«في انتظار خبر إن»: لبنان/ تونس/ فلسطين/ رواية فيها «إن»

2023-12-05

منصف الوهايبي

ليس من مقاصدي في هذا المقال، تلخيص رواية الطاهر لبيب الاستثنائية «في انتظار خبر إن» أو تفصيل القول في مكوناتها السردية من فضاء وبناء أحداث وشخصيات بلا أسماء، و»واقعية» أو «وثائقية» و»سيرة ذاتية». إنما أحب أن أقف على القضايا التي تثيرها كلما تعلق الأمر بـ»المدونة الروائية العربية الحديثة». ولعل عنوانها وهو عتبتها وسَاكِفها، يبطل «الإسمانية» إن لم يكن يسخر منها. ونعرف من الدرس اللغوي أن خبر إنَ يرد على عدة صور، وهو في الرواية شخص/ظاهرة أو نمط، وليس اسماً ظاهراً، سواء أكان مفرداً أو مثنى أو جمعاً. وليس من داع هنا إلى تفصيل القول في المثل «فيها إن» وفي إمكان القارئ أن يعود إلى الخبر الذي اشتق منه، كما جاء في «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» لابن الأثير؛ والحيلة اللغوية التي دبرها كاتب أمير حلب محمود بن مرداس، لإنقاذ علي بن منقذ الذي فر إلى دمشق، من بطش هذا الحاكم. فقد ساق الكاتب في خاتمة رسالته إليه، وهو يبشره بعفو الأمير عنه، عبارة «إن شاء الله تعالى» بتشديد النون في «إن»؛ فأدرك ابن منقذ أن «الخطأ» مقصود من الكاتب، حتى ينبهه إلى ما يضمره الأمير من الغدر، وأنه يومئ إلى الآية «إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك» القصص 20… فـ»المحذوف» أو «المضمر» هو المغزى، أي الشك أو الريبة أو الغموض أو «الاكتمال الذي لا يُصدق» أو «الخواتيم المستكرهة» وهو ما يومئ إليه النص في خاتمته، حيث يجري هذا الحوار» ـ اقرئي النص كما قرأك/ ـ أنتَ تطيل أمامي نفق الخروج منكَ/ ـ ستجدينني في نهايته/ ـ هذا إنْ…» وفي الصرخة الموجهة إلى الخطيب «اعطنا خبر إن، يا أخي، خلصنا» وقول المتكلم «طلبتَ خبر إن وقطعت جواب إنْ».

هل لهذه الواقعية أيديولوجيا، وهي التي تتسع في الرواية، لشتى الشخصيات وما يشتجر فيها أو يدور بخلدها من رؤى؟ وهي شخصيات تكتّم الكاتب على أسمائها «تغيب أسماء الأشخاص وتبقى أنماطهم» فهي غير مسماة، لكنها ليست مجهولة؛ إذ يستطيع القارئ العارف بالثقافة العربية المعاصرة، أن يستدل عليهم. وهذا أمر لافت؛ ونعرف أن الرواية أي رواية تحفل بالأسماء من حيث هي «معانٍ حافة» وأن الاسم «سيد الدوال» وأن الكاتب أي كاتب لا يسوق الاسم عفوا؛ وإنما يثبته بعد إحكامه في نفسه. فهل مرد هذا الأمر «تغييب الأسماء» إلى أن ما يشغل الكاتب هو «الظاهرة» وليس الاسم؟ قد يكون كذلك، وقد تكون الظاهرة في السياق الذي أنا به، أقرب إلى المعنى «الفينومينولوجي» أو «الظاهراتي» عند هوسرل، حيث الظاهرة هي «المعيش الذي يكمن فيه ظهور الشيء/الموضوع، والطريقة التي يتجلى بها، لوعي ما قائم في الفضاء، من خلال صور ظلية ووجوه متعاقبة؛ وليس وجهة نظر ترد في خطف النبض. والظاهرة بهذا المعنى تنضوي إلى بنية شبكة الوعي، وهي من ثم لا تستدعي عالما مخفيا أو سريرة مبطنة، من أجل ظهورها. أما «واقعية» هذا «الكتاب الروائي» كما أحب أن أسميه، فليست بالواقعية المتجانسة، إذ ما أن نقرأ النص، حتى ندرك أن الزمنية الروائية عند الكاتب لولبية لا تتوزع إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإنما هي حاضر أبدي: حاضر بيروت وتونس وفلسطين، وكأن كلا منها وجه للأخرى وقفا. وهو حاضر يدعونا إلى إعادة النظر في وظيفة الأدب الذي يتغير اليوم. ولعل هذا ما يجعل قارئا مثلي ينتبه في هذا «الكتاب» إلى بعد استشرافي فيه، ونحن نعيش محنة فلسطين، حيث الكتابة تحتل موقع المراقب، وهي في وسط الحدث؛ حتى ليمكن القول إن الأدب بدأ يتعلم من الصحافة ومن طريقتها في رصد الوقائع وتوثيقها وتسجيلها، أو ما يسميه ترومان كابوت (1924 ـ 1984): «الرواية الخيالية بلا خيال».

وهذا «الكتاب» المختلف بنية ولغة عن السائد الروائي، ينهض مثالا لافتا للتقنية الروائية العالية، التي تتميز لا باستخدام اللغة السردية فحسب، وإنما أيضا الصور المرئية أو ما يسمى «أيقنة الصورة» وأمثلتها في النص أكثر من أن أسوقها هنا حيث يصف المتكلم أو السارد بضمير «أنا» وهو «أنا» أخرى، بل هو يجرد من نفسه شخصا آخر، يتملاه في مرآة. ذلك أن الواقع أي ما هو خارج الكتابة؛ «بنية جوفاء». أما وأنا [الطاهر لبيب] تكتب هذا «النص» فهي شخص آخر مختلف. وحضور ضمير المتكلم في نظام النص، سواء أدرناه بصيغة «أنا» أو على مقتضى أسلوب «الالتفات» يمكن أن يدل حدسا أو ظنا على تجربة عند أي منا هي تجربة « التقبل الذاتي» أو إدراك الذات وتعرفها. إن «أنا» أشبه باسم لغير علم، يعقد صلة حميمة أشبه بوشيجة القربى، بين المتكلم وكلامه. وهذا الضمير على ذيوعه وشيوعه «شديد الغرابة» وليس بالميسور محاصرته، لتعقده وعدم ثباته.

أما وأنا [الطاهر لبيب] تكتب هذا «النص» فهي شخص آخر مختلف. وحضور ضمير المتكلم في نظام النص، سواء أدرناه بصيغة «أنا» أو على مقتضى أسلوب «الالتفات» يمكن أن يدل حدسا أو ظنا على تجربة عند أي منا هي تجربة « التقبل الذاتي» أو إدراك الذات وتعرفها.

ومن نافل القول أن نذكر أن الكتّاب أنفسهم يصرون على التمييز بين الكاتب من حيث هو «أنا اجتماعية» والكاتب من حيث هو «أنا إبداعية»: بيروت أواسط خريف 2011 وندوة «العرب إلى أين؟» التي يشارك فيها، في قاعة هي «فم فارغ، فكاه سقفها والأرض» أو هي «برميل ضخم صدئ».. جاره في الطاولة «مهضوم» كما يقال في لبنان أي ظريف خفيف الظل (وهي شخصية تحضر في ثنايا الرواية وفي خاتمتها).. ذكرى التحاق المتكلم السارد بالمدرسة في الجنوب (التونسي) وهو ابن ست سنوات.. شارع محمد الخامس في تونس.. النخل وصور الرئيس.. وحوار بينه والشاعر في المطعم (هو الذي ودعه المتكلم قبل أربع سنوات (وهو على ما أرجح أولاد أحمد، بل أنا أقطع بذلك، فطرافة الحوار هي من لطائف هذا الشاعر الصديق وهو يقترح على المتكلم السارد أن يجرب كتابة الرواية، بل هو يؤكد له وكأنه ينظر بعين الغيب «ستكتب رواية في بيروت إن انتظرتك فيها امرأة») ثم هو الجالس في المطعم ذاته إلى الطاولة ذاتها.. كما في الفصل.. أو في خواتيم النص حيث يدور الحديث عن «الثورة» التي ستأكل أبناءها.. وما إلى ذلك من صور حية مثل وصف «حرب تموز» واشتعال الجنوب اللبناني، وقصف مطار بيروت.. وأسماء الحرب المختلفة باختلاف المواقف منها، فهي «عدوان» و»مغامرة غير محسوبة العواقب» و»دفاع إسرائيل عن نفسها».. والصواريخ التي تطول حيفا.. المدينة التي أسندها الشاعر برفق، إلى جبل الكرمل..

ويدرك القارئ أن الشاعر هو محمود درويش «لكن قطرة ماء على ريش قبرةٍ في حجارةِ حيفا/ تعادل كل البحار» وسؤال شاعر صديق عن أجمل أبيات الشعر، فينشد الأبيات المنسوبة إلى أعرابية تزوجها أحد خلفاء بني العباس أو الأمويين (وهي تنسب أيضا إلى قيس بن الملوح مجنون ليلى)؛ واقتصر السارد، منها على البيت الأخير «لها آهة عند العشي وآهةٌ// فجيْرًا ولولا الآهتانِ لجنتِ» (ولعل الشاعر هو أدونيس، وأنا أعرف هذا منه؛ وهي أبيات أحفظها مثلما هو يحفظها، وإنْ باختلاف يسير).. ومع ذلك فثمة شخصيات أو شخوص لم أهتد إليها.. صادفهم السارد المتلفظ في بيروت هم «عناقيد رغبة.. بعضها جففه العمر.. وبعضها ينفطر كالرمان في الشمس» وبعضها مادة غنية لسيناريو سينمائي محكم. صحيح أن هناك فروقا وظلالا خفية دقيقة بين عالمي الأدب الروائي والسينما: فالأول إيهامي داخلي، والثاني طبيعي خارجي، والرواية تظل مسرودة في صيغة الماضي منذ الحركة السردية الأولى «لم أتوقع»؛ في حين أن السيناريو يُكتب في المضارع، لأن دلالة المضارع في الأصل دلالة استقبال. وهذا الحال يتواصل حتى عندما يكون هناك «فلاش باك» إذ تصطحب الكاميرا المتفرج إلى الماضي ليشاهده وهو يحدث، كما في هذا «الكتاب الروائي». إن عالم هذا «الكتاب» هو عالم المدينة: بيروت وتونس، مثلما هي عالم الارتياب الذي يسِم المكان والزمان، مثلما يسِم الأشياء والذوات؛ بما فيها الراوي ذاته، فهو مثل كل شخصية موضوع اتهام وريبة؛ ما دام كل شيء قابلا للتأويل في سياق المساءلة والتحقيق.

هي رواية «الآن/الهنا» وفي إمكان القارئ أن يقف عليها في ثناياها وتفاصيلها الممتعة، وعلى كل فإن الحفاوة بالمكان من حيث هو متخير سيميولوجي، ينطوي على دلالات حضارية وثقافية واجتماعية؛ هي السمة الفارقة في كتابة الطاهر لبيب، وإن مازجتها الخصائص الطبيعية والمعمارية، بأقوى الوشائج.. المعقودة على شجن وضنى كبيرين، المكتوبة بعربية عذبة رائقة، فيها ما فيها من طلاوة اللغة؛ تستوقفنا أكثر صورة بيروت وتونس. ونقدر أنها صورة قوية مقتبسة من سيرة الكاتب، ومن «العربي المعطوب» أكان مسكينا منبوذا أم عادلا قديسا.. الذي يقف مثلنا «في انتظار خبر إن».

شاعر وكاتب تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي