في «وردةٌ ثرثارة في المقبرة» … التناص النقيض مع التراث وتفكيك الأسطورة السردية

2023-12-15

حمزة قناوي

ما إن نتأمل ديوان «وردة ثرثارة في المقبرة» للشاعرة سعاد الخطيب؛ حتى نستحضر مقولة أدونيس عن الشعر العربي الحديث، والتي يقول فيها: «إن اللغة الشعرية تحرك وتهز الأعماق وتفتح الأبواب وتخزن الطاقات، فهي أكثر من حروف وموسيقى لأنها تحمل دم الحياة، وهي كيانٌ جوهره في إيحائه لا في إيضاحه». ومنذ مطالعة العنونة الأولى للشاعرة نلمس جدية في اقتناص لغة شعرية حداثية معاصرة ونافذة إلى قلب الإنسان المعاصر، فالعنونة الآن ينظر إليها على أنها «رسائل مسكوكة، مضمَّنَة بعَلاماتٍ دالّة، مشبعة برؤية للعالم، يغلب عليها الطابع الإيحائي» وهو أمرٌ يستوجبُ معه الانتباه والتحليل للمشاعر الموحية التي تجمع تراكيب الدلالة المتنافرة بين «الوردة» و«الثرثرة» و«المقبرة» فما الدلالة التي تطبعها العنونة في نفس المتلقي؟ وكيف توجه أفق القارئ في توقع البنية الدلالية لقصائد الديوان؟

ثمة أمر يجدر أن نأخذه بعين الاعتبار من بين ثنايا الخطاب الشعري للشاعرة سعاد الخطيب، وهو ما أوردته في قصيدتها الافتتاحية عن فكرة «الفخ» تقول:

«لا يكتمل الفخ/ إلا بحبة قمح/ كي تحرر طائرا/ أعد ترتيب الخديعة/ دسها في السرد/ كالجمر في خاصرة الرغيف/ الراوي الذي نفسك بيده/ ادفعه براحة الكلمات/ كأنك تلطم عجيناً/ ليستريح في كعك العيد».

كأنها في هذه القصيدة تقدم لنا مفتاح فك شيفرات نصوصها، فهي تقول منذ البداية إنني سأخدعك أيها القارئ، سأصنع لك فخاخا في بنية الكلمة، وعليك أن تكتشف الخديعة حتى تصل إلى المعنى الموجود، وإن لم تنتبه لذلك، ستكون كمن ابتلع جمرة، دون أن ينتبه وهو يتناول الرغيف! والطريف أنها تشير لقصائدها بأنها «سرد» وكأنما مطلوب منا أن نعرف القصة وراء القصائد المقدمة! وإذا استشكل الأمر، فانتظر قليلا بعد القراءة، مثلما ينتظر من يخبز كعكا، لتظهر له كل الشيفرات المتضمنة في القصيدة، وهو ما يؤكد أن كل التقنيات التأويلية التي تتبعها الشاعرة هنا هي تقنيات مُستَبصرٌ بها ومقصودة.

وتغلب على قصائد الديوان الفكرة الواحدة، كل قصيدة تتناول حدثاً واحدا، وفكرةً واحدةً، تقوم بتضمين هذه الفكرة مع قيمة أو ثيمة أخرى، تأكيداً على مبدأ دس حبة القمح في ثنايا الفخ، أو دس الجمرة في الرغيف، وما إن تكتمل القصيدة حتى نجد معنى ضارباً في الحزن لحال المرأة في العالم العربي، وتحاول دائماً أن تنهي قصيدتها بما يشبه الحكمة والعظة، التي تُبقي الأثر في نفس المتلقي، كأننا أمام «قفلة» موسيقية لختام معزوفة، أو أمام مشهد ختامي من مسرحية، نشعر بذلك بوضوح في قصيدتها: «الحزن في القصيدة» فبعدما تُبيّن أهمية الحزن للشعراء في تأليف القصائد، وبعد إشارتها للأنوثة المصابة بمتلازمة العنكبوت، تنهي القصيدة بقولها:

«إن قالت لك القصيدة/ أحبك كحزني النفيس/ ثق بها/ إنها مدفنك».

وهذا التناقض الدائم هو وسيلة فعّالة في إنتاج «معنى المعنى» الذي يترك المتلقي في حيرة من المراد من القصيدة، كيف أثق في أمرٍ سيؤدي بي لأن يكون مدفني؟ هكذا تصنع الشاعرة طوال الوقت ثنائيات متقابلة من معانٍ متضادة، جوهرها تأكيد لوجع ما غائر في النفس، نشعر بهذا الوجع بمختلف الطرق، لكن لا نمسك به كاملاً لكي يمكننا أن نحدده، إنه يتسرب إلى أعماقنا وإلى قلوبنا دون أن نشعر. ورغم إشارة الشاعرة إلى أنها «وردة ثرثارة» فإن القصائد تأتي في مجملها مقتضبة، سريعة وخاطفة وحادة، ربما الثرثرة في كمية القصائد، لكن في بنية القصائد بذاتها، وفي أسطرها الشعرية ومفرداتها، هناك نوع من الاختزال والتكثيف الشديدين، فالقارئ يجد نفسه مباشرة في قلب المعنى المراد. تقول الخطيب في قصيدة «أم البنات»:

«لم أنجب بنتاً/ ترث سيرة الحليب/ لكن واحدة من بنات أفكاري حامل/ وأنا مثل أي جدة طيبة / سألقي على كاهل حفيدتي/ سواري الذهب». هكذا تعيد قراءة كل شيء من حولها، كل المسلّمات والأعراف والتقاليد والعادات تصبح محلا للاستفسار والبحث والتأمل من جديد، وكلما مضينا مع قصائد الديوان خفتت العبارة الشعرية، وتكثف المعنى المخصص للقصيدة، لنلمس هنا تناصاً نقيضاً مع التراث، فبدلاً من السيرة النمطية التقليدية عن «ألف ليلة وليلة» تعيد الكاتبة تفكيك هذه الأسطورة عبر قصيدتين، الأولى تحمل عنوان: «ألف ليلة وليلة شهرزاد» والأخرى تحمل عنوان: «ألف ليلة وليلة والسرد حافياً» وطبيعي أن يكون اهتمام الشاعرة بشهرزاد، وليس بشهريار في ظل توجهها لتفكيك المعنى القديم للأسطورة السردية، لتصنع من شهرزاد مفهوماً إبداعياً بتصويرها «خميرة» الحكايات التي منها تمت صناعة كل خبز الحكايات الباقية.

«لم تعرف شهرزاد الإيهام في الفن/ لكنها اختارت الليل زمناً للقص/ الليل مركب الأهواء العبثية/ مريض الغواية/ رسنها ومهمازها/ غواية/ القتل/ الدسيسة/ الجسد / القص». تمضي الشاعرة في تحليل ما تفعله (شهرزاد) في شهريار، كيف تعلقه بها ـ بحكاياتها، وفي القصيدة الثانية التي تعدد تتمة للأولى، تستخدم تشبيهاً مُخاتلاً إلى أقصى درجة: «السرد حافياً من فداحة الإثم والتورية» ثم تتخذ موقفاً يصعب تحديد كنهه بسهولة، سواء من التراث أو من النسويات، تقول: «أحدثكم عن جدتنا شهرزاد/ النسويات القاصرات عن: الإيماءات/ الزفرات/ حكة الثوب/ وجع الأسنان/ فصلن رأس شهرزاد عن النص» وكأنها ترى أن المرأة تنتهك في عصرنا مرتين، مرة من الرجل، ومرة من النسوة أنفسهن، لكن كيف ولماذا؟ لا نجد تلميحاً واضحاً حول الأسباب والمقدمات لذلك هنا.

وتتردد في الديوان فكرة المرحلة الوسيطة بين الألم والحياة والموت، لا الشاعرة تعيش في سعادة، ولا هي في موت، ولا هي في ألم يمكن تحمله، ولا يمكن أن تقبل بالموت، وعلى امتداد العمل تلح على هذه الفكرة المعلقة للشخصية النسوية التي تطرحها في ثنايا النص هنا، تقول: «بوجع أكبر مما تتحمله الأنوثة/ وأصغر مما يريده الموت/ علمتني أن أداوي الألم بالكي/ حتى إن القبل التي تكاثرت في جسدي/ عريشة مجنونة/ لم تسلم من وصفتها. والذكورة مدانة هنا باستمرار، فالرجل هو سبب كل المعاناة التي تقع فيها هذه الأنثى، والأنوثة نفسها مدانة في جعل الشاعرة/ بطلة القصيدة، تتحمل ما لا يمكن لها أن تتخيل تحمله في حياتها.

في الجزء الأخير من قصائد الديوان تعوض لنا الشاعرة قصر العبارات الشعرية بالإكثار من غموض توليد المعنى، ومشاركة القارئ في فهم المعنى المشار إليه، والذي ربما لن يستطيع فهمه إلا بعد أن يتأمل القصيدة مرة واثنتين، بعد أن يتركها تتخمر كعجين الكعك وفق ما ذكرته سابقاً، وتأتي دائماً خاتمة القصيدة لتعكس المعنى تماماً، نتأمل مثال ذلك في قصيدة «غرق» تقول: «صنارتي واهنة لصيد ثقيل/ يسحبني الطعم إلى العمق/ الماء أفصح الوشاة وأنبلهم» حيث لا نعرف من يصطاد الآخر!

يحقق ديوان سعاد الخطيب أعلى درجات التشارك مع القارئ في توليد المعنى، حيث لا يمكن أن نقف فيه على حدود المعنى الحرفي للكلمات، كما لا نستطيع أن نظفر فيه بالمعنى بسهولة، ولا تبدو فكرة الإيقاع والموسيقى، أو حتى مسألة الجنس النوعي للتسمية كشعر، هاجسا مؤرقا بالنسبة لسعاد، بقدر اهتمامها بخلق توليد دلالي جديد ومغاير، وطريقة لجذب الانتباه الكامل للقارئ حتى يشعر بنفسه في قلب القصيدة، وفي قلب التفكير حول المعنى المراد، وهو ما يمثل مستوىً جديداً ومغايراً في كيفية تقديم القصيدة المعاصرة، وكلما أمعن القارئ في قراءة نصها، أعاد التفكير فيه مرات، ليجد نفسه يصل لمعانٍ جديدة مغايرة وفارقة حول العذابات التي تتحدث عنها الشاعرة، عذابات الأنوثة في عالم يضج بالحرب، ويغتال البراءة، ويترك بذور الألم تنمو أشجاراً هائلةً في النفوس المتألمة من الوحدة.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي