البناء الفنتازي والواقعية السردية في رواية بنات غائب طعمة فرمان

2023-12-31

علي لفتة سعيد

لم يأتِ عنوان رواية الروائي خضير فليح الزيدي «بنات غائب طعمة فرمان» بوصفه بوابة الدخول إلى مدينة الرواية، بل جاء هنا بوصفه نصا يحمل نصا آخر. فهو يفتح للمتلقي عدة أبوابٍ من أجل أن يمد رأسه من كل باب، ليطلع على المعاني المخبوءة بين طياته، مثلما يطرح الأسئلة عن علاقة (بنات) الروائي العراقي، الذي يعد واحدا من رواد السردية العراقية، به شخصيا؟ وهل سيقرأ رواية سيرةٍ عن حياة هذا الروائي، أم الحديث عن بناته؟ ربما هناك أسئلةٌ أخرى، لكن الزيدي كان منتجا فطنا في اختيار العنوان، وجعله اللعبة الأولى له في العملية التدوينية، لأن العنوان يشكل هنا نصا متداخلا وليس ثريا، أو عتبة ولم يكن بابا واحدا. فالعنوان هنا أس اللعبة، وفيه تقع كل خطط التدوين ومهارته وصعوباته ورؤية بعض المنخفضات فيه والارتفاعات السردية. فهو إسقاطٌ أولي لروح الفكرة والحكاية. وهنا أراد الزيدي كمنتج رواية أن يساوق ويساوي بين الفكرة والحكاية، مثلما يجعل من المتن السردي غير متصاعدٍ أفقيا ولا عموديا، بل جعله في حالة تناوبٍ بين لقطة وأخرى، وحتى داخل اللقطة الواحدة أو المشهد الواحد لحركة الروي مرة، ولحركة المروي عنه مرة أخرى. لذا فإن العنوان هنا يشكل المنطقة الدائرية التي تدور حوله الجزيئيات الكلية، ليكون أينما يولي القارئ والمتلقي وجهه ثمة غائبٌ في الحركة.

المستويات والحركة السردية

كل رواية لها سرها التدويني، لذا فإن كل روائي له طريقته في اختيار المستويات التي تناسب الحكاية والفكرة معا، لكي يطرح إنتاجه بفاعليةٍ تحمل معها الفعل الكامل النهائي. ولأن هذه الرواية تمازج بين الواقعي جدا والخيالي البعيد في التوصيف أو المزج بينهما في الفعل الفنتازي، كان لزاما على الزيدي أن يعطي مفعول المستويات القدرة على إنتاج متنٍ سردي، وبالتالي مبنى حكائي، مثلما عليه أن يعطي المستوى السردي مفعول المناوبة بين الاثنين، لكيلا يفلت مه خيط السردية، وهو الأهم، لأنه يريد أن يكون خياطا لهذه المعادلة. ولهذا فان المستويات التي اعتلت منصة التدوين وكانت ظاهرة، قد اتخذت من عدة نقاطٍ هدفا لها لإدارة المستويات السردية:

المستوى الإخباري

لكونه يتناول الصراع والفعل الدرامي من خلال لغة المفارقة بين الواقعي والتغريبي، وقد بدأها منذ الصفحات الأولى حين جعل اليافطة وحضور مجلس الفاتحة أولى علامات هذا المستوى التفاعلي المتمازج بين الحركتين، لذا كان الاستهلال أداة التوصيل، مثلما كان فعل الترغيب في المتابعة:

(على حائط المسجد عُلقت لافتة قماش سوداء، خُط عليها: «يشارك أبطال الروايات العربية أبناء عمومتهم من أبطال الروايات العراقية الثماني في هذا المصاب الجلل لموت مؤلفها غائب طعمة فرمان، سائلين المولى المغفرة والرحمة لروح الفقيد).

المستوى التصويري

لكونه الفعل المرافق للمستوى الإخباري، فهو يخبر ويصور معا الحالة التي تناقش المتن ويفككه، بهدف إعطاء خاصية التقريب بين الصورة الذهنية التي يستحصلها المتلقي من خلال الفنتازيا في المتن، والواقعية التي يأتي بها المروي عنه والبطل الرئيس والشخصية المحورية:

(حال هبوط الطائرة وتوقف هدير محركاتها، يُشغل المشهد بذاته، لإكمال رسم خيوط دخانٍ رمادية تتصاعد خلف المطار. ومن عادات الطبيعة أن ترسم لوحتها عند ساعة الفجر الأولى، ببراءة الأدباء المخمورين والمخذولين من فكرة العدم، في صباحات بغداد).

المستوى التحليلي

يأتي مع كل عملية مرافقة للمستويين السابقين، وهو المستوى الذي يأتي عن طريق الراوي العليم، الذي يجعل من المتن السردي ما يشبه منح الصورة السينمائية تارة، أو الصورة المخيالية تارة أخرى، وهو مستوى أيضا يعطي الحرية لتبيان أن الراوي العليم هو الذي يأخذ بزمام الأمور: (والمعروف عن السيد جبر الشوك أنه شيطان رجيم، قصير القامة، حليق اللحية، يرتدي عادة بذلة كحلية ويحمل حقيبة دبلوماسية سوداء، تخفي في داخلها أسرار الناس. وها قد وجد ضالته لإتمام مخططاته وتحقيق أطماعه التي لا تقف عند حاجز تقدمه في العمر).

المستوى القصدي

وهو الذي يقع على عاتق المتلقي لمعرفة نوايا المنتج في اختيار الحكاية وفكرتها والعنوان وأثره والفعل الكلي من عودة البطل الغائب إلى العراق بعد سنوات الغربة، وما يصادفه من صراعات أعطت للثيمة الحكائية بعدها الواقعي، مثلما أعطت للبعد الفنتازي قيمته السردية: (التفكير بمكر طبع طارئ على هاني بارت. حتمته أشياء كثيرة، يمكن اختزالها في «الحياة». أما هو فيختزلها في «الواقع». فالحياة عنده تنتهي بمجرد أن يكبرَ المرء، ويفقدَ طفولته. في تلك اللحظة يبدأ السرد).

النقطة الخامسة: المستوى التأويلي، وهو هنا ليس فقط مع الشخصية المحورية، بل مع الشخصيات الأخرى، التي تجعل تلك الشخصية لها فعل الوجود والأهمية. بمعنى لولا وجود هذه الشخصيات لما كان للرواية دور، وليس فقط بنات البطل المحوري وأفكاره ورواياته التي جاءت ضمن المتن الفنتازي: (كان من عادات دلال البيرقدار أن تزخرف لغتها العربية ببضع مفردات إنكليزية منتقاةٍ من القاموس المعاصر تنطقها بنبرةٍ عربية ولثغةٍ، وُحتى الراء تحولها إلى غين، فيزيدها ذلك سحرا على سحرٍ).

المستوى القصدي

وهو المخبوء في الحوارات وهو مستوى أراده أن يكون مرادا له، بهدفية القول، والبعد الفني الذي يجب أن يطفح إلى السطح الكلي كوجهة نظر، لكنها تأتي على لسان الشخصيات، وهو حوار سياسي في الكثير من مفاصله: ( أشششش. أتُصدق أن ضابط الجوازات لا يعرف شيئا عن رواية «النخلة والجيران»؟ تصور! هل هذه بغداد فعلا أم ركام ذكريات في رأس مقطوع؟

حاج، أشربت شيئا ما في الطائرة؟).

التقطيع ولغة الروي

لأن الرواية حافلةٌ بالشخوص الواقعيين حد النخاع، ولأنها تصور مقطعا سياسيا واجتماعيا وعلاقاتيا وثقافيا وسلوكيا، حيث يراقب السارد كل شيء، ويوضح كل شيء، بما فيها حركة سواق في المطار والانفعالات في الحياة، والمأتم والانتقال إلى الخارج في عملية تفاضلية أو مقارناتية، فإن اللغة كانت هنا مواكبة للحدث، مسيطرا عليها الراوي العليم، فكانت حركة الروي قد اتخذت سبلا عديدة من أجل قيادة الفعل التدويني:

– التقطيع لجعل المتن السردي عبارة عن فصولٍ غير متصاعدة، لها القدرة على التناوب والاختيار والعودة والتقدم من خلال 26 مقطعا، وكل مقطعٍ له عنوانٌ لم يجعله متشابها على طريقة السجع أو الجملة القصيرة أو نصا نثريا مثلا، بل بما يعطي وصفا لما ستتم قراءته، فهو بين جملة (من تراب) إلى جملة (تحقيق) تقع المقاطع الأخرى بين ثلاث كلمات وأربعة، أو جملةٍ سرديةٍ كاملة («سماء ملبدة بالغبار» تصحبها – بمشيئة الله – زخات شوق جارف) .

– السبيل الثاني وهو المرتبط بالسبيل الأول. من خلال الاعتماد على طريقة تقسم الأدوار، بين الشخصيات والروائي الذي ينيب عنه الراوي العليم. وقد جعل لكل قسمٍ طريقة ليست أسلوبية أو مغادرة مزج الواقعي بالفنتازي فحسب، بل من خلال تفعيل دور الصراع لتصاعد الحكاية، ولذا فإنه جعل القسم الأول الذي بدأت به الرواية على أنه لم يكن بداية الحكاية ـ بل ربما جاء بها من ثلثها الثاني، ليعود إلى الثلثين الأول والثالث. وقد جاء القسم الأول كاشفا لمضمون الدلالة والدليل والأدلة معا، والتي ترتبط بالعنوان، كبوابة الدخول إلى المدينة مع الإهداء والمقدمة اللتين سبقتا الاستهلال.

– الاعتماد على راوٍ عليم ليفتح ما يريد من مغاليق الصراع في الحكاية، ويأتي بما يحتاجه من معلومات ترتبط بالأصل الواقعي، وينتقل بين ما يشاء بين الأحداث، ويتحرك أيضا بطريقة الإخبار السردي، ويتابع كل الحركات وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة وينوه بالأفعال وردود الأفعال: (وحين خرج غائب من البوابة نسيَ أن يعب كمية كبيرة من هواء بغداد، وفقا لما نواه وهو في الطائرة، ونسي كذلك كل ما خطط له قُبيل السفر، كشم عبق التراب البغدادي والتغزل بالشمس البغدادية الحارقة. فالذكريات عند المسنين أكثر رسوخا من الأفكار والقرارات المرتبطة بحياتهم الراهنة. وفوق ذلك، فقد كان مشغولا بحالته الرثة، بالأخص منذ شم رائحة بقايا البول على سرواله).

– ممارسة التحليل للمشهد الواحد وإعطاء القدرة على منح المعلومة التي ترتبط بالواقعية، خاصة تلك المتعلقة بالغائب (غائب) البطل المحوري من أجل أن يكو حاضرا. في مجلس الفاتحة مثالا، وأن يكون حاضرا في مشهدية المطار وأن يكون حاضرا في مشاهد الصراع الأخرى مع المحامي والدولة والواقع السياسي، من أجل الخروج من الواقعية البحتة إلى عملية خلق وقائع جديدةٍ، أو على الأقل أنها غير معروفةٍ للكثيرين، ليتخلص من حالتين. الأولى: هيمنة الراوي كلي العلم. والثانية: الاستفادة من واقعية السيرة الذاتية، لتكون الحالة الثالثة هي حاصل جمع الحالتين، وهي بث الروح في الشخصيات أو إعادة تخليقها سرديا.

– سبيل الحوار الذي يكون على أكثر من طريقة، في محاولة لخلخلة التوافق التصاعدي:

أ- حوار الشخصيات ذاتها.

ب- حوار الراوي مع الشخصيات.

ج- حوار الروائي ذاته حين يريد الإمساك بالتلابيب، كي لا تفلت منه الغاية والقصدية والهدف الكلي.

وفي هذا السبيل ومن خلاله ختم الروائي سرديته، حين جعل الخاتمة عبارة عن تجميع للحكايات الفرعية، وتوضيح ما يريد من خلال فك طلاسم الواقعية للشخصيات، والفنتازية لطريقة السرد، وتكسير أفق التسلسل التصاعدي، لذا جعل النهاية على شكل حوارٍ لغايتين.

الأولى: حتى لا يكون الراوي العليم ومن يقف خلفه مسيطرا على المستوى القصدي.

الثانية: حتى يعطي مساحة للمستوى التأويلي أن يحلل مبتغاه على يد المتلقي، ويفسر الحوار بطريقته:

(- أنا كاتب.. وكل هؤلاء شخصيات في روايتي الجديدة. بمن فيهم أنت والعون الذي سيطرق الباب بعد لحظات، رفقةَ محام يحمل لك وثيقة عن حقيقة هويتي.

– مجنون. مجنون، وهذا ما نحتاج إليه. ولحظةَ همَّ المحقق بصفع المتهم على قفاه، ليكون آخر اختبار لمداركه العقلية، طُرق الباب).

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي