أسعد عطا الله: الذاكرة الوطنية في الزجل الفلسطيني

2024-01-02

محمود منير

في بداية عام 1920، خرجت أُولى المظاهرات في مدينة القدس، شارك فيها الآلاف ضد البريطانيين والهجرات اليهودية، حيث هتف المتظاهرون بشعارات تحمل إيقاعها المستمدّ من التراث الغنائي في فلسطين وبلاد الشام، لتظهر منذ عشرينيات القرن الماضي نماذج لأغنية شعبية ترفض الاستعمار البريطاني ووعد بلفور.

ضمن المشهد المتنوع لهذه الأغنية، الموّال والأهازيج والتراويد والشروقي والحداء، برز اسم أسعد يوسف عطا الله (1900  - 1950)، الذي نشر كتاباً يحتوي قصائده الزجلية بعنوان "نشأ الفنّ في أقوال العتابا" عن "مطبعة النجاح" في عكّا سنة 1930، لم يُعثر على أيّ نسخة منه، رغم إشارة العديد من الباحثين إليه ووجود شهادات موثّقة لبعض معاصريه تؤكّد وجوده.

في النسخة المحقّقة من الديوان التي قدّمها ودققها وشرحها، وصدرت عن "العائدون للنشر" في عمّان، يلفت الباحث الفلسطيني محمود كيال إلى أنّ السلطات الإسرائيلية قامت بإبادة آلاف الكتب الفلسطينية بعد النكبة بهدف شلّ الحياة الثقافية الوطنية الفلسطينية وشرذمتها، مضيفاً: "لكن مع تكرار التلميحات والإشارات والتأكيدات حول وجود هذا الديوان، فقد عقدت العزم على الوصول إليه. إلا أنني لم أعثر على ضالّتي لدى أحد أبناء القرية، وإنما في 'المكتبة الوطنية الإسرائيلية'، التي ما زالت تحتفظ بنسخة واحدة منه، لم يطّلع عليها، كما يبدو، إلّا القلائل".

الكتاب الذي جاء إصداره بهدف المحافظة على الموروث الشعبي الشفوي، وعلى المكتبة الأدبية الفلسطينية قبل النكبة، بحسب التقديم، يضيء جانباً مهمّاً من السياق الاجتماعي والثقافي، والعديد من الأحداث التي وقعت خلال العشرينيات في فلسطين، وشمالها خصوصاً.

يبيّن كيال أن عطا الله الذي وُلد في قرية البروة بالقرب من حيفا لأسرة فلسطينية مسيحية أرثوذكسية، يُعدّ من أبرز الحُداة الشعبيّين في تلك الفترة، ومن بينهم حسين خطّاب من سخنين، سعيد العلي من دير الأسد، وأحمد العميّا من الطيرة قضاء حيفا، وشارك في المناسبات والأعياد، ومنها مهرجان عيد المولد النبوي في عكّا، كما كان يبارز بعض شعراء الزجل اللبنانيّين.

تحضر عكّا في العديد من قصائده، التي تداول أهلها وأهل القرى المحيطة بها بعض أبياتها حتى اليوم، ومنها بيت نقله كيال عن جدّه، ويبدو أنه نُظم قبل دخول العصابات الصهيونية المدينة في السادس عشر من أيار/ مايو 1948، حيث يقول عطا الله: "العَجِين بِمَعْجَنُه بِنعُك عكّا/ وعَلَى طُولِ الزَّمَان تعِيش عَكَّا /وعَكِّينَا الخَصِم أَلْفِين عكّا/ ونَابِلْيُون تحَدَّى وخَاب".

كما يُنقل عن امرأة حفظت له بيت عتابا يعبّر فيه الشاعر عن أساه وحزنه لفراق قريته ولغربته وتشرده، شاكياً من ظلم الدهر وقسوته، ومتمنياً أن "يعفّر" وجهه بتراب بلاده قبل أن يوضع في الكفن، يقول: "كَفَانِي قَهِر يَا دُنْيَا كَفَانِي/ دَعُونِي قَبِل مَا أَلْبِس كفَانِي/ ظَلَمْنِي الدَّهِر وعَاوِجْهِي كَفَانِي/ دَعُونِي تَأَعَفِّر وَجْهِي بِالتّرَاب".

ويشير التقديم إلى أنّ عطا الله حاول إبهار القارئ والسّامع بمتانة لغته ورصانتها، ولهذا طعّم نَصَّه بالمفردات الفصيحة، بل حتى الكلاسيكية وغريب الكلام، وتتنوّع مواضيع قصائده بين الغزَل والعتاب والفراق والفخر والحماسة والشِعر الوطني، وقد انتهى من نظمها في العشرين من آب/ أغسطس 1930، كما يوثّق في خاتمة الديوان، مع إشارة إلى أنّه سيصدر كتاباً آخر بعنوان "محيط الفنّ"، إلا أنه لم بر النور غالباً، وفق كيّال.

في الفصل الخامس، الذي سمّاه "في قصيدة المرحوم المأسوف عليه شهيد الوطن السيد فؤاد أفندي احجازي [حجازي] من صفد وتحليلها عتابا"، يخلّد عطا الله ذكرى الشهيد ورفيقيه محمد جمجوم وعطا الزير الذين أعدمتهم حكومة الاستعمار البريطاني يوم الثلاثاء 17 حزيران/ يونيو 1930 في أعقاب أحداث "ثورة البراق" عام 1929.

قصيدة العتابا هذه كُتبت على شكل معارضة لقصيدة "يا ظلام السجن" التي تُنسب إلى نجيب الريس، وتفتتح بقوله: "خَيِّم يَا ظَلَامَ القَبِر أَنَّا/ لَمَّا الحُكُم عَالشُّهَدَاء أَنّا/ نَهْوَى لَلظَّلَام ابْكُل أَنَّا/ قَامِ النَّحِب فِي ارْكَانِ العَرَب"، ويرد فيها أيضاً "تُرْبَة وَطَنَّا تُرْوى بِدَمْنَا/ خُزَام اتْفُوح وِالنَّاشِق بِدِمْنَا/ رَأَيْنَا مِثِل مَكْتُوبًا بِدِمْنَا/ وِكْلِيلِةِ الشَّآم لَرْجَالِ العَرَب".

القصيدة هي واحدة من تسع قصائد ضمّها الديوان، كما يوضّح كيال، حيث القصائد الثلاث الأُولى جمعت بين العتابا والميجنا، وتتعدّد مضامينها بين عتاب الدهر والغزل، والرابعة في عتاب المحبوب، والسادسة في الحماسة والفخر بالشجاعة والأخلاق، والسابعة في الافتخار بقريته وأهلها، والثامنة في التفجّع والبكاء على فراق الأحبة، والتاسعة في الحكمة والموعظة، إلى جانب القصيدة التي رثى فيها شهداء الثلاثاء الحمراء.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي