"القبلة الأبدية" لفوزي ذبيان.. إفراط في الواقع

2023-09-12

عباس بيضون

نقرأ رواية "القبلة الأبدية" الصادرة عن "دار الجمل"، للكاتب اللبناني فوزي ذبيان، ولا نجد سبباً لاستدعائها، ولو من بعيد، للرواية التي سبقتها "بيروت من تحت"، سوى أنّ الروايتين اللتين تفترقان في عالمَيهما وموضوعيهما وأبعادهما، تُعالجان هامشاً، لا تبعده غرابة مبالغة في أحيان، عن أن يُكنّي من قريب عن دائرة أوسع، تقرب من أن تكون، في جانب وأكثر، مجتمعاً كاملاً.

 الروايتان معاً ذواتا مبنى كاريكاتيري، لا يغيب عن أنه اختُرع، ليكون في موازاة راهن أكثر جدّية، يطلّ عليه مقطعاً إثر مقطع، وتفصيلاً مقابل تفصيل، وكلاماً، في موضعه، يسمع في محلّ آخر بنبر ثان وإشارة أُخرى. في الحالَين تبدو الحكاية مُعادلاً بل واستعارة، إن لم نقل ذريعة، للتأليف من وعلى مقابل اجتماعي وسياسي وثقافي. الهزل الذي يتركّب فوق الحكاية وللمبالغة الساخرة، واللعب المسرحي والدونكيشوتية التي تطبع حراك الأشخاص ومزاعمهم ومخيّلاتهم، كلّ ذلك لا يحدث بدون أن يكون أمامه دائماً، ما يبدو تغريباً له ولعباً به وبناء عليه.

لا نبتعد في رواية فوزي ذبيان كثيراً. من اللحظة الأُولى نحن في مصحٍّ عقلي. لن نضيع في متاهة الأمراض العقلية، فالمصحّ تمثيل لما يقع خارجه، وبناء فانتازي عليه. من هنا يكتفي حسين بطل الرواية، بالقول إنه مجنون وإن صُحبته مجانين ولو أن بعضهم ينكر ذلك. نحن إذاً بين مجانين، هذا وحده يكفي لنبدأ الرواية من دون أن نتوقّف كثيراً عند جنون هؤلاء، فهذا الجنون قد لا يكون سوى استعارة بحتة. قد لا يكون سوى تغريب لواقع، ويخرج أساساً من غرابته ومفارقاته وعجيبه. قد لا يكون سوى واقع مُقابل، سوى الذهاب بعيداً فيه إلى حدّ الهزل، والبناء من مبالغاته وشطحه وكاريكاتيراته. قد لا يكون سوى ديكوره ومسرحه. إنه الجنون، نحن نحتاج إلى هذا الاسم لنسمّي به هؤلاء الذين يمضون وقتهم في معركة متخيّلة مع "الدواعش". معركة متخيّلة لأنّهم مجانين، متخيّلة لهذا السبب لكنّها في تردادها على طول الرواية، تكاد تكون واقعاً لهم، أو على الأقل عنواناً لجنونهم.

هم لا يشكّكون في المعركة، ولا نجد في الرواية أي افتضاح أو انكشاف لِجُنونية هذه المعركة. نحن هنا أمام دونكيشوتية خالصة. المعركة هي كذلك، لكنّها ليست تماماً هكذا. المعركة مع "دواعش" في أرجاء المصحّ، هي استرجاع متّصل لمعارك خاضها الجميع، حين كانوا يقاتلون في سورية. نحن هكذا أمام مقاتلين فيما لا تتوقّف الرواية عن تسمية "الحزب". الحزب الذي ليس، بالنسبة لمقاتليه القدامى، سوى الحزب، يكفي لذلك اسماً له. معارك المصحّ ليست هذياناً إذاً، إنها تخييلٌ لا ينفصل عن الواقع، بل تخييل لواقع. إذا كان هناك جنون فهو في المعركة نفسها، في الواقع ذاته. هذه المعارك هي جنون هؤلاء، واسترجاعهم المستمرّ لها هو جنونهم أيضاً.

 الروائي، بالطريقة نفسها التي يقرّر بها الجنون يقرّر الحزب والضاحية ومعارك سورية، أي أنه لكلّ ما يسرده، يجدُ مرجعاً في الحاضر والتاريخ القريب، هكذا يُمكن للقارئ أن يبقى طوال الوقت مُعلّقاً بين الراهن القريب وتخييله، يبقى بين الاثنين، وتترُكه الرواية هناك. يمكنُنا إذاً القول إننا هكذا أمام مبنى الرواية، أمام شكلها وقوامها إذا جاز الأمر. هذا الجنون، الذي لا يخرج على الدوام عن كونه تذكُّراً واسترجاعاً لوعي سابق، لا يمكن أن نعتبره جنوناً فحسب، إلا إذا كان الجنون وحده حيلة قصصية. إنه، قبل كلّ شيء، شكلٌ فحسب، بل نوع أدبي.

الجنون هكذا إفراط في الواقع، بل ونفادٌ منه إلى حدّ يبدو معه وقد انقلب على نفسه، وغدا لعباً بها، وأخرج لها صورة هذيانية مقابلة. صورةُ هزل محبوك في مبنىً كامل من الوقائع التي تعرّت من خطابها وعناوينها، وصارت لها حركية بلا معنى تُشبه الجنون. يُمكننا أن نفهم أن هذه وسيلة في نقد الواقع. أن هذا الهزل عامر بالفحوى السياسية، وأنّه ثمة وراء الجنون وعياً يزداد وضوحاً مع تقدم النص. إنّه وعي لا يبقى معه من الخطابات والعناوين، سوى ما تتركه من فراغ، سوى ما يغدو لعباً وديكوراً فحسب، أو مجرد كاريكاتير.

شاعر وروائي من لبنان








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي