تفكّك الصهيونية

2023-11-22

جانب من تظاهرة للمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 في رين شمال غرب فرنسا (أ ف ب)

إسماعيل أزيات

الآن، وفي خِضمّ التحوّل الجذري والتاريخي الذي يجري على أرض فلسطين، والذي تطال آثاره الوجدانية والفكرية قبل السياسية والعسكرية، الكُرة الأرضية برمّتها، يُمكن القول إنّ فلسطين عادت، أرضاً وشعباً ورمزاً للتحرّر، لتُخلخل الأنساق الأيديولوجية للهيمنة والتحكّم، ولتُمزّق الأقنعة المتوحّشة المتخفّية خلف بريق السّلطة والإكراه. ولعلّ ما أراه قائماً، في هذه اللحظة الحاسمة، هو تعرُّض الصهيونية كمؤسسة سياسية وكبنية فكرية أيديولوجية وكقوّة عسكرية إلى ضربة شديدة بدأت تُفكِّك روابطها الميثولوجية، ووثائقها الدينية، وأساليبها في التفكير وفي العمل.

من الصّحيح تماماً أنّ مؤرّخين ومثقّفين وباحثين، عرباً وغير عرب، من أمثال روجيه غارودي وعبد الوهاب المسيري ووليد الخالدي وكمال الصليبي وآخرين، شرّحوا الأيديولوجية الصهيونية وقاموا بتفكيكها، تاريخاً وبنية، وقدّموا في هذا المضمار عملاً كبير الإفادة، عظيم المنفعة، لكنّ بداية تفكُّك الصهيونية، بما هي جزءٌ من صميم آلة الاستعمار القائمة على فكرة احتلال الأرض، وتطبيق مشروع الاستيطان بالبنادق والمجازر، انتظرت مطرقة المقاومة الفلسطينية، يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول  الماضي، بعد تراكم ضخم من الخبرات متعدّدة المرجعيات النضالية، وتراكم هائل من الشهداء، لتشرع في خلخلة بنائها على الأرض، وما نراه الآن عياناً أُولى وأقسى هذه الضربات.

إذا كانت الثقافة والفكر والإبداع الأدبي والفنون قد ضخّت الحياة المُتجدّدة في فكرة الحرّية لفلسطين وجعلوها عصيّة على السياسة وعلى الموت، وأظهرت الوجه البشع الفظيع للصهيونية، فإنّ ما تعرضه وسائل التواصل الاجتماعي، اليوم، من صور لبشاعة قتل المدنيّين الأبرياء في فلسطين لهُو الوجه الآخر من بداية تفكُّك الصهيونية على صعيد العالم بأسره، فليس خروج المتظاهرين إلى الشوارع وبأعداد كبيرة في جهات الأرض إلّا تجسيداً لبداية انقلاب الصورة: فلسطين كحرّية والصهيونية كجريمة.

ولمّا كانت الكلمة الملتزمة، كجزء من مهامّ الثقافة التقدّمية، قد لعبت دورها الطليعي في التنوير والتحريض، فإنّ الصورة اليوم استحوذت على هذه الوظيفة الحيوية، وأضحت خطاباً قويّاً مؤثّراً في مقدوره أن يُوجز عشرات من الأفكار والتداعيات والعبارات في لقطة واحدة، بل تواريخ وأزمنة في مشهد مُفرد. وما يتناسل الآن من صور لبشاعة قتل المدنيّين، أطفالاً ونساء ورجالاً أبرياء، يحفر في الوجدان الإنساني اقتران الصهيونية بالجريمة التي لا وصف لها، ويُحيي ذاكرة الاستعمار والإبادة، ويُنعش، من خلال ذلك، كلّ الماضي والحاضر الأسودَين لأميركا وأوروبا.

المثقف اليوم، بل لنقُلْ أي شخص متنوّر مهموم بمُعذّبي الأرض، في ظلّ انحسار الأحزاب المحافظة والتقدّمية، وفي ظلّ استشراس الدولة، صار متمترساً خلف جدار ما، في فيسبوك أو في غيره، يلصق عليه نصوصه وبياناته وصوره ويومياته. تأثيره إذاً رهْنٌ بهذه الوسيلة التواصلية. صحيح أنّ كثيراً من "الجهلة البُكم الجُدد" صار لهم "لسان"، لكن الزّبد يذهب ويبقى النّافع، وهذا النّافع، في مشاهد بطولته في فلسطين كما في مشاهد تراجيديته، ورغم كلّ الرّقابة، يوجِد ويَخلق -في البرهة الحالية- مزاجاً جديداً بفضل هؤلاء "النّاطقين الجُدد" الذين صاروا، بإدراكهم أو بغير إدراكهم، يساهمون في تفكّك الصهيونية، وتفسُّخ نسيجها الأيديولوجي على صعيد الوعي.

بعد أن أنجز المؤرّخ الحامل للقلم مهمّة تفكيك الصهيونية في الكتاب، أتى الآن دور المقاوم الحامل للسّلاح، والمناصر الباثّ للصورة ليفكّكاها على الأرض وفي الميدان.

كاتب ومترجم من المغرب







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي