فلسطين بصيغة المتكلم… أرض الرباط وملتقى الحضارات

2023-11-21

الحسام محيي الدين

قبل «الطوفان» كانت فلسطين تروى بصيغة الغائب. خمس وسبعون عاماً من النضال بالمال والنفس، كانت فيها الخيبات أضعاف الانتصارات، وها هي بعد الطوفان تطلّ بصيغة المتكلم، العاقد العزم في مواجهة الأوباش والأخلاط من سفلة صهاينة أهل الأرض الذين خرّبوها لاجئين ومستوطنين تشويهاً وإفساداً لذلك الفضاء الكوزموبوليتي المتنوع المتعامد مع الحضارة الإنسانية منذُ القِدَم.

وما بين الأمس القريب واليوم لم تكن فلسطين قبلةً للرباط فحسب، حيث لنا أن نفتح نوافذ الذاكرة الثقافية لنطل منها على صفاء الساحل الفكري الممتد تحت شمس سماء هذه البقعة المباركة لنقول أنها كانت فاتحة الثقافة لبلاد الشام في التاريخ الحديث وهي تصنع إبداعات الثقاة من أعلامها بين العلوم والآداب، فكراً وممارسة، بين منتصف القرن التاسع عشر وامتداداً لمئة عام لاحقة حتى اتصلت بقرارالتقسيم المشؤوم، ثم إعلان الدولة اليهودية عامي 1947 و1948 بدعم واعتراف الأمريكي والروسي بعد دقائق فقط وعلى حد سواء، وحيث بدأ اليهود المحتلون عملية سلب وانتزاع دولة قائمة بذاتها مكتملة المؤسسات والتنظيم والإدارة من الوثائق العقارية والتجارية والمالية وسندات التملك، إلى الهيئات القضائية والدستورية والأمنية والسياسية العامة، التي تؤكد الهوية العربية لهذه الأرض، عطفاً على كينونتها التاريخية مهداً للديانات وأرضاً للجهاد منذ فجر التاريخ. نقول، كيلا تبقى فلسطين ساحةً للدماء والدمار والقتل، كما يصورها هذا العالم الماكر من حولنا واقعاً وافتراضاً على الفضاء الرقمي، فإننا يجب أن نجدد خريطة انتمائها إلى واجهة الحضارة العربية التي من المتاح اليوم وقد أصبح العالم قرية صغيرة أن نعيد تصديرها للعالم بألوانه التي يحب ولغته التي يفهم، ولا نخاف ولا نخجل أن تكون فلسطين درة تاجها، لا تفصيلاً إنسانياً صغيراً في متاع الأنظمة التي تتحكم بهذه الأمة، والتي بنت جيوشاً ها قد تأكدنا اليوم، وبما لا يحتمل الشك، أن مهمتها هي «برستيج» دعائي لتلميع صورتها، وللدفاع عن كراسيها وعروشها، مما تحول بالفطرة إلى أحاديث ونكات الشارع العربي، لكن رغم كل ذلك يمكن لهذه الأنظمة ومنظوماتها الثقافية الرسمية أن تحفظ ماء وجهها أخلاقياً وإعلاميا/ إعلانياً بإطلاق جيوشها الإلكترونية لتثوير الرأي العالمي لصالح هذه القضية العربية والإسلامية وهذا متاح مادياً بلا عوائق قياساً على بعض المقابلات التي أجراها ويجريها بعض زعماء العرب على شاشات التلفزيون العالمية مقابل مئات ملايين الدولارات لتوكيد حضورهم وظناً منهم أنهم يتقدمون بذلك إلى الصف الأمامي من بين صناع القرار في العالم.

في كل حال، وفي مثل هذا التوجه لا بد من أن نعيد توجيه بوصلة اهتمامات مجتمعاتنا وهذا الجيل الشاب ومن بعده في اتجاه المواجهة الثقافية حتى يكونوا ورثة شرعيين لهذه الأرض المباركة، لا لقطاء على أبواب الأمم، مع التنبه إلى أن فقدان التعلق القومي أو العقدي بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ستبدأ نتائجه الخطيرة بالظهور مع الجيل القادم وما بعده، نعني إهمال القضية الفلسطينية ونسيانها ثم ذوبانها في أتون الهموم الاجتماعية والمعيشية وحتى الأمنية للمواطن العربي، في ظل الأنظمة التي يمكن الجزم بأنها انخرطت جميعها في عصر التطبيع واتفاقيات ما يسمى بالسلام التي أكدت هذه المعركة اليوم، أنها حبر على ورق الاستسلام. نقول، لطالما عاش الفلسطينيون معارك وانتصارات وعروجاً دائماً على بساط الشهادة إلى السماء، لكنهم أيضاً أهل حرية وانفتاح ومحبة وسلام لمن أراد، وعناوين فكر وأدب وفنون، جعلت أرض الأقصى بيت سِرّ الحواضر الثقافية بالحَدْس الفطري المجرّد الذي يمزج الأصالة بالحداثة في كلّ منظومةٍ معرفية، عربيةٍ تحديداً، تحلق بجناحي النضال والمعرفة.

إنها فلسطين، النور في مواجهة العتمة، عقد ماسٍ على جيد الأمة، بلد القضية الجميلة والشرسة معاً، والكوفية العربية الحقيقية في مقاومات القاوقجي والقسام وسعيد العاص ومحمد الأشمر والحسيني وأبو غريبة وأحمد ياسين والرنتيسي والبرغوتي وسعدات وأبو شرار والشوبكي، وليس انتهاءً بكوزو أوكاموتو أو أحمد الياباني ورفاقه، ونضالات النساء الوطنيات الجميلات منذ أسماء طوبي وحلوة جقمان وسميرة وشادية أبو غزالة وسميرة عزام وسميحة خليل وطرب عبد الهادي وسلافة جاد الله وفاطمة البديري وكريمة عبود ولواحظ عبد الهادي ومهيبة خورشيد ومها أبو دية ومريم بواردي وهند الحسيني ويسرى البربري وساذج نصار وليلى خالد ورضوى عاشور، إلى الفدائيات الجميلات الخالدات دلال المغربي وربيحة ذياب وزليخة الشهابي وزكية شموط، حتى متون الكرامة في روائع محمود درويش وسميح القاسم والمناصرة وبسيسو وزيادة ودحبور والأخوة طوقان وكمال ناصر وتوفيق زياد وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وخليل بيدس وحسن الكرمي وغسان كنفاني وناجي العلي ونجيب نصار وإلياس الأيوبي شارل عيساوي وعصام النمر عالم الفضاء الشهير، ثم واحة أفكار محمد دروزة والنشاسيبي وإدوار سعيد أبو النقد الحضاري وآخرين من يساريين وعلمانيين ومسلمين وضعتهم عقائدهم في مختلف المواقع الثقافية والفكرية في المنطقة والعالم. فلسطين، أنجبت رواد السينما والمسرح والموسيقى، إبراهيم وبدر لاما وجبرائيل وميشال تلحمي، وكمال قعوار وإدمون تويما وحليم الرومي والد ماجدة الرومي ورياض العريان وولده طارق العريان، عبد الحميد شومان وآخرين. لقد كان كل هؤلاء مشاريع استشهاد لأجل فلسطين، أي لأجل الأمة كلها، من جذور الأبُوّة إلى أغصان البُنوّة، فمنهم من استشهد حقاً ومنهم من مات على نية النضال وفي يده شعلة التنوير لأجيال لاحقة.

وفلسطين بيت الحضارات من بيزنطة إلى عمارة الأمويين والمساجد والكنائس والحمامات والساحات والحدائق والفنادق والأسواق، والتراث الذي ما زالت دولة العنصرية اليهودية تحاول تدميره كيفما كان، المادي منه والفكري، في التنقيب وطمس الآثار وتشويه التاريخ والوثائق والمستندات وتحويل كل ذلك إلى سرديات مزيفة جديدة كان لا بد من «طوفان» لجرفها حتى تغتسل نفوس العرب من درن الانكسار والجبن، وكي يظل كابوس التهجير ماثل الرؤى أمام المحتلين الذين قدموا من أصقاع الأرض غاصبين وقد «تسربوا كالنمل من عيوبنا» كما يقول نزار قباني. فلسطين، سِفْرِ الفاعليات الحضارية المتقدِّمة، من الفكر إلى الفلسفة والاجتماع إلى السياسة التي لم تمر عليها يوماً المنظومات العسكرية الشمولية الانقلابية وحتى اليوم، ما أمدها بمداد الحُرِّية في القول والفعل النضالي لعقودٍ طويلة، إذ تُمارس ديمقراطية من نوع خاص، مغاير آخر، قياساً على روح الإباء والكرامة، فلا شيء فيها اسمهُ رئيسٌ إلى الأبد، ولا سلطانَ مُعظّم في ذاكرتها ولا شيخ ولا أمير ولا مَلِك مُفدّى، بل تداول لسلطة الشهداء وهم يقدمون براءة اختراع شرعية لفقه المقاومات في تاريخ العرب. أبطالك قليلون في الواجهة والمواجهة يا فلسطين لكن «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة» وهم لا يمكنهم إلا أن يكونوا كذلك لأنهم عاشوا هكذا، ببساطة، بالفطرة، بالتربية، بالأخلاق، ولأنهم كشفوا عراء العالم وعُريه، ومبادئه الصفراء التي لم تهدم حجراً من مستوطنة، فدعينا يا أمنا الطيبة نفرح قليلا، قليلا جدا، رغم كل شيء، لأجل من ماتوا شهداء، كي لا يصبحوا أرقاماً فقط في بازارات السياسة، ولا نخون الفكرة السوية في محاربة الظالم والمحتل والمعتدي أياً كان وأينما كان، ببطولات تثير الدهشة وتكرس الأمل وتجعلُ الموت شيئاً جميلا على آخر مكان للنضال في العالم.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي