معين بسيسو وأحمد سوسة في غزّة

2024-01-12

صبحي حديدي

ثمة وقائع ذات خصوصيات عالية، نوعية وفاصلة وجديرة بالصفة التاريخية، تحيل إلى كتابات قد لا تنطوي في ذاتها على صلة مباشرة بالوقائع؛ من طراز ما تفعله جرائم الحرب الإسرائيلية الراهنة ضدّ المدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة، وما تحثّ عليه عذابات الفلسطينيين التي تتعاظم وتتضاعف بمعدّل الدقيقة الواحدة، وليس الساعة أو اليوم أو الأسبوع، تحت وطأة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتجويع والتشريد والتخريب والتدمير والنهب وشتى الانتهاكات.

قد يعكف المرء، مثلاً، على إعادة قراءة الشاعر الفلسطيني الغزاوي معين بسيسو (1926-1984)، منساقاً إلى حماسة فاتحة بطولية مثل هذه: «أنا إنْ سقطتُ فخذْ مكاني يا رفيقي في السلاح/ وانظرْ إلى شفتيّ أطبقتا على هوج الرياح/ أنا لم أمتْ! أنا لم أزلْ أدعوك من خلف الجراح». أو تلك التي تفلسف فكرة المقاومة، على منوال الجهر بالحقيقة: «الصمت موت/ قلها ومتْ/ فالقول ليس ما يقوله السلطان والأمير/ وليس تلك الضحكة التي يبيعها المهرج الكبير للمهرج الصغير/ فأنت إنْ نطقت مت/ وأنت إن سكتّ مت/ قُلْها ومت»؛ أو هذا النداء إلى مسقط الرأس الطروادي: «غزّتي أنا لم يصدأ دمي في الظلمات/ فدمي النيران في قشّ الغزاة/ وشرارات دمي في الريح طارت كلمات/ كعصافيرك يا قوس قزح»….

ولعلّ المرء المحال إلى هذه النماذج سوف يتخفف من اعتبارات نقدية وجمالية شتى قد تُساق لتخفيض القيمة الفنية للخيارات التي حرّكت ذلك النمط من الانحياز الجارف لصالح المؤثرات المعنوية والأخلاقية على حساب الشعر والشعرية. وليس هذا بسبب من السياقات التاريخية التي حكمت ولادة هذه الميول، التعبوية والتحريضية لمَن يشاء توصيفها هكذا، فحسب؛ بل كذلك وأوّلاً على الأرجح، لأنّ للعذاب البشري طابع استعادة ما سبق، بعيداً عن الإيحاء بالمكرر والرتيب، وأقرب إلى إضفاء التنويع (الصاعق أحياناً، والمباغت ربما) على المضاف السالف.

ونموذج بسيسو هو «سيرة الانتقال المعاكس للبطل التراجيدي من النص إلى الواقع» حسب توصيف محمود درويش؛ وهو «مَنْ يقوى على مواصلة حلم مسيّج ببنادق الأعداء، الذين تعددت أسماؤهم واختلطت لتعمّق حاسّة الفلسطيني بأنه وحيد على هذه الأرض، وحيد مع الأرض الوحيدة مع ذاتها». وإنه، عند درويش دائماً، «يمثل هذه الصلابة الخارقة، صلابة الحلم في جسد يمزقه الرصاص من كل جهة ونظام»؛ ذاك الذي كان يدرك أنه «يدور حول غزّة، مجموعته الشمسية الخاصة، التي تمثل ملكية أحلامه الخاصة وذكرياته الخصوصية، ولا ترتخي قبضة يده الممسكة بجمرة الحلم. وكان يؤمن بأن للقصيدة طاقة الملموس الفاعل».

من العراق، ولكن ليس بعيداً تماماً عن حضور غزّة في وقائعها ورموزها وأساطيرها، قد تحيل حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة إلى المؤرّخ والعلامة العراقي الكبير أحمد نسيم سوسة (1900 ـ 1982)؛ الذي كان، ويظلّ حتى إشعار آخر، في عداد أمهر الباحثين في تعرية الروايات الصهيونية عن تاريخ اليهود، في العراق وفلسطين بصفة خاصة. يُشار أيضاً إلى أنه كان، في الأصل، وليد أسرة يهودية عراقية من مدينة الحلة، واختار اعتناق الإسلام بعدئذ؛ وكتابه «في طريقي إلى الإسلام» لا يفسّر اهتداءه ذاك على أيّ نحو تقليدي، ولا ينزلق إلى أية مفاضلة مقارنة بين الأديان التوحيدية. لقد ساق سلسلة أسباب فلسفية وفكرية وتاريخية، قبل الاعتبارات الروحية، كانت وراء انشداده إلى الإسلام؛ منذ دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت، مروراً باستكمال دراساته العليا في جامعتَيْ كولورادو وجونز هوبكنز الأمريكيتين.

عمله حول تاريخ اليهود كان إنجازه الأكبر، وخاصة كتابه الموسوعي الضخم «العرب واليهود في التاريخ: حقائق تاريخية تظهرها المكتشفات الأثرية»؛ الذي يصلح اليوم وثيقة سجال عميقة ضد تخرصات القوى الصهيونية الدينية المتطرفة داخل ائتلاف بنيامين نتنياهو الحاكم وخارجه، بصدد هلوسات الإحلال والتهجير والتطهير العرقي. ولقد أعاد سوسة طرح معلومات تاريخية ليست معروفة حول تاريخ فلسطين القديم قبل ظهور بني إسرائيل، فأوضح أنّه لم يكن إلا حدثاً متأخراً بالنسبة إلى تاريخ الأقوام السامية العربية التي سبقتهم في استيطان فلسطين وبلاد الشام وكوّنت فيها حضارة البلد التاريخية، وكان بنو إسرائيل دخلاء عليها وعاشوا في كنفها فاقتبسوا منها مقومات ثقافتهم. فصول ذلك العمل الفريد تتناول الهجرات الرئيسية إلى الهلال الخصيب (فلسطين وسوريا والعراق ومصر)، وجزيرة العرب بوصفها مهد الحضارات السامية، والتوراة والديانة اليهودية، والتوراة في ضوء المكتشفات الآثارية، وعصر إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وعصر النبي موسى والتوحيد؛ وصولاً إلى يهود العالم وزحفهم إلى فلسطين، ثمّ دور الصهيونية والاستعمار في خلق إسرائيل…

والصلات بين النصّ الشعري والوقائع التاريخية ليست في المقابل منقطعة لدى هذه أو تلك من تيارات الأسطرة الصهيونية لـ»الحقّ» اليهودي في فلسطين التاريخية؛ بل يجري عادة، وعلى ألسنة صهاينة ساسة أو جنرالات أو فلاسفة، اعتبار علم الآثار الإسرائيلي بمثابة تنقيب يبرهن أنّ لحاضر الاحتلال سوابق تاريخية وأركيولوجية، يتوجب عندهم أن تسبغ طرازاً من «الشَعْرَنة» على الكيبوتز مثل المستوطنة.

فكيف، والحال هذه، لا يحضر اليوم أمثال بسيسو وسوسة في جباليا والشجاعية ودير البلح و… شارع صلاح الدين!








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي