مالدولة والمجتمع في مصر الحديثة: رؤية مختلفة للوضع الراهن

2024-01-11

محمد عبد الرحيم

«وراء الثروات الكبرى جرائم كبرى»

(بلزاك)

الكثير من المؤلفات العربية والغربية تناولت الشأن المصري وتطورات النظام السياسي والاقتصادي، والاجتماعي بالضرورة. وإن جاءت أغلب المؤلفات العربية من منطلق تنظير أيديولوجي، سواء كان مؤيدا أو معارضا لرؤية تبنتها حقبة ما، إلا أن العديد من المؤلفات الغربية جاء في شكل تنظيرات مقارنة مع تجارب سياسية في دول أخرى وأنظمة حُكم مختلفة تكاد تتقارب وتنظيم الهيكل السياسي المصري وبالتبعية مؤسساته المختلفة.

ومؤخراً صدر كتاب بعنوان «الدولة والمجتمع في مصر الحديثة .. رد اعتبار وإعادة نظر» للباحثين عمرو عادلي وناثان براون. عن دار المرايا للثقافة والفنون في القاهرة 2023. ذلك ـ حسبهما ـ إعادة رسم خريطة المفاهيم والأطر النظرية التي غلبت على فهم مصر الحديثة بشكل شامل ونقدي.

رؤية مختلفة

يبدأ المؤلفان بتوضيح فكرة الكتاب/البحث، وكونه بحثاً بالأساس، وتم تحويله إلى كتاب تسهل قراءته بعيداً عن البحث النظري المثقل بالمصطلحات والمفاهيم الأكاديمية، ولكن ربما المحاولة الدؤوبة لنفي الشكل الأكاديمي أثقلت بدورها العمل ـ دون وعي ـ بالكثير من الإطناب والتكرار غير المُبرر.

المهم.. يتأسس العمل على أمرين، أولهما أن الدولة الحديثة في مصر لم تنشأ بفعل فاعل واحد صاحب خطة ورؤية، سواء تمثلت في زعامة جمال عبد الناصر، أو في دهاء السادات، أو في رتابة مبارك. بل يُنظر إلى الدولة بمؤسساتها العريضة ذات التاريخ الطويل، وبالتالي النظر إلى هذه المؤسسات بما يجاوز الفرد، الذي دأب المتخصصون والعامة على نسب المراحل والمؤسسات إليهم. الأمر الثاني هو الفصل بين مفهومي الدولة والنظام السياسي، في محاولة لتبين أشكال الاستمرار في السلطة السياسية ممثلة في أجهزة الدولة، التي يمكن تتبع جذورها إلى مطلع القرن التاسع عشر.

الدولة والسلطة

«تصف قصة مصر منحنىً من التغيّر البطيء.. سيطرة متصاعدة للدولة متبوعة بتراجع متفاوت الدرجة، واستبداد متزايد تشتد ضراوته كي يظل محتفظاً بمكانه في مواجهة مجتمع مضطرب أحياناً». فرّق الكتاب/البحث بين الدولة والنظام الحاكم، أي ما بين المؤسسات وسلطة رأس الدولة، وتراوحت هذه التفرقة من حاكم لآخر ـ تفاوت في الدرجة ـ ففي فترة حكم مبارك (1981 ــ 2011) كان كبار المسؤولين في الرئاسة والحزب والأجهزة الأمنية يتحكمون في إدارة الوضع بصورة عامة، على حين سيطر موالون للنظام على العديد من مؤسسات الدولة (الدين والقضاء والتعليم العالي)، ولكن رغم ذلك كانت هناك استقلالية بدرجة ما لهذه المؤسسات، على خلاف التداخل التام في ظل حكم جمال عبد الناصر، أو صدام حسين أو ماو تسي تونغ على سبيل المثال. ورغم أن النظر إلى السياسة السلطوية على أنها استعراض الرجل الوحيد أو المجموعة الحاكمة لا يخلو من صحة، لكنه قد لا يعكس بدقة العلاقة الأوسع بين الدولة والنظام.

الرئاسة والنظام والدولة

يرى المؤلفان أن الأنظمة لا تبني هياكل الدولة من الصفر، بل تستكمل عليها وفق أهدافها أو رؤيتها. فالنظام القضائي المصري، على سبيل المثال يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر، أما مؤسسة الرئاسة المركزية فيعود تاريخها إلى منتصف القرن العشرين، وتتراوح سيطرة النظام من حين لآخر على هذه المؤسسة، باستصدار أحكام لصالحه، أو أحكام مخالفة لإرادته في بعض الأحيان. من ناحية أخرى نجد أن الحالة المصرية تضاهي مثيلاتها كالنظم التي تأسست جنوب أوروبا في منتصف القرن العشرين ـ البرتغال منذ الثلاثينيات وحتى السبعينيات ـ والتي كانت سلطوية، ولكنها لم تسيطر على كل شيء، كترك مؤسسة كالقضاء مثلاً بترتيب شؤونها الخاصة، طالما ظلت موالية للنظام بشكل عام، دون تفصيلات أو ترتيبات هذه المؤسسة.

هذه السلطوية كما في الحالة المصرية وإن كانت تبنت النموذج الأوروبي، إلا أنها تبنته في شكل المزيج ما بين شكل استعماري، أو نموذج يُحتذى به، فالأمر يرتبط أكثر بالتأثير في التشكيل وليس التأسيس، لذا فالدولة المصرية ليست وليدة إرادة قوى خارجية كالعديد من الدول غيرها.

وكأنها نتاج إرادة واحدة

غالباً ما تبدأ الإشارة لمصر الحديثة بداية من الحملة الفرنسية 1798، أو وصول محمد علي إلى السلطة 1805، أو الاحتلال البريطاني 1882، وإن كانت هناك أهمية لهذه الأحداث، إلا أن بناء الدولة تم بصورة متدرجة. فالإنجاز الشخصي ـ حالة محمد علي ـ لم يكن إلا نتاجاً لظروف إقليمية ومحلية، ووفق هذا السياق أدار حكام مصر جهاز الدولة وبالتبعية تطوراته. ومن التماهي بين الأجهزة والنظام كما في حالة عبد الناصر، إلى فترتي السادات ومبارك كان التأثير الإجمالي لإعادة هيكلة الدولة هو ظهور جهاز دولة ضخم مترامي الأطراف، ولكنه أقل مركزية بكثير من فترة الستينيات، تمثل ذلك في مؤسسات مثل .. استقلال محدود للقضاء الإداري، وظهور محكمة دستورية قوية، ولكن كل ذلك وفق الخط العام للنظام. وتكمن إشارة مهمة في الرأي التالي.. فالهياكل القيادية في الدولة اكتشفت أن لديها إرادة مستقلة، وأحجمت عن حماية الرئاسة ـ وقت ثورة يناير/كانون الثاني ـ فالهتاف بأن «الشعب يريد إسقاط النظام» كانت أقوى نتائجه تتمثل في رحيل مبارك، لكن مؤسسات الدولة التي أظهرت بعض الاستقلالية لم يصبها ضرر يُذكر.

النسق الاقتصادي المصري

يُطلق المؤلفان على هذا النسق مُسمى.. (سوق الهابيتوس) وهو مصطلح يعود لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، فالفرد تعود وجهة نظره إلى نشأته وعائلته وكيفية الاتفاق أو الاختلاف مع الواقع، بمعنى إعادة إنتاج هذه العلاقات واتحادها وتكوين رأسمال اجتماعي وثقافي يوجه مسألة رأس المال في السوق ـ عادة إنتاج الوضع الأُسري ـ وهو ما تتميز به مصر، وهو ما يتجلى في توريث المهن، وعلاقات موظفي المؤسسات في تكوين عملهم الخاص، القضاة ورؤساء البنوك وما شابه، ورجال الصناعة وعائلاتهم بشكل خاص بالطبع. ومنه لا يمكن تطبيق النيوليبرالة وتجلياتها المتمثلة في الاقتصاد الحر بشكل عادل ـ العدالة هنا تخضع لمؤسسات الدولة خاصة القضاء والقوانين الخاصة بالضرائب ـ ذلك في ظل المحسوبية والرشوة والفساد بشكل عام، وهو ما يميز الاقتصاد المصري، رغم تغيّر وتباين أنظمة الحُكم التي توالت على مصر، منذ نظام الالتزام أيام محمد علي، وحتى الآن.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي