صعوبات فلسفة التاريخ

2023-12-09

المهدي مستقيم

أقدم الباحث والمترجم المغربي محمد الأشهب على مبادرة حميدة، إثر نقله إلى لغة الضاد- ولأول مرة- أحد أهم مصنفات الفيلسوف الألماني أودو ماركفارث، لاسيما أن التأليف العربي المعاصر يخلو خلوا تاما من أي أثر من الآثار التي خلفها هذا الأخير في مسيرته الفكرية الحافلة، يقول محمد الأشهب: «بحكم أنّ أودو ماركفارث غير معروف في النقاش الفلسفي المعاصر في العالم العربي، إذ لم نعثر على أي مقال مترجم ولا حتى أي فقرة مكتوبة عن فلسفته بالعربية، ارتأيت أن أقدم لمحة مختصرة عن أعماله ليستأنس القارئ ببعض الأفكار حول مساره الفلسفي واهتماماته ووضعه في سياق النقاش الفلسفي الألماني المعاصر، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى غاية وفاته». (أودو ماركفارت، صعوبات فلسفة التاريخ، ترجمة محمد الأشهب، منشورات الجمل، 2022).

ومن بين أبرز الآثار التي خلفها أودو ماركفارت نذكر على سبيل الذكر لا الحصر: «المنهجية الشكية في ضوء كانط» (1958)، «صعوبات فلسفة التاريخ» (1972 -1973)، «وداعا المبادئ» (1973 -1981 )، «فلسفة الجمال» (1959 -1989). «دفاعا عن الصدف» (1982 -1986)، «السعادة في الشقاء» (1978 -1994)، «فلسفة التعويض» (1981 -1999)، «الفرد وتوزيع السلطة» (1984 -2003)، «الشك في الحداثة» (2008). ما السبب الذي يكمن وراء غياب أودو ماكفارت -على أهميته- عن التأليف العربي المعاصر؟

يجيب المترجم قائلا: «الجواب في نظري يعزى إلى سبب أساسي هو غياب الترجمات العربية وأيضا الترجمات في اللغات الأخرى مثل الإنكليزية والفرنسية، فباستثناء ترجمة كتاب «صعوبات التاريخ» إلى الفرنسية والإسبانية وكتابين آخرين للإنكليزية لا نكاد نعثر على ترجمات أخرى لأودو ماركفارت، التي بإمكانها أن تكون جسر تواصل بين المثقف في العالم العربي ونصوص أودو ماركفارت». (المرجع نفسه).

البعد اللاعقلاني في فلسفة التاريخ

يفصح مصنف «صعوبات فلسفة التاريخ»، عن رؤية أودو ماركفارت النقدية التأويلية، إذ يراهن من خلال نزعته الشكية على إخضاع المثالية الألمانية والتيوديسا أو العدالة الإلهية وفلسفة التاريخ والحداثة والتقدم إلى مِحَكّي الشك والنقد، قصد الكشف عن الأبعاد اللاعقلانية في فلسفة التاريخ، بعد أن شهدت هذه الأخيرة جملة من الخيبات والإحباطات: «يقول أودو ماركفارت مدافعا عن أطروحته المركزية: فلسفة التاريخ هي على الأقل فلسفة غير عقلانية، وذلك عندما تمجد باسم التحرر ما يتعارض معه، وباسم الاستقلالية تشيد بالتبعية. إنها فلسفة المتناقضات بامتياز». (المرجع نفسه). لم يعد بإمكاننا إرجاع الشرور التي ما برحت تخيم على العالم إلى كوارث بيئية وأوبئة وفقر، إلى الله، بل إلى الإنسان. من هنا تتولد الخيبة التي ترخي ظلالها عن الذات الإنسانية، إذ لم تتمكن هذه الأخيرة بعد من بلوغ النهاية السعيدة، نتيجة سطوة تجربة الشر على العالم؛ ونقصد: العوز، والحاجة، والخوف من المجهول، والإحساس بالذنب والاضطهاد، إلخ، وهو الأمر الذي يؤدي إلى انبجاس التجلي اللاعقلاني لفلسفة التاريخ: «وفي حالة عدم تحقق النهاية السعيدة وإحلال الشر محل الخير، وإحلال التشاؤم محل التفاؤل، فإن ذلك لا يعني البتة أن الله هو المسؤول عن ذلك من وجهة نظر فلسفة التاريخ، لأنها فلسفة تخلت عن الله وأعفته من مسؤولية التدخل في العالم، وعوضته بالإنسان الفاعل والمسؤول عن كل أفعاله». (المرجع نفسه).

يركز أودو ماركفارت أبرز النتائج التي تنجر عن الجانب العقلاني لفلسفة التاريخ في فشل هذه الأخيرة أمام سطوة العقل الآداتي، فإذ يتخذ هابرماس من العقل التواصلي بديلا للعقل الأداتي قصد تجاوز النزعة التشاؤمية للجيل الأول، فإن ماركفارت يتخذ من فلسفة المواطنة مسلكا من شأنه إتاحة سبل بزوغ مجتمع منفتح يستند إلى تاريخ كوني قوامه التعدد عوض الاستناد إلى تاريخ كوني خطي قوامه الوحدة.

الأنثروبولوجيا الفلسفية والعالم المعيش

يرفض أودو ماركفارت الأطروحتين المتعارضتين إزاء أصل الأنثروبولوجيا وفصلها، إذ لم يتردد في استبعاد الأطروحة الأولى التي تشدد على قدم الأنثروبولوجيا استبعاده للأطروحة الثانية التي تشدد على حداثتها (= ماكس شيلر). على أن انبجاس الأنثروبولوجيا حسبه، لم يتأت إلا إبان حلول القرن الثامن عشر- على الرغم من استعمال المصطلح في فترة مبكرة من تاريخ الفكر البشري (= القرن 16 )- ويحيل بالقرن الثامن عشر على كانط الذي أحدث منعطفا حاسما في فلسفته النقدية، «وبأطروحته هذه يكون أودو ماركفارث قد صحح خطأين ظلا شائعين في تاريخ الفلسفة. الخطأ الأول أن الأنثروبولوجيا أقدم من الفلسفة. والخطأ الثاني أن الأنثروبولوجيا لم تبدأ إلا بشكل متأخر مع ماكس شيلر». (المرجع نفسه).

يختلف الاهتمام الذي تبديه الأنثروبولوجيا الفلسفية بشأن الإنسان عن الاهتمام التي تبديه فلسفة التاريخ وباقي الفلسفات، فإذ ينصب اهتمام فلسفة التاريخ على الإنسان وغايته النهائية، فإن اهتمام الأنثروبولوجيا الفلسفية ينصب على طبيعة الإنسان. وتأسيسا عليه، آثر أودو ماركفارث ترجيح كفة العلوم الإنسانية في أفق فهم الإنسان في كليته عوض الاكتفاء بفحص جانب من جوانبه: اللغة، الاقتصاد، المعرفة، الأخلاق، إلخ، يقول ماركفارت: «يبدو اليوم أن أي ظاهرة أو قضية أو مجال من الواقع يتم تناوله ينبغي إثباته عبر أساسيات المقاربة الأنثروبولوجية وما يمكنها أن تكشف عنه. وقد سبق لأرنولد غيلن أن تكلم عن نوع من الشيوع لكلمة أنثروبولوجيا «فخلف الاستعمال العام والانتشار الواسع لمصطلح الانثروبولوجيا اليوم يقف تيار مهم هيمن لفترة معينة. وهو الذي يجب علينا اليوم أن نسائله من جديد لمعرفة حقيقة هذا المصطلح». (المرجع نفسه).

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي