مظفر النواب: الشاعر والإنسان في «رحلة البنفسج»

2023-12-10

موسى إبراهيم أبو رياش

يُعد الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب من أكثر الشعراء العرب شعبية في العقود الماضية، شاعر إشكالي، لم يوفر أحدا من الزعماء والقادة العرب، وأشبعهم هجاءً وقدحا. كان شاعرا جماهيريا، يخاطب الجماهير الغفيرة، ويفجر غضبها تجاه الواقع العربي البائس المترهل المتخاذل. وقد كُتب عن مظفر النواب العديد من الكتب والدراسات، ومنها هذا الكتاب الذي بين أيدينا للعراقي عبدالحسين شعبان والموسوم بـ«مظفر النواب.. رحلة البنفسج» الصادر في بيروت عن دار النهار، سنة 2023، وجاء في 240 صفحة، ويتكون من: مقاربة استهلالية، وخمسة أقسام، بالإضافة إلى إهداء ومعلومات عامة عن مظفر النواب، ومعلومات عن الكاتب، ومجموعة من الصور للكاتب مع مظفر النواب، ومسرد للأعلام التي وردت في ثنايا الكتاب.

يأتي هذا الكتاب وفاءً من الكاتب لصديقه مظفر على مدى خمسة عقود، و«إجلاءً للحقيقة، وإلقاء ضوء كاشف على شعره وشاعريته، فضلا عن تعريف القارئ العراقي والعربي به وبشعره» وتناول بعض الموضوعات والنقاط التي قد تكون مجهولة عند كثير من محبي مظفر النواب ودارسيه والمهتمين بأمره. وتتناول هذه المقالة بعض جوانب الكتاب من خلال أربعة محاور.

ملامح من السيرة

ولد مظفر النواب عام 1931 في كاظمية بغداد، وحصل على بكالوريوس لغة عربية من جامعة بغداد عام 1953. عمل مدرسا ثم مفتشا في وزارة المعارف. نشر أول قصائده الشعبية «الريل وحمد» عام 1958، ونالت شهرة كبيرة، وكرسته شاعرا شعبيا مجددا. حُكم عليه بالإعدام عام 1964، وخفف إلى المؤبد، وقضى فترة في سجن نقرة السلمان، ثم نقل إلى سجن الحلّة، الذي هرب منه مع 42 سجينا في قصة حفر النفق الشهيرة سنة 1967، وصدر عفو عنه وعن السياسيين الهاربين والمحكومين بعد انقلاب 17 تموز/يوليو 1968، وأُعيد إلى وظيفته. اختار المنفى منذ 1969، وعاش في عدة مدن منها: بيروت ودمشق وطرابلس وأثينا وباريس، وتنقل في عشرات غيرها. زار العراق مرة واحدة في أيار/مايو 2011. حلَّ ضيفا على الشيخ سلطان القاسمي أمير الشارقة في سنواته الأخيرة، وتوفي في الشارقة في 20 مايو 2022 بعد صراع طويل مع مرض باركنسون.

أصدر مظفر النواب أول مجموعة شعرية عام 1969 وهي «للريل وحمد» وأصدر بعدها «حجام البريس» في الشعر الشعبي، ثم تبعها ثلاث مجموعات بالفصحى وهي: «وتريات ليلية» و«أربع قصائد» و«المساورة أمام الباب الثاني». وعُرف النواب بانتمائه للحزب الشيوعي منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، وانحاز إلى تنظيم القيادة المركزية الذي انشق عن الحزب سنة 1967، لكنه انصرف بعد ذلك عن العمل الحزبي، وعُرف بصفته مثقفا يساريا ثوريا مستقلا.

آراء ومواقف

وثّق الكاتب العديد من أقوال وآراء مظفر النواب التي سمع معظمها منه مباشرة، وهي تفصح عن معدن مظفر وثقافته وفكره واهتماماته، ومنها:

عن العلاقة بين الشعر والفلسفة يقول: «الشعر إنسانيا يعني الفكر، والفكر فيه فلسفة، ولا شاعر حقيقي دون تفلسف، والشعر أيضا حس ورؤية ومخيلة وحلم وتأنسن… والشاعر يحلّق في سماء الفلسفة مستعينا بكل ما هو تاريخي في إطار هارموني، يتناول الكليات دون أن يهمل الجزئيات».

ويطالب بالحداثة وعدم إهمال الموروث، يقول: «الحداثة ليست ماكنة يمكن استيرادها، إنها وإن كانت حاجة، إلا أنها ينبغي أن تنبع من داخل مجتمعاتنا وتتطور من داخل لغتنا وتكون جزءا من تاريخنا، بما فيه معرفتنا بقديمه، فليس كل تراثنا غث، وإن كان هناك ما هو سلبي مثل بقية الحضارات والثقافات الأخرى، ففيه جوانب مهمة ومشرقة، ويمكن استحضارها، ليس بهدف الاستنساخ أو التقليد، بل للاستفادة من دروسها وعبرها والبناء عليها. إنها عملية تجدد حضاري لا يمكن للأمم التقدم دونها، فكيف نلغي أو نقصي تراثنا الزاخر الذي مدَّ البشرية لقرون من الزمن بمنجزات ما زالت تعيش عليها وتعترف بها». ويرى أنَّ فلسطين هي الأيقونة والقصيدة: «إنها الأيقونة التي لا يكتمل الشعر دونها، وهي القصيدة الدائمة عنوانا للتحرر والعدالة، وهي أهم قضية إنسانية عادلة على مستوى الكون، وإذا كان البشر هم في صيرورة إنسانية واحدة، فالقلق الإنساني الذي يعيش في ذواتنا وفي كل ذات إنسانية هو العدالة، والعدالة لفلسطين باستعادتها دولة حرة ديمقراطية تتسع للجميع». وعن رؤيته للدين والسلفية يقول: «لقد حوّلنا بعض الأفكار إلى دين، وبعض المقولات المفصولة عن ذاتها إلى تعاليم دينية، وهكذا فالسلفية لا تخص المتدينين وحدهم، بل إنَّ الآخرين وقعوا فيها في ظل جمود وتحجر، وعدم قدرة على قراءة الجديد واتباعه. وإذا كان هذا على الصعيد النظري، فإنه أخذ طابعا شديد القسوة والعنف على المستوى العملي. هكذا تبدد الكثير من التضحيات وانزلق الكثير من التجارب الاشتراكية والتحررية إلى متاهة الاستبداد والظلم».

شهادات

تضمن الكتاب عشرات الشهادات من الكاتب وغيره في حق مظفر النواب؛ شاعرا وإنسانا، فقد خبره عن قرب، ورافقه مدة طويلة، ودرس شعره جيدا، ويمكن إجمال بعض هذه الشهادات بأنه يرى أنّ: صورة مظفر تقترب من صورة برومثيوس الذي انحاز للبشر حاملا شعلة النار الإلهية من جبل الأوليمب لتكون قبسا لهم، متحديا، ورافضا الخنوع والمساومة. ورفض الشائع والمستقر، ليكون القدوة والمرجع في قوة انطلاقته ونصاعة بياضه، متجاوزا الحاضنات الرسمية السياسية والحزبية فنيا وثقافيا وإنسانيا. وأصبح بوصلة وشراعا باختيار طريقه الخاص في الإبداع بدلا من الإتباع، والحداثة بدلا من القدامة، والأشكال الجديدة بدلا من القوالب الجامدة، وتمرد على المسلمات بمجملها، للخروج من شرنقة الخنوع إلى فضاء الحرية، ومن قيد الاستتباع إلى رحاب الاستقلالية، ومن عبء التقليد إلى شاطئ التجديد. وهو يحاول فرز الحلم عن الوهم. وعلى الرغم من تبدد الكثير من الأحلام، فإنه ظل يقبض على جمرتها، ليس بيده فحسب، بل بأسنانه، بكل طهرية واستقامة. وكان حالما كبيرا، عاش عمره كله وهو في حالة حلم، وكان أممي النظرة وكوني التوجه.

وعن مظفر النواب الإنسان القريب من القلب، يقول: «إنه عاش حياته زاهدا أقرب إلى قديس، مستقيما وصادقا وشجاعا في مواجهة الزيف والكذب والخنوع، ما إن تتعرف عليه حتى تنجذب إليه، فهو من طينة تحلو لك رفقته، حيث تأنس بصحبته وتكتشف يوما بعد آخر الكثير من الخصال والسجايا الإنسانية الفريدة والأخلاقية النبيلة التي تمثل قيما عليا يسعى البشر لتجسيدها أو تمثلها. يجمع بين جوانحه عفوية طفل ودهشته وتلقائيته وصدقه ومشاكسته وتمرده، مثلما يجمع تجربة شيخ مجرب وحكيم خبِر الحياة ودروبها الوعرة، ونتعجب كيف استطاع أن يوائم بين النقيضين، بساطة الطفل وحكمة الحكيم». ويقول شعبان عن تناغم قوله وفعله بأنه: «أقرن القول بالفعل دائما. ولم أعرف مبدعا كبيرا كان يُحكِمُ الصلة على نحو فائق بين الأقوال والأفعال، وبين الإبداع والسلوك والأخلاق والسياسة والثورة والجمال والصلابة المبدئية والمرونة العملية والكبرياء والتواضع وحب الحياة والزهد بها مثل مظفر النواب». وعن مظفر النواب في غربته ومنفاه وعذاباته يقول: «كان شعر مظفر ملتاعا لشاعر ملتاع، وشعرا منفيا لشاعر منفي، وهو شعور بالاغتراب الدائم لازم النواب طيلة حياته، فقد كان مغتربا وهو في وطنه، ومغتربا وهو في داخل حزبه، ومغتربا عن وطنه ومغتربا عن أمته من النهر إلى البحر، وأنه ظل مسكونا بالشعر والجمال وعاش حياة اغتراب داخلي وخارجي، لكنه كان يضيء أوجاع المدينة مثلما كان يضيء أسرارها، فالشاعر يتجاوز كل القيود ليبلغ المعنى والدلالة، باحثًا عن الآخر الذي حسب رامبو هو أنا». وفي ذلك يقول جاسم المطير عن مظفر النواب: «بقي متشابكا مع ارتعاش أرض الفقراء والكادحين، مداوما على مواصلة إبداع كماله الشعري داخل العواصف النضالية وخارجها، متحملا أمواجها دون ألم رياحها وقسوة غبارها»

وحول صوت مظفر النواب الشجي، وتأثيره في المتلقي وشعبيته الكبيرة، يقول شعبان: «أشعر أحيانا بأننا حين نستمع إلى مظفر النواب فإنّ الكلمات لا تخرج من فمه، بل يتحدث بفؤاده، وهكذا يطغى عنده حب اللغة لدرجة العشق والتوله.. وهو راصد وقارئ ومصور وموسيقي يحس بالأشياء ويشمها ويسمع نبضها، ويقوم بتفكيك الظواهر وإعادة تركيبها لاستجلاء قدراتها وإظهار دلالاتها، بالمألوف واللامألوف.. وعلى الرغم من كونه شاعرا منبريا واعتاد الوقوف طويلا أمام الجمهور، إلا أنّ منبريته لم تكن دعوية وتبشيرية ودعائية، بقدر ما كانت تساؤلية عقلية نقدية، ومثلما فيها اقتحامية وتدافع لكي تأخذ مكانها خارج المألوف، فقد كانت الأكثر رنينا وموسيقية وإيحاءً وبوحا، وبقدر ما كان الصوت عاليا، إلا أنه كان شفيفا لأنه صادر من القلب وباحث عن الحقيقة، وأية حقيقة في الشعر فتلك حقيقة مجسمة».

خصائص ومختارات

يبتدأ الكاتب قسم «مختارات شعرية» بإطلالة سريعة على خصائص قصيدة مظفر النواب، ويمكن تلخيص ما أورده؛ بأن الشعر لدى مظفر النواب لغة ورؤية وصورة وجمال وافتنان وآفاق، ويجتمع في شعره الصوت والصورة، وفي الصوت صور متعددة، وفي الصورة أصوات موسيقية متنوعة. وتعتبر القصيدة النوابية مرحلة جديدة من الحداثة الشعرية باللغة المحكية (الشعبية) وتميز النواب بلغته الثرية ومفردات قاموسه المتنوعة وصوره الباهرة، فضلا عن جمالية تركيباته المجازية، وتعتبر قصائده لوحات فنية يمكن قراءتها بتأويلات وتفسيرات واستعارات ورمزيات متنوعة. وشاعت في قصيدته المنبرية الشعاراتية التحريضية التعبوية؛ لأنها قصيدة مباشرة تخاطب العواطف والمشاعر والأحاسيس. وتجتمع في قصيدته صور مختلفة متداخلة ومتفاعلة، والصورة تولد صورة أخرى، بحيث تصبح القصيدة أشبه بحكاية وحبكة درامية، يظل المتلقي ينتظر النهايات. وتتراقص الحروف متناغمة في قصيدته ما يمنحها جمالا مضافا شكلا ومضمونا. وبهذه الرمزية والدلالة يمسك النواب برقة ووداعة وشفافية بتلابيب النفس البشرية بأوسع تجلياتها.

وقد اختار شعبان، حسب ذائقته الشعرية عشر قصائد شعبية، وثماني قصائد باللغة الفصحى، كنماذج ممثلة لتجربة مظفر النواب الشعرية. يقول في قصيدته الشعبية «حجام البريس» يصف فلاحي الأهوار ويمدحهم ويشيد بجهودهم:

«ابوس ايد اللي يسگي الناس..

ويحمّل تمر، وسلاح، ورصاص..

بشرايعها..

أبوس إيد اليشيل البرنو الزبنيه..

بطرگ ثوبه..

وأبايعها»

وفي قصيدة «المنفى كالحب» يصف منفاه ومعاناته، يقول:

«المنفى يمشي في قلبي

في خطواتي في أيّامي

المنفى كالحبّ يسافر

في كلّ قطارٍ أركبهُ

في كلّ العرباتِ أراهُ

حتّى في نومي

يمشي كالطرقات أمامي

في هذا العصر

يكون الإنسان

ويُعرَفُ مِن منفاهُ»

وبعد؛ فإنّ كتاب «مظفر النواب.. رحلة البنفسج» جهد كبير مقدر، يأتي إضافة نوعية لما كُتب عن الشاعر الكبير مظفر النواب، ويكشف جوانب إنسانية وإبداعية يجهلها الكثيرون، بحكم صداقته ومعرفته بالشاعر، سطره من باب الوفاء، وخدمة للأدب. وربما هو من الكتب القليلة التي ينبري فيها مبدع ليكتب عن مبدع صديق أو مجايل له عن قرب؛ إذ يغلب على الساحة الأدبية الجفاء والتحاسد والقطيعة أحيانا، وعدم احترام بعضهم بعضا، وشيوع القدح والذم وتقليل الشأن، وقبل ذلك، أنهم لا يقرأون لبعضهم ناهيك عن الكتابة عن إبداعهم. إنّ في جعبة كل مبدع الكثير حول مبدعين آخرين خالطهم وعايشهم من الجوانب الإنسانية والمواقف والأفكار التي لم يسطروها، ولو أنّ كل مبدع وثق ما يعرفه بموضوعية وإنصاف لأثرى المكتبة العربية بمادة تسلط الضوء على كثير من الجوانب، وتملأ الفجوات، وتتيح للأجيال أن تتعرف على مبدعيها إنسانيا وإبداعيا.

كاتب فلسطيني أردني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي