اليومي والمحكي في مجموعة «طائر قطرس» للعراقي قاسم حسين

2023-12-24

جاسم خلف الياس

من المسلمات في النظرية النقدية الحديثة هي أن الفن الشعري في عصرنا الحالي قد انفتح بمقصدية عالية على اليومي والمحكي والمألوف في الوجود، بلغة تستشرف الأحلام، وتغري الأحاسيس بالتدفق، والدلالات بالمراوغة، في شحنات جمالية وإيحائية، شكّلت الذات فيها مكوناً أساسياً. وقد احتوت قصيدة النثر هذه التكوينات أكثر من غيرها في الاشتغالات الشعرية الأخرى، بوصفها نوعاً حداثياً له حساسيته الخاصة، وحضوره الفاعل، واشتراطاته التي تعتمد الاختزال والتكثيف للجزئيات الصغيرة، بكل ما تحمل هذه الجزئيات من مفارقات، تسعى إلى خلق ما يثير دهشة القارئ، ويربكه أحياناً وهي تقوده إلى اليومي والمألوف إلى الحد الذي لم تكن الكلمة في قصيدة النثر «مجرد مادة ظاهرية معتمة، بل إنها تشرع في الإضاءة بواسطة الفكرة» (قصيدة النثر، سوزان برنار). وإذا كان أي تغيير في الأشكال لا بد أن يكون مصحوباً بتغيير في الرؤى، ففي إمكاننا أن نوظّف هذه المعادلة الطردية ونقول: إن قصيدة النثر تحتمل التقويض، الخلق، الاكتشاف، الانفتاح، الاختراق، الانتهاك، التوليد، الابتكار.. وغيرها من المتكآت التي اتكأت عليها، بوعي مغاير، وصيرورة جوهرية، واتساع دوال (الرموز، العلامات، البياضات، الفراغات، الإشارات) للحفاظ على وهج الروح الشعري من الخبوّ والهمود. وعلى هذا الأساس لم تكن قصيدة النثر تحولاً شكلياً نتيجة لتسارع العصر ووفرة المعرفيات فحسب، وإنما للنضج الفكري عند الشاعر المثقف، الواعي، المدرك إدراكاً جيداً لضرورة تجاوز الأساليب اللغوية القارة، والانفتاح على الأساليب المبتكرة التي تقع خارج دائرة التأطير المرجعي للاشتغالات الشعرية السائدة. وعلى هذا الأساس فإن انتماء هذه القصيدة إلى العابر واليوميّ، دعاها إلى تأثيث ممكناتها بالصور والعلامات والمفارقات، وهي تستمدّ شذراتها الفعّالة من بلاغة الاستعارة، والانزياح والترميز، لتقودنا في اتجاه منحرف، يجعل الغياب هو الأصل والحضور هو الفرع.

بهذا المدخل نسعى إلى مقاربة مجموعة «طائر القطرس» للشاعر قاسم حسين، بكل ما فيها من التقاطات شعرية عالية، حاول فيها الشاعر توظيف المتداول (اليومي، المحكي، الشعبي) بشفافية عالية تسعى إلى جذب القارئ في اتجاه بلاغة اليومي، بعد أن تجرّه من الواقع بقوة تصوير الأشياء كما يراها الشاعر، فيخطف في لمح البرق أشكالها المتغيرة ويجعلنا نحس هذه الأشياء كما يحسها هو حسب تعبير (كروتشه) أي بتعبير آخر يعمل الشاعر على قراءة اليومي والجزئي بلغة شعرية، قادرة على التحوّل من الذهني إلى الواقعي، وهو يصف حياته اليومية، فيندفع إلى تصوير التجارب الإنسانية، حتى إن غاص في الذاتية، وعبّر عمّا يشتهي مزاجه الشعري وهو مستمر في تناول المتداول اليومي، كما في المقطع الآتي:

«كلهم إلا أنت/ إلا من رحم ربي من جيل أفكاري/ فهاتي عناقاً طويلاً/ لأستنشق شعرك/ وأهمس في أذنيك هذه القصيدة/ وأنا… م آخر نوم/ بسعادة». بهذه الشفافية الشعرية يبلغ الشعر تفاعلاته الحسيّة التي فعّلت السياق النصي، وتوهجت اللغة لصالح قيمتها الفنية، وهذا ما جعل القصيدة ذات جمل منتظمة، وبناء متماسك، لا نجد كلمة طارئة فيها، والقارئ الحيوي لا بد أن يدرك فاعلية الوجع اليومي في هذا المقطع الشعري: «ولم يتبق من الأحلام سوى رماد متطاير/ وبعض حبوب الباراسيتول/ وأدوية القولون/ وحفنة منومات منومات مدخرة». ولا نبالغ حين نقول: إن النص الشعري عند قاسم حسين متمرد على الثوابت، وهو حصيلة تركيبية معقدة من شحنات (نفسية، اجتماعية، أيديولوجية، فلسفية، إلخ) منبثقة من تمركز الـ(أنا) ومن عقدها وأحلامها وآلامها وآمالها، إذ يخالف السائد، ويظهر الألفة بين ثيمات مقبلة من سياقات شتى، ويعمّق حفرياته في مخزون الذاكرة، فيقودنا إلى فيض من المعاني المندلقة من ممكنات التحوّل ومسارات التأويل.

«أتوسل بالشمس ألا تغرب اليوم/ أتوسل بالليل أن يتأخر/ ولو لليلة واحدة/ فحبيبتي جُرحت/ وفُطر قلبها الثلجيً البياض/ وأنا بكامل سواد الوجه/ أطلب السماح». وهنا لا نستطيع التأشير نحو جهة واحدة من الدلالة، فالمنجز الشعري للشاعر يشكّل سيرة متخيلة للذات الشاعرة، إذ ينسج علاقاته المتشعبة مع مسقط رأسه (سنجار) إلى درجة التماهي مع هذه المدينة التي بقدر ما قدمت له الفرح والمسرات، قدمت له الحزن والمعاناة أيضاً، لذا، فهو لم يكتف باستعادة أحداث الطفولة عبر انفتاحها على حساسية شعرية جديدة، بل أضاف لها رؤيته لما جرى في واقعه من حماقات أجهضت كثيراً من أحلامه وتطلعاته التي لا تنفصم عن أحلام وتطلعات المجتمع الذي ينتمي إليه. ونتفق هنا مع عزالدين إسماعيل في الحكم الجمالي على النص، فقد ينصب هذا الحكم على جمال الشيء ذاته فيكون موضوعيا، وقد ينصبّ على الشعور فيكون موضوعيا، وهنا يأتي السؤال: أيهما ترى الصحيح، هل الجمال في الأشياء ذاتها مستقلا عنّا؟ أم هو فينا ونحن الذين نسقطه على الأشياء (الأسس الجمالية).

« أفهم إشارة واحدة/ وهي: حين تعضّين شفتك السفلى/ أعرف أن الأمر سينتهي بقبلة/ ولأنني لا أجيد لغة الجسد أيضا/ سوى بالفطرة/ فعندما ترتجفين خجلا/ أعرف أن الأمر/ لا بد أن ينتهي بعناق طويل..».

وهنا يقدم الشاعر مشهدا سينمائيا قويا بأجوائه، بحيث تبدو الكلمات وهي تتحول إلى صور شعرية فاتنة، تغري بمتابعة القراءة والغوص فيها، إذ يجعل من الكلمات مشاهد تتراقص في خفة جمالية مذهلة وهي تلتقي ببعضها بعضا كي ترسم للمتلقي عالما شعريا فريدا؛ أي أن الشاعر يحاول في هذا الاشتغال الشعري أن ينقل العالم إلى اللغة، العالم المؤثث بتفاصيل واقعه وملابساته ومفارقاته (المرئي/ المضمر، العائم/ الغاطس، الظاهر/ المخفي). ويستمر هذا الاشتغال الشعري البديع في وصف اللحظات التي تحضر في الفضاءات المتخمة باليومي حدّ التفاصيل الصغيرة جدا:

« لن تحتاري بعد الآن/ في اختيار شكل الفستان الذي سترتدينه/ ولا في اختيار لون صبغة الشفاه/ أو الأظافر/ ولن تحتاري أتتركين شعرك طليقاً/ أو تعقدين منه ضفائر؟/ لأن لي في كل ذلك قصائد…

يصف الشاعر في هذا المقطع الشعري سيرة الحب اليومي، ويستحضر الواقع الثقافي الوجودي، بحيث تصبح المدينة مدينة ثقافية شعرية وليست فقط صورة لمدينة واقعية ليس إلا، وتلك صفة من صفات الشعر القوي وعلامة مميزة لطرق اشتغاله الفني. إن الشاعر هنا، وهو يصف المدينة بدءا من آخر الليل إلى بداية حلول النهار، فإنه يمهد بذلك لعملية استمرارية التدفق الشعري في ما سيأتي من قصائد هذا الديوان الشعري، إذ سنرى أنه سيقوم مباشرة في القصيدة الثانية للحديث عن علاقته بالغرفة، غرفته، وبالمقهى، مقهاه المفضل. هكذا سيحدثنا عن نفسه وعن كيفية مغادرته غرفته وذهابه إلى المقهى، وكيف سيقضي وقته فيها. إنه يقوم بذلك بواسطة لغة شعرية موغلة في العمق ومحيلة على سيرورة الحياة اليومية في مرورها وفي تأثيراتها على الإنسان.

وتتكرر هذه التفاصيل اليومية في قصائده الأخرى، كما في قصيدة (إيمي) حين يستهلها بـ»ما زلت تتحممين بالماء الساخن/ وتغسلين شعرك بماء الورد» وهنا يسعى الشاعر إلى اختزال عالمه الداخلي بحاستي (اللمس والبصر) وهو يقدم لنا مشهدا في العالم المرئي، والصورة البصرية هنا لهذا المشهد اليومي اكتملت حين أضفى الشاعر عليها حساسيته، وهو يستنطق الأشياء، ويلتقط المضمر فيها، فـ»وراء كل تفصيل يومي محيط تتنوع دلالاته، وكل دلالة تنزع إلى فعالية ما في حياتنا» ويستمر الشاعر وهو يقارب القلق والطمأنينة في اللغة الشعرية وهو يتساءل: «كيف نمت العلاقة في التفاصيل الصغيرة؟ أي مكونات المشهد؟ كيف انتقل التوتر من تفصيل صغير إلى تفصيل آخر؟ كيف عمّ الانسجام بين أجزاء المشهد؟ كيف اكتمل الحدث في صورته النهائية المتماسكة (الطليعة الأدبية). وفي قصيدة (ماذا كان شعور آدم) تتدفق التفاصيل اليومية في حياة المرأة/ المعشوقة التي كتب فيها أغلب قصائده: «أنا بقايا ممحاة عالقة في دفترك الامتحاني/ يلتصق بي رصاص قلمك الذي أخطأ الجواب/ فأعدت تصحيحه بارتباك..» وهنا تتحول الحاسة إلى مشهد، ويتحول المشهد بدوره إلى رؤية، تقتنص لحظة انفعال الذات الشاعرة، فتضعها في إطارها السحري الذي استحوذ على المخيّلة وهي تجوهر الأشياء في عملها الشعري الخلاّق، وتؤرشف تحولاتها الغارقة في الإحالات. وتستنفر انفعالاتها. وتستمر الذات الشاعرة في استنفار انفعالاتها كما في قصيدة (اتصال هاتفي مع الحياة) فقد وظف الشاعر التفاصيل الدقيقة التي تحدث معنا في كل اتصال لم يتحقق بسبب انشغال المتصل به أو ضعف الإشارة، أو خارج التغطية، فقد استعار الشاعر مفردات هذا الاتصال وبنى شعريته الشفيفة عليها، لا من أجل محاكاة الواقع (الظاهر) بل من أجل محاكاة (المتخيّل) الداخل: «نعتذر منك/ القلب الذي تطلبه/ خارج نطاق الفرح حالياً/ حاول في وقت لاحق». وهذه الكلمات ـ على بساطتها- استطاعت أن تشكّل خرقا لمألوفية العرف التواصلي الذي نسمعه كثيرا في حالة عدم حصول أي تواصل مع الشخص المطلوب الاتصال به، وهذا ما أرادته الذات الشاعرة من شحن الأعماق باليومي والمحكي. وكأن الشاعر منشغل بالأشياء أكثر من انشغاله بالتذكّر، هذا التذكّر الذي لم يعد فاعلا في الفضاء الذي لا يريد مغادرته لولا قسوة التحولات ومخلفاتها السلبية:

«وأنت أيتها الحائرة/ ماذا يبكيك/ سوى أنك حولتني من مسافر نحوك/ إلى حقيبة منسية/ على مقعد مبتور في محطة الذكرى».

إن الشاعر حينما يُحوّل التفاصيل التي تتعلق بالمسافر (حقيبة/ مقعد/ محطة) من واقعها المعيش إلى واقع نصيّ متخيّل، إنما يربط الذات الشاعرة بخصوصيات صغيرة ليجعل منها قضية شعرية، يقتفي فيها يومياته بشكل شعري عميق؛ لأنها تشكل العمق الإنساني بغوصها في أعماق الذات الإنسانية ولحظاتها اليومية التي تترك في النفس آلاما وجروحا وفرحا ومتعة، وعلى هذا الأساس يبني الشاعر قاسم حسين وجوده الشعري على استحضار مكونات الحياة اليومية وهو يعبر لحظة الهدوء الإنساني إلى لحظة الانفجار الشعري.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي