في «منازل العطراني»: الرواية بين السيرة الخاصة والعامة

2023-12-27

جاسم عاصي

علاقة الرواية بالسرد عموماً، محفوفة بالحذر. ذلك لأن التاريخ منطقة ثقافية ومعرفية مغرية لما يحتويه كمدونة من معلومات وثراء وحركة تنطوي على متغيرات وتحولات. ناهيك عن إغراء النماذج البشرية والأحداث ذات الصبغة والصيغة الدرامية. من هذا المنطلق ننظر إلى الرواية من باب تشكيل تلك العلاقة على أساس اعتباره مصدراً للأحداث التي يلعب المتخيل السردي دوره في صياغته على نحو نص لا يقطع الصلة بمصدره، ولا يؤسسها على نحو حرفي.

ورواية «العطراني» لجمال العتابي سايرت صورة وحراك التاريخ، ثم محاكاة السيرة بشكل لافت للنظر. ذلك لأنها امتلكت خصائص السيرة الذاتية (سيرة العائلة) وسيرة المسار الاجتماعي والسياسي في حقبة تُعد من أكثر الحُقب تعقيداً وقسوة. لقد اختار الكاتب سيرة وتاريخ عائلة (محمد الخلف) وما عانته جراء الطرد السياسي ابتداء من عام 1958 مروراً بعام 1963 ثم التغيير الذي حصل ما بعد هذه الحُقب والأحداث، كما هي أعوام 1964 وعام 1968. تلك الأعوام التي خلقت جملة تحقيقات كتحول نوعي ولو بنسبة قليلة من الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

نموذج الرواية مناضل من مدينة جنوبية أدرك أن لا استقرار له، خاصة بعد هروبه من السجن ولجوئه إلى الريف، فاختار طريق الهجرة وفك عقدته مع الأُسرة والمجتمع اللذين اعتادهما. وكان التغيير هذا قد حظي من لدن الكاتب بجملة صياغات لا تنتمي إلا للتركيبة النفسية المضطربة. فقد مكننا من متابعة وبدقة تحولات (الخلف) التي انعكست عليه تحولات المكان والأحداث، من المدني إلى الريفي، على الرغم من كونه من منحدر ريفي أصلاً، لكن المتغيرات الاجتماعية والمدنية والمهنية والمعرفية صاغت شخصيته الجديدة، التي جسدت الريفي برداء وجلباب مدني.. هذه الصيغة منحت الرواية الكثير من الفعاليات الذهنية، من اعتبار تأثير تحولات الأمكنة والأحداث السياسية الضاغطة. فالنموذج (محمد الخلف) لم يتوان فعلاً وتصوراً من إبداء السلوك المواكب والمضاد، إضافة إلى طرح وجهات النظر في المسيرة السياسية الخاصة والعامة بعد عام 1958. لقد انطوت الرواية على أنماط من المعالجات وفق الحس الطبقي والسياسي، وحصراً الانتماء السياسي اليساري، ومهنة التعليم وفترة دراسته أثناء ما كان يعيش في ريف الجنوب القصي. وهي:

1 ــ الإحساس المفرط بالمكان وتحولاته.

2 ــ الضاغط المعرفي باعتباره قارئا نهما، وفنانا تشكيليا.

3 ــ محيطه الأُسري والاجتماعي (المدني والريفي).

4 ــ التطورات الدراماتيكية في حياته وفي تاريخ البلد.

5 ــ تأثير حياته ومعارفه على أفراد الأسرة كـ(خالد) والأحفاد.

في الأول، كان النموذج أكثر حساسية بالمتغير المكاني، كذلك الوجداني والطبقي. فردود أفعاله تنطوي على شد مبدئي، ولعل إسقاطات الأزمنة ولّدت مثل هذه الأحاسيس المفرطة بالصور الإنسانية. فوجوده في المدينة وبين أحضان أُسرته كان قلقاً. كذلك في تصوراته واسترجاعه لصورة المكان السابق (السجن) عكس مثل هذه الحيوية المفرطة بالإيذاء الذاتي. كما أنه كان أكثر إفراطاً في المكان الريفي، لأنه إحساس مزدوج التركيب؛ فمن جهة كونه مهاجرا (هاربا) من السلطة، وصدور أحكام خطيرة بصدد هروبه. ثم استرجاعه لاستعادة صورة المكان الحالي الذي عاش داخله ردحاً من الزمن. هذا الإحساس المزدوج التركيب ولد عنده نوعاً من القلق، لاسيما انقطاعه القطيعة التامة مع مكانه السابق أُسرياً واجتماعياً، لكن ما توفر له من معرفة خلال حضور جهاز الراديو وفّر له نوعاً من العلاقة المستعادة. كذلك ما وفرته عناصر المنزل من صحف وكتب أعادت له توازنه الحياتي والمعرفي، وخففت من القلق وهيمنة الوحدة على وجوده.

أما العامل الثاني المعرفي، فقد بدا أكثر تأثيراً وفعالية في نمو حالة العزلة والقلق، فالنموذج لا يشعر بالأمان طالما أن هناك عناصر مهمة في حياته الجديدة. هذه الازدواجية الوجودية بين حلوله في مكانه الأول وحنينه إلى المكان الثاني، أي بين (الريفي والمدني ـ الريفي) ونقصد بها العود الأبدي للمكان الأول كما ذكر مارسيا إلياد، لكنه في حاضر الزمن لم يلغ المكان المدني، لأنه وفر له حياة جديدة، وخلق منه قارئاً نهماً من جهة، وظهور سماته وتوجهاته في الفن التشكيلي، أي ثمة خلق جديد لشخصيته من الصعب إلغاء تأثيرها على من حوله، لذا نجد انعكاساته على وجوده في الريف، مجسداً بالحنين والرغبة المحبطة بسبب الضاغط السياسي.

أما ثالث العوالم؛ فهو محيطه الأُسري والاجتماعي الذي حصلت عليه متغيرات وتحولات كما ذكرنا. فهو لا يفرط بتاريخه المدني، لأنه يمده بالقوة المعرفية، كذلك تشكل معمار أُسرته وتعدد أفرادها، أي خلق حياة جديدة فيها المثير من عناصر الاستعادة وتمثل حياة معاشة في زمن تشوبه البراءة والبدئية في كل شيء، كذلك نمو الحس الطبقي في بيئة ريفية تزخر بتصاعد النشاط السياسي آنذاك. لقد برزت من خلال توصيفات هذه البيئة خصائص الانتماء لها، والانحياز لمكوناتها الطبقية والفئوية وظهور بوادر النمو المعرفي، سواء بالدراسة بكل مراحلها أو الاحتكاك بالعناصر المنتمية إلى توجهات سياسية متقاربة. هذا العمل امتزج مع الحس المدني ولم يلغه، أي أن مستوى الوعي في الجانبين مكمل للآخر.

أما التحولات الحاصلة في حياته بشكل عام، فقد شهدت صراعاً متواصلاً، خاصة الصراع الذي جسدته المعرفة الصاعدة في حياته، فهو نموذج معترض على الأخطاء، سواء ما يخص ما يرتكبه الطرف الذي يمتلك السلطة، أو الهنات التي انطوت عليها خاصته السياسية (الحزبية). إنه نموذج نما وترعرع وسط حس مرهف طبقياً، وزاد من هذا الحس تطوره المعرفي. هذه الأجواء خلقت لديه قلقا مشروعا إزاء أصغر مفردات الحياة، سواء في المدينة أو الريف، فهو قلق على الريف وهو في المدينة، والعكس يصح أيضاً. هذه الشخصية المركبة لم تكن تعاني من ازدواجية مريضة، بقدر ما تعاني من قلق وجودي رائده الضاغط المعرفي، واستقلال شخصيته السياسية وتفردا في وجهة النظر. ولعل ورود اسم المناضل خالد أحمد زكي الذي شكل عنصراً مهماً في قيادة الكفاح المسلح في هور (الغموكَة) جنوبي العراق مع نخبة مناضلة من اليساريين. إن التطرق إلى ما حدث يعطي نوعاً من الانحياز في اتجاه التغيير في السياسة الحزبية عند اليسار العراقي، لقد جسد في مواقع كثيرة من النص لهذه المفردة الصاعد بوعي (محمد الخلف وخالد).

أما تأثير النموذج على من حوله القريبين والبعيدين فقد بدا واضحاً ومجسداً بحيوية، نستطيع أن نجزم على أن وقع شخصيته المنتمية سياسياً قد أُسقط على كل أفراد أُسرهم؛ اعتباراً من الزوجة والأُخوة والأبناء والأحفاد. وهذا العمل خلق عنده نوعاً من ترميم ما ثُلِمَ في حياته التي اقتربت إلى التشرد وضياع المصير، بسبب تحولات المكان والعلاقات الاجتماعية والسياسية، فالنموذج في حياته ما قبل السجن والهرب مثّل الصورة المثالية المنبثقة من طبيعة المبادئ التي وجهته الوجهة الصحيحة، بما مكن الآخر من الأسرة والقريبين الاحتذاء بسلوكه ونضاله. فمنهم من كان متعاطفاً، والآخر منتمياً ومناضلاً. هذه الخاصية لم تكن نادرة في الحياة السياسية، بل هي إضافة على إضافات نوعية شكلت تأريخ الإنسان العراقي، فالمؤلف اعتنى بخلق الموازنة بين الخاصية الذاتية والموضوعية. بمعنى كانت السيرة الذاتية محض الغور في الخاص والعام، عبر تقديم العينات التي تبلورت كموقف وإيمان عقائدي. لا نعني به الأيديولوجي فقط، وإنما الأيديولوجي الممزوج بالندرة النضالية التي شكلت تاريخ الحركة الوطنية العراقية، وما عانوه من ويلات الاضطهاد والضغط المتواصل الذي وصل حد التصفية الجسدية الخاصة والعامة أيضاً.

إن رواية «العطراني» وثيقة سردية استطاع المؤلف أن يعبر بها ويعبر عن حقب سياسية عراقية، وفق أُسلوب روائي يراوح بين التسجيل والخلق الإبداعي، معتمداً سارداً ذاتياً تارة وموضوعياً تارة أُخرى. نجد أن تحويل ضمير السارد كثيراً في مفاصل النص غير مبرر فنياً، على الرغم من عمق دلالاته في التحكم. كان الأجدر أن يخلق منها رواية أصوات يُبرر تعددها عمق تجارب كل صوت مؤثر في أحداث الرواية.

رواية «العطراني» جمال العتابي من منشورات الاتحاد العام للكتاب العراقيين 2023

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي