«قاض من مصر» وملامح الأدب القضائي

2023-11-25

عايدي علي جمعة

يقع كتاب «قاض من مصر» في ستمئة وعشرين صفحة، وهو كتاب للمستشار بهاء المري، يتناول سيرته الذاتية.

وقد ذاع صيت المستشار بهاء المري في الفترة الأخيرة، خصوصا أثناء قضية نيرة أشرف الشهيرة، تلك الطالبة في كلية الآداب ـ جامعة المنصورة، التي قتلها زميلها محمد عادل جهارا نهارا باسم الحب، في جريمة هزت أركان المحروسة كلها، ومعها الوطن العربي على امتداده، ولم تعدم في الوقت ذاته صداها العالمي.

وقد ظهر المستشار بهاء المري في هذه القضية الخطيرة، ممثلا لقضاء مصر الشامخ الذي أعاد الاطمئنان للمجتمع المصري بعد قلقه الكبير على بناته، وكان صوته وهو يحكم بالإعدام على هذا القاتل ممثلا لصوت المجتمع.

يتكون هذا الكتاب من خمس وعشرين كتلة سردية، رصدها المؤلف لبيان سيرته الذاتية، وما فيها من تحديات على جميع المستويات، تلك التحديات التي استطاع أن يذللها بدأبه وصبره تلهمه أمه التي تولت تربيته. فقد وجدت هذه الأم الشابة نفسها مسؤولة عن طفل صغير وأخواته البنات بعد وفاة زوجها الذي كان ملء السمع والبصر فجأة وهو في شرخ الشباب. فاستطاعت بإرادة من حديد أن تقود سفينة الحياة إلى بر الأمان، وكشفت في الوقت ذاته عن حب شديد لزوجها الراحل ورعايته في فلذات كبده، وكأنها تبعث برسالة دائمة له، أن ينام قرير العين في نومته الأبدية ولا يقلق أبدا على مصير هؤلاء الصغار.

وإذا كانت هذه السيرة الذاتية تدور حول الشخصية المحورية فيها، فإنها في خلال ذلك ألقت الضوء على سياق اجتماعي كاشف عن طبيعة المجتمع في مصر وتحولاته عبر ستين عاما. وكان لطبيعة عمل المستشار بهاء المري في القضاء دور كبير في إلقاء الضوء على ملامح مختلفة من الجريمة في مصر، خصوصا في الوجه البحري، وما صاحب ذلك من سياق خاص، واستطاعت بحرفية عالية أن تجعلنا في قلب الحدث منها، فعشنا إحباطات شخصياتها وإفلات بعضهم من العقاب في اللحظة الأخيرة. وتنوعت الجرائم بين القتل وما فيه من دماء صارخة والسرقة وما اكتنفها من ابتسامة مريرة نتيجة بساطة السارقين ووقوعهم تحت ضغط الحاجة الشديدة.

وكان لبعض جرائم القتل دوي يهز القارئ ومعه أهل المحروسة كلهم، ولكم يدهش القارئ حينما يرى أن بعض هذه الجرائم المروعة حدثت لسبب تافه جدا، مثل جريمة قتل سائقين للتاكسي خلال أسبوع واحد ووضعهم في شنطة التاكسي وهما مذبوحان، وكان ذلك القتل من أجل السرقة، حيث يتم استدراج سائق التاكسي وقتله وسرقة ما معه من مال، والمدهش أن ما معه من مال هو جنيهات قليلة جدا يشتري بها القتلة تعميرة حشيش، وأحد هؤلاء القتلة وهو جار لصاحب التاكسي يظهر جزعا كبيرا جدا أمام قريته حينما يعرف الناس خبر قتله ويمشي في جنازته بلا ضمير. وكانت البنية المكانية ذات تنوع واضح، فمرة في إحدى قرى البحيرة، ومرة في الإسكندرية ومرة أخرى في منوف أو القاهرة أو المنصورة وغير ذلك.

وكان للمكان دور كبير في الكشف عن طبيعة البيئة المصرية وتحولاتها، وما فيها من نباتات وحيوانات وما يسود فيها من قيم وتمثلات مهيمنة للعالم. أما البنية الزمنية فقد كانت لها خصوصية واضحة، وعلى الرغم من بداية هذه السيرة الذاتية من الطفولة مرورا بمراحل التعليم المختلفة والوظائف التي أسندت إلى صاحبها حتى اللحظة الراهنة، فإن الجانب الخطي في السيرة دائما ما كانت تكسره الذات الساردة، فتحدث انتقالات كثيرة من الماضي البعيد إلى ماض أقرب منه أو إلى الحاضر ثم العودة إلى استكمال السرد عن الحدث المحوري في الماضي، وهكذا، ما جعل القارئ يتلقى حدثا واحدا عبر سياقات زمنية مختلفة ويلعب الارتداد دورا مهيمنا، حيث يعرف المتلقي أن الكاتب ينفض نفسه وما تختزنه من ذكريات على الورق.

فمثلا حينما يصور السارد المحوري طريقه اليومي في الذهاب والإياب إلى مدرسته الإعدادية البعيدة جدا عن قريته، ممتطيا حمارا ومعه رصفاؤه من أهل قريته، وظهور حالة من التآلف العميق بينه من ناحية وزميلة له تمتطي حمارتها من ناحية أخرى، وانتقال هذه الحالة إلى حماره وحمارتها وتعودهما على السير بجانب بعضهما في الذهاب والإياب، وتعهد مختص بربط هذه الحمير الكثيرة في مكان واسع أثناء فترة الدراسة، يذكر الكاتب أن ابنته أطلقت على هذا المربط «باركينج الحمير» حينما سمعت من الأب حكايته عن ذلك، وهنا يظهر بوضوح الانتقال الزمني من الماضي الغارق في الذكريات إلى اللحظة الحاضرة.

تلمس هذه السيرة الذاتية بحرفية الفنان الكثير من الصور البسيطة جدا، لكنها في الوقت نفسه لها عمق بعيد الغور، على نحو ما نجد من كلمة سيدة عجوز طاعنة في السن، رفع جارها القوي عليها قضية في المحاكم كان الهدف منها أن يجبرها على أن تبيع أرضها له، وإذا بمحامي هذا الجار يجأر في المحكمة مدعيا أن هذه السيدة الفانية ضربت بقوة مهولة جارها، مما تسببت في إصابات بالغة لموكله، لكنها قالت ببساطة شديدة وذات تأثير فائق لهذا المحامي البليغ «أنت كنت هناك يا كداب».

كما كشفت هذه السيرة الذاتية للمستشار المصري بهاء المري عن أنماط متباينة جدا من الشخصيات، لكن الهيمنة في النهاية كانت للشخصيات الموجودة في ساحات المحاكم من قضاة ووكلاء نيابة ومحامين ومتهمين ومجرمين، وضباط وكشفت عن جوانب الذكاء وإعمال الفكر من القاضي الكيّس والمحامي الكيّس والمتهم الكيّس.

وكانت معرضا حافلا للأدب القضائي، حيث تم الاستشهاد بمرافعات لكبار رجال القانون في مصر مثل أحمد لطفي السيد وغيره. وكانت مرافعاتهم حافلة بسمات الأدب القضائي، خصوصا ظاهرة الحجاج التي أشار إليها أرسطو في كتابه عن الخطابة، بل إن أرسطو جعل من الحجاج الركيزة الأساسية في فن الخطابة، ذلك الفن الذي يجعل من الإقناع والتأثير في المتلقي هدفا محوريا له.

كما حفلت هذه السيرة الذاتية للمستشار بهاء المري بأنماط مختلفة من فن الكتابة الأدبية، فرأينا نماذج من شعره ونماذج من قصصه القصيرة، وإشارات لرواياته وإشارات لتصانيفه المختلفة والكثيرة في الأدب القضائي.

ويدهش القارئ حقا من هذا الجهد الفائق الذي تم بذله من أجل التكريس للأدب القضائي كي يأخذ مكانته اللائقة به في الإبداع العربي المعاصر.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي