المقاربة السوسيوثقافية للمقاولاتية في الجزائر

2023-12-23

عبدالحفيظ بن جلولي

برر برهان غليون هجرته إلى فرنسا كون السوسيولوجيا تشارك الإنسان رصيف باريس، وعلي الوردي كان يتخذ المقهى كمخبر لبناء نظرياته السوسيولوجية حول المجتمع العراقي، خاطرتني هذه الأفكار عندما تناولت بالقراءة كتاب لحسن تركي حول «المقاولاتية في الجزائر/ مقاربة سوسيولوجية» حينها تساءلت: هل يمكن أن تنبع الرؤية للمقاولة من الواقع بتعميم ثقافتها، وباعتبارها تهدف إلى الخلق والابتكار، مع الاحتفاظ بالفارق، على أساس أن قراءة كتاب لا تكون منتجة، إلا إذا حققت أثارها في الواقع، ومن تلك الأثار على الأقل الكتابة عن العمل.

المقاولاتية بين رؤيتين

لعل لعلاقتنا بالمنظور الواقعي، أي بحكم وجودنا في الواقع ومفهومنا الشعبي للاقتصاد، يمكن أن نبني تصورا للمقاولاتية، من خلال ما نثبته في ذلك الشخص الذي يشتغل على مشروع ضمن مؤسسة، البناء مثلا، ويقع على عاتقه تحقيقه من خلال اليد العاملة التي ينتظمها ذلك العمل، ربما هذا التصور يجعل شخص المقاول قريبا من تصورنا الذي يضع له هيئة معينة، انشغالات معينة وحركة يتوزعه فيها العمل مع المؤسسات المعنية، لكن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) تعرف المقاولاتية على أنها «الظاهرة المرتبطة بنشاط دينامي إنساني، التي تهدف إلى توليد قيمة من خلال إنشاء أو توسيع الأنشطة الاقتصادية، ومن خلال تحديد واستغلال المنتجات والعمليات أو الأسواق الجديدة».

إن هذا التعريف يضع المقاولاتية في إطار التنمية، بمعنى أنها تهدف إلى خلق قيمة، ولا تأخذ التنمية مفهومها الاقتصادي إلا إذا اتخذ النشاط الاقتصادي شكلا موسعا، أي القيم التوالدية للكيان الاقتصادي الأول، ومن ثمة يكون «التحديد» و»الاستغلال» عاملان مهمان في بروز «الأسواق الجديدة» هذا المفهوم الاقتصادي للمقاولاتية يتكامل مع الرؤية «الشعبية» لها، لأن هذه الأخيرة تكشف عن الأسس السوسيوثقافية، التي يرتكز عليها العمل المقاولاتي.

الوعي بالإنسان أو سوسيو ـ ثقافية المقاولاتية

يؤكد الباحث تركي لحسن على علاقة المقاولة بالنشاط الإنساني والابتكار والإبداع، وأيضا بالمحفز المتمثل في المحيط الاجتماعي والبيئة، التي إما أن تكون محفزة ودافعة على الابتكار أو مثبطة. حدد الدوافع بالداخلية (الذاتية) تحقيق الذات والتحرر، والداخلية (الموضوعية) تحقيق الأهداف، الابتكار والمخاطرة. أما الدوافع الخارجية، فقسمها إلى ميكرواجتماعية (العائلة والمدرسة والأصدقاء) وماكرو اجتماعية (البيئة الاجتماعية، الاقتصادية، التطور التاريخي والفرص). ترتسم المقاولة كنشاط أوجده الوعي الإنساني، بضرورة إنتاج ما يمكن الإنسان من الاستمرار على الأرض، وفق معطيات المشاركة الفعالة في بلورة القيم المادية التي تمثل رمز الوجود الإنساني، لهذا يؤكد الباحث العلاقة بين المقاولة وبين القيم السوسيوثقافية، كونها واحدة من العناصر التي تكشف عن التحولات في البناء الاجتماعي، إذ «تعتبر المقاولاتية واحدة من بين النشاطات الاجتماعية التي تندرج ضمن التغيرات والتحولات التي طرأت وما زالت تطرأ على البناء الاجتماعي ومؤسساته داخل المجتمع الجزائري» وعندما توضع المقاولاتية في إطارها المحدد بمجتمع معين، أي الجزائري، فذلك يهدف إلى تثبيت الظاهرة المقاولاتية داخل فضاءٍ تعالقت معه بفعل الحاجة والدافع والطبيعة، وهنا يطرح السؤال الذي يبدو مُهما خلال العلاقة بين المجتمع والمقاولاتية، أي هل طبيعة المجتمع تؤثر في مسار المقاولة تطويرا وتخلفا؟

وهنا أيضا تنبثق الأهمية البالغة لعنصري الحاجة والدافع، لأن الباحث يبين أن المقاولاتية، «واجهت إلى حد ما صعوبات في تجسيدها بسبب تناقض البيئة السياسية والاقتصادية وكذا المنظومة السوسيوثقافية مع الخصائص النفس اجتماعية للمقاول» فـ»الحاجة» في هذا السياق هي التصور النابع من البؤرة الاجتماعية بما يمكن أن يحقق به الفاعل الاجتماعي غاية ما تفيد عجلة التنمية في المجتمع، لكن يمكن أن يواجه هذا التصور عقبات موضوعية تتمثل في البيئة السياسية والاقتصادية والمنظومة السوسيوثقافية، وعقبات ذاتية تتمثل في الخصائص النفس اجتماعية للمقاول، ما يؤثر في الدافع، الذي يعتبر محفزا على إبداع وتحقيق التصور، ومنه يمكن أن نقول إن طبيعة التصور التي سوف تتحقق واقعا وتتحول إلى مشروع قابل للتنفيذ إنما تخضع للتوافق والانسجام بين العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية.

الثقافة المقاولاتية والعولمة

هناك منظورات متعددة للرؤية إلى المقاول باعتباره فردا يساهم داخل جماعة، أو باعتباره فردا ضمن نسق جماعي، وهو مكمن الفرق بين النظريات البنائية التي ترى المجتمع مجموعة عناصر متساندة، بينما ركزت نظريات الفعل على الكائن الفرد وكيفية تفاعله مع المجموعة، وهو ما يجعل الفكرة القائمة في البحث تميل نحو الفرد الذي أعادت له الاعتبار «السياقات العالمية المتمثلة في العولمة واقتصاد السوق وظهور ما يسمى بمجتمع المعرفة».

يختار الباحث ما يجعله حرا في الحركة بين بنيات الموضوع في الواقع، ولهذا يتبنى «توليفة» الطرح البنائي التأويلي، الذي يدمج الذات باعتبارها فاعلا، ولكي يسعى إلى تشريح وتفكيك ظاهرة المقاولاتية عميقا استعان بالمنهج الظاهراتي لاعتماده عنصر «الفهم».

حاول الباحث أن يقدم تصورا معرفيا للمقاول يمكن اختصاره في رؤية ثلاثة من عمالقة الاقتصاد: ريشارد كونتيون، جون باتيست سي وجوزيف شومبيتر، الذين حددوا المعادلة المقاولاتية: المقاول = اللايقين + المخاطرة + الابتكار،

اعتمد الباحث على العديد من المراجع التي تتناول المقاولاتية من جميع أوجهها، ومن أبرز الآراء، رأي ألفارو كيورفو وآخرون في تناول المقاولاتية، حيث يرون ذلك من خلال: العامل المقاولاتي، الوظيفة المقاولاتية، السلوك المقاولاتي، المبادرة المقاولاتية والروح المقاولاتية. تناول أيضا ما تعنيه الثقافة المقاولاتية، التي يجب أن تكون حاضرة كعنصر لتكريس الوعي بالمقاولة، ومن ذلك العادات والتقاليد والمعرفة والأفكار والتنشئة الاجتماعية. ولا شك في أنه من الناحية السوسيولوجية ارتكاز المقاولة على الثقافة، يعني اعتمادها رؤية لأفق مقاولاتي يساهم في خلق نمط جديد من المقاولة ينطلق مما يعج به المناخ العولمي الجديد من سمات لمقاولة تستجيب لمتطلبات الراهن العالمي.

الهابيتوس المقاولاتي

تعرض الباحث للمقاولة سوسيولوجيا من خلال بورديو على سبيل المثال وبالتدقيق تركيزا على مفهوم الهابيتوس Habitus عنده، أي ما يتحكم في سلوكاتنا داخل سياق معين، ومنه كان الهابيتوس المقاولاتي، أي تطوير المنظور الممارساتي للمقاولاتية والتركيز على النشاط المقاولاتي، وهذا كله من خلال مفهوم «الحقل ورأس المال» عند بورديو.

يتناول الباحث المقاولة في الجزائر ونشأتها ومعوقات تطورها، ويرد ذلك إلى الأيديولوجيا الاشتراكية التي أعدمت قيام هابيتوس مقاولاتي، ويحلل هذا العنصر في إطار مجموعة من المفاهيم التي درج عليها الاقتصاد الموجه في الجزائر إبان الحقبة الاشتراكية، التي أجلت تكريس مفهوم وممارسة نموذج القطاع الخاص والاهتمام به. ينهي الباحث هذه الدراسة الممتعة بملامسة إنسانية/نقدية للعامل المقاولاتي من خلال إثبات صفتين متناقضتين يحملهما الوعي المجتمعي للمقاول، أولاهما الإيجابية في الوضع الاجتماعي المرموق، وثانيهما السلبية في استغلاله لقوة العمل لدى الأفراد، لكن الباحث يؤكد أن هذا التناقض ما هو سوى نتاج لما يعيشه المجتمع برمته من تناقضات وتعارضات قيمية وثقافية، فالفرد يحاول أن يكون مقاولا ليتمتع بمستوى اجتماعي مرفه ومريح، لكنه في الوقت نفسه يحاول جاهدا أن يحصل على وظيفة في القطاع العام ليضمن دخلا منتظما ومن غير كد أو تعب. هذه التناقضات في الوعي والسلوك تهيمن على عناصر «حقل» المقاولة وهو ما يساهم في تأخر انبعاث وعي «هابيتوس مقاولاتي» يشتغل على الدوافع والقيم التي تدفع الاتجاه نحو الممارسة الواقعية والبراغماتية للمقاولة، لكن الباحث يشير أيضا إلى أنه من هذه التناقضات تنبعث «القيم المقاولاتية الإيجابية».

كاتب جزائري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي