سردية الاستعادة في رواية «بنات غائب طعمة فرمان»

2023-12-09

علي حسن الفواز

تأخذنا رواية «بنات غائب طعمة فرمان» للروائي خضير فليح الزيدي الصادرة عن منشورات مسكلياني/ تونس 2023 إلى تقاطعات ثنائية التاريخ والسرد، حيث تخضع هذه الثنائية إلى تقانات اللعب السردي، القائم على توظيف فعل التخيّل بوصفه تمثيلا للسرد، وتقويضا للتاريخ، فينشغل الروائي بسردية هذا التقويض لصالح السرد، ويُعطي لسردية الغائب فاعلية الحضور من خلال دوره في لعبة البحث عنه، إذ يُحرك الأحداث، فيصطنع لها تحبيكاً يتجوهر حول ثيمة البحث، وحول ما تثيره من أسئلة عن ما يجري في الواقع الذي تركه، وفي الزمن الذي ترك تمثلاته الحكائية عبر سروده الكثيرة..

عتبة العنوان تقترح إسقاطا سرديا لنص داخلي يتحول إلى مفتاح الكشف السردي للرواية، وربما يكون هو الدال السيميائي للحدث الرئيس الذي يوجّه منطق السرد في الرواية، فهو عنوان توصيفي تتضمنه مخطوطة تستنفر نوعا من الميتاسرد، حيث تستدعي البحث عنها، بموازاة البحث عن الغائب، لكن الروائي يقترح للعنوان موجّها آخر، تتضمنه عتبة «الإهداء» بالقول «إن الكتابة هي آخر مقترح لعزاء الآباء» أي تكون الكتابة هي النسق الضام، لسيمياء العنوان، ولسردية البحث، وعلى نحوٍ يجعلها تتضاد مع مهيمنة «النسيان» بوصفه إعلانا عن موت المؤلف الذي يصنع التاريخ، وهذا ما يجعل لعبة السرد تبدو وكأنها تصنع حياة مضادة عبر الكتابة..

سردية العتبات تكشف عن طبيعة موجّهات الرواية، وعن التعالق بين هذه العتبات وحمولاتها الدلالية، حيث تجعلنا العتبة الأولى أمام نصٍ موازٍ، العتبة الثانية أمام إغواء اللعبة السردية/ الكتابة، والعتبة الثالثة امام مواجهة الغياب/ النسيان. العناوين الداخلية في الرواية لها عتباتها أيضا في الترميز والإحالة، فهي تعمد عبر توظيف «الأنواء الجوية» كتمثلات سيميائية للتعرّف عبرها على إحالات الواقع وعلاقات الشخصيات، فعبر خمسة عشر عنوانا «جويا» يرسم الروائي سمات المخاض النفسي للشخصيات، مقابل عشرة عناوين تتعلق بـ»المخاض» الوجودي لتلك الشخصيات، وبين المخاضين تتبدّى مساحات تأويلية للقراءة، وللكشف عن علاقة تلك العناوين بلعبة التأليف، وبما تُحيل إليه من علاقات خفية بين ما هو مسكوت عنه في التاريخ، وما هو مفضوح في السرد.

سردية استدعاء الغائب

قد تبدو وظيفة الاستدعاء التي يقترحها المؤلف نظيرا لمقترح وظائفية فلاديمير بروب في تحريك أحداث الحكاية من الغياب إلى الحضور، لكنها في رواية الزيدي، تتحول إلى مغامرة، تتأطّر فيها مفارقة الغائب المُستدعى، عبر غرائبية الشاهد الذي يواجه التباسات الواقع العراقي المتحول والصعب، وعبر تحبيك سردي تقوم به شخصيات مأزومة، تعيش صراعات حول البحث عن الغائب، وحول الحياة الزائفة التي تعيشها، فتضع القارئ أمام مساحات تأويلية مفتوحة، تخص تقانة الاسترجاع، وتقانة الزمن السردي، إذ يكون هذا الزمن هو المجال التمثيلي للدخول إلى يوميات الرواية، ومتابعة شخصياتها، في صراعها واغترابها، وهي تبحث أو تتآمر أو تتحول، أو تساكن المتاهة، وعبر إحالات تنعكس على هوية الرواية، وعلى الأسئلة الحافّة بها، فهل هي رواية ذات سرد غرائبي أو عجائبي، أو جزء من لعبة «الواقعية السحرية»؟ أم هي لعبة سردية أراد الروائي من خلالها أن يعرّي اللحظة العراقية عام 2006 وهي زمن الصراع الأهلي/ الطائفي، حيث يستدعي شخصية غائب طعمة فرمان من الغياب/ الموت مع شخصيات هامشية ليصطنع عبرها تكوينا سرديا تتفجّر صوره الذهنية، وتخيلاتها، بما يجعل من سلطة السرد طاقة اختراق الواقع، لفضحه، ولممارسة سخريتها المرّة، وعبر شخصيات نافرة، ومسحوبة من التاريخ، أو من الهامش، لكنها تؤدي وظائف سردية بوصفها شخصيات «من ورق» كما يسميها بارت.

شخصيات الرواية – الغائب معروف، المحامي جبر الشوك، ابنة البيرقدار دلال، المثقف هاني بارت – تصنع لنا نسيجا يشتبك فيه التاريخي والهامشي عبر لعبة تخيّل فارقة، تبدأ من شيفرة القسم الأول «من التراب» بوصفها شيفرة استدعاء الموتى إلى مجلس عزاء «الميت الغائب» كدلالة لبدء لعبة «التخيّل» التي تقود إلى الكشف عن البنيات المغلقة في الرواية، بدءا من بنية الغائب، إلى بنية المخطوطة، إلى بنية البحث، وانتهاء ببنية الجنون التي تجعل الروائي يُنهي اللعب كاشفا عن رؤيته التي تخصّ إدانة الواقع وفضح تشوهاته، وسخريته من حرب الجماعات، وتعريته لعزلة المثقف العراقي المضطرب والمسكون بتخيلات وغوايات الجنس والمال واللغة وكوميديا الصراع الطبقي.

استدعاء غائب طعمة فرمان من الموت، يناظره استدعاء رولان بات من الموت أيضا، وهذان الاستدعاءان قد يفتحان النص على مساحات قرائية/ تأويلية تتناص مع سرديات المسرح عند براديللو، وكتابة علي بدر في رواية «بابا سارتر» عن فيلسوف الصدرية، على مستوى توظيف الشخصية التي تبحث عن مؤلف، أو على مستوى توظيف القناع في تسويغ السخرية من أوهام «العلامات» كنظير للحديث عن أوهام الوجودية الشائعة عند مثقفي الستينيات في العراق.

بارت والقناع البغدادي

تتحول شخصية «هاني بارت» التي يستدعيها المؤلف للبحث عن الغائب، إلى موجّه سردي عبر إدراجه في نسق اللعبة، فيصنع لنا أحداثا، صحيح أنها تتجوهر حول سردية البحث، لكنها تغوص في متاهة المدينة، كاشفة عن عوالمها الجوانية وهوامشها، وعن محنة مثقفي جماعة «بيتنا ونلعب بيه» غريبي الأطوار، الذين يتوهون ببطولة «تفجير اللغة» وتجديد قاموسها، فيتماهون مع تحولات قائدهم الرمزي «هاني» عبر ما يعيشه من أوهام، ومن أسفار في «المباغي والحانات والملاهي» بحثا عن المفردات الجديدة، لكنهم يتحولون مع تحولاته الجديدة بعد توظيفه للبحث عن الغائب، وبعد أن يحصل على المال من دلال البيرقدار.

هذه التحولات تتحول إلى صدمة، توقظه من الوهم، ومن الهامشية، ليجد نفسه عند تحولات لم يألفها، توقظ فيه غرائزية الجسد وشهواته المكبوتة، فتجعله أكثر هوسا، وأكثر تلذذا بالسلطة الرمزية التي يتوهمها من خلال علاقته الغريبة مع دلال ومع المحامي «جبر الشوك». حكايات «هاني» المتخيلة عن زيارة رولان بارت إلى بغداد بدعوة من جمعية لغوية ناشئة، لإلقاء محاضرة عن علم العلامات، تدخل في سياق تلك الغرائبية، فهو يتحدث عن تجواله في «سوق الهرج» في منطقة الميدان، وجلوسه في مقهى حسن عجمي، ومقهى الزهاوي، حيث «هاجم لغة الزهاوي الخرقاء في شعره، لكنه أثنى كثيرا على مواقفه الفكرية المتعلقة بالتبغدد والسفور وحرية المرأة والتبشير بالفكرة القدرية لتفسير تطور إنسان الكينونة البغدادية».

استدعاء غائب طعمة فرمان من الموت، يناظره استدعاء رولان بات من الموت أيضا، وهذان الاستدعاءان قد يفتحان النص على مساحات قرائية/ تأويلية تتناص مع سرديات المسرح عند براديللو، وكتابة علي بدر في رواية «بابا سارتر» عن فيلسوف الصدرية، على مستوى توظيف الشخصية التي تبحث عن مؤلف، أو على مستوى توظيف القناع في تسويغ السخرية من أوهام «العلامات» كنظير للحديث عن أوهام الوجودية الشائعة عند مثقفي الستينيات في العراق. لعبة السرد في الرواية بدت وكأنها أكثر استغواء بلعبة الأقنعة، حيث يتم توظيفها لتعرية حُجب المسكوت عنه والمخفي، وما حدث في عام 2006 وما بعده، هو زمن «انفجاري» تحوّل فيه الزمن إلى عتبة مفارقة تتمثل اليوميات التي عاشتها الشخصيات التي صنعها الزيدي كمعادل ضدي للشخصيات التي صنعها فرمان، فهي شخصيات مُعذبة ومشوهة، وضالة، تعيش الصراع النفسي والاجتماعي والطبقي بوصفه تمثيلا لوجودها، فتذهب إلى التخيّل، كونها شخصيات من ورق كما يسميها رولان بارت، أراد الزيدي أن يجسّ من خلالها محنة الواقع، وما تعيشه من رهابات هواجس هذا التحوّل المُفارق، وعبر تقانات تدخل في سياق اللعبة السردية كالميتاسردية» أو الحكاية البوليسية، أو المغامرة العاطفية، أو البحث عن غائب عالق بالتاريخ وليس بالواقع..

أهمية توظيف هذه التقانات تكمن في حيويتها لتبرير التعالق التأويلي مع الواقع، فرغم فانتازيا السرد أو غرائبيته في الرواية، إلا أنها بدت أكثر تشويقا في إثارة الانتباه إلى فضح المخفي من الواقع، وإلى علاقة شخصيات الهامش بفكّ رموز جريمة قتل الأب، وقتل الزوج، وفي التعرّف على التحولات العميقة في تاريخ المدينة، وفي علاقة هذا التاريخ مع لعبة الروائي في صناعة سردية «المدينة المعذبة» وهي تعيش تشوهاتها عبر ما تعيشه شخصياتها في روايات فرمان، وفي رواية الزيدي، الذي يلبس قناع هاني بارت وهو يقوم بتحرير مخطوطة «بنات غائب طعمة فرمان» المسكونة بأشباح الماضي وخطاياه.

لقد تمكن الروائي الزيدي من تخليق جوٍ تخييلي، يستفز القارئ على متابعة لعبة البحث عن الغائب، لينتهي عند «كسر توقعه» بالكشف الصادم عن سر لعبة التأليف، وأن كل الشخصيات غير حقيقية، وأن الروائي اصطنع لها ثيمة عجائبية لكي يعرّي الواقع والتاريخ من خلال السرد، أو يجعل التاريخ أمام أسئلة القارئ/ المتلقي وهو يتحرك في مساحات تأويله، بوصفها مساحات تتحمّل الإثارة والتشويق والسخرية والتمثيل الذهني الذي تُحدده تقانات الكتابة، بدءا من تقانة العتبات/ العناوين/ الاستهلال، وانتهاء بشهادة الناشر التي يرهنها إلى تساؤل: ماذا لو عاد غائب طعمة فرمان إلى بغداد؟

هذا التساؤل غير الواقعي، أدخله الروائي الزيدي في لعبة التخيل السردي، عبر استدعائه ليكون شاهدا سرديا على تحولات المكان، وفاضحا لمقموعات الأنثروبولوجيا العراقية، وكاشفا لغرائبية العالم الذي يعيشه مثقفو الهامش المديني، عبر جمعية «بيتنا ونلعب بيه» وجمعية «الرصيف» و»مقهى الخرسان» وجماعة «كسر الأنماط» وجماعة «فقراء الرواية الجديدة» وجماعة «البطالة السافرة» وهي جمعيات تراقبها «الحكومة» لكنها لا تهتم بشأنها، لذا تركتها لأوهامها وعبثها وجنونها..

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي