاني؛ صاحب الحق، من أن يقاتل لدفع المحتل، واستعادة الكرامة وتحرير الأرض.

الانبهار

بعد هزيمة 1967 سمح العدو بالتنقل في الأراضي المحتلة 1948، في إجراء غير معهود أو متوقع، ويفسر سعيد ذلك لصفية بأن العدو لم يفتح الحدود لسواد عيون المهجرين، بل ليقول لنا «تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقيا. عليكم أن تقبلوا أن تكونوا خدما لنا، معجبين بنا.. لكن رأيتِ بنفسكِ، لم يتغير شيء.. كان بوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير.. لا أريد الذهاب إلى حيفا، إن ذلك ذل، وهو إن كان ذلا واحدا لأهل حيفا، فبالنسبة لي ولك هو ذلان، لماذا نعذب أنفسنا». ويبدو أن الفلسطينيين لم يقعوا في فخ الانبهار بما رأوه من تغيير، وعادوا خائبين، أو هكذا يأمل غسان كنفاني. إن العدو الغاصب سعى منذ يومه الأول لإحداث نقلة نوعية على كل مستوى، ليظهر نفسه أنه الأحق بفلسطين والأجدر بها، وأن كيانه هو الأفضل والأجمل في المنطقة، وأن شعبه الأكثر رفاهية ومدنية، وأنه واحة الديمقراطية والعلم والحضارة والعدالة في منطقة يسودها التخلف والتشتت والظلم والاستبداد، وقد انطلت هذه المزاعم على كثيرين، فسارعوا إلى مصافحة العدو والتطبيع معه والاستعانة به والاستخذاء له.

إن الانبهار بإنجازات العدو وتقدمه هزيمة نفسية، وعبودية لا شك فيها، وتبعية ذليلة، ويجب أن لا يُنسى لحظة واحدة أن هذا العدو مغتصب للأرض الفلسطينية وثرواتها وحقوقها، وقاتل لأهلها أو مشردهم أو معتقلهم، وأن المعتدي المحتل لا يمكن أن يكون متميزا إلا بالشر وسفك الدماء وغصب الحقوق، وإذا انعدمت إنسانيته وعدالته، فقد انعدمت بالضرورة كل ميزة أو إيجابية له؛ لأنها قامت على غير وجه حق، وعلى حساب الآخرين الذي صادر حقهم في الوجود.

الانبهار بالعدو ذل وعار لا يستقيم مع الكرامة والشرف، ولا ينبهر إلا ضعيف أجوف، إنسان بلا قضية، أو إنسان قضيته شهواته ورغباته وذاته وإن كان مستعبدا.

كاتب فلسطيني/ أردني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي